حاوره
علاء المفرجي
الطفولة والنشأة ، كيف تقاطعت مع مصادرك ومراجعك ، لتجعلك ميّالاً للكلمة وتحديداً للشعر ، أرجو أن تحدّثنا بإسهاب عن طفولتك وعن المكان ..؟
**- الطفولة والنشأة ريفيّة التكوين ، هناك على الضفة اليمنى من نهر ( الهدّام ) في ريف العمارة / الميمونة . وقبل عام 1958 – إذ أنّي مواليد 1952 – بقليل أدركت ُووعيت ُ ما يحصل في القرية ( قرية العدلَه ) . وعيت ُ على طبيعة حياة الفلاحين وعذاباتهم واضطهادم من قبل الإقطاع الذي لم يترك لهم من محاصيل الرز إلّا النزر القليل . كنت ُ أرى الحسرات في وجوههم وشقوق أكفّهم وتشقق دشاديشهم . كنت أرى بهجتهم حين يصطادون السمك والطيور ، وحين يبيعونها للمتعهدين كي يرمموا خساراتهم وعوز عوائلهم . أدركت ثورة 14 تموز المجيدة وأنا في الصف الأوّل الإبتدائي ، وما زالت ذاكرتي طريّة تحتقظ بألوان بهجتهم وهوساتهم – لقد ذهب َ الإقطاع إلى نهايته المنتظرة ، وعادت محاصيل الرز تملأ عيونهم ومحروزاتهم وفارت تنانيرهم باللهب الأزرق .
في القرية كان الغناء اسطوريّا ً ، حزنا ً أو فرحا ً، كانت الأهازيج وأشعار الدارمي والأبوذية تجري على الألسن ِ كالماء حين ينحدر إلى الأهوار، الكل يغنّي ويردد الشعر ويرقص ، رجالاً ونساء ً وصغاراً ، الكل يغني ويردد الشعر تعبيراً عن أحزان تراكمت على مر ِّ عقود من الزمن . كنت ُ أرى الأطفال حين يموتون غرقاً ، وكيف يدفنون في ( اليشن ) . كنت أنبهر بطقوس العزاء الحسيني وأنصت ُ للشعر الذي يردده القرّاء . كما هو انبهاري بترديدات الصبايا لأشعار مرتجلة أو محفوظة ، في الأعراس ، ومع أمهاتهن َّ في المآتم .
كل ُّ هذا شرخ وعيي وجعلني أقف ُ متحسرا ً ، منّصتاً لهذه المهرجانات القروية ، حافظا ً أشعارها وهوساتها ونعيها . وبعد دخولي المدرسة الابتدائية وبعد أن عرفت ُ الكتابة ،
وسمعت الأناشيد التموزية ، داهمني ما ينده المتراكم في خزين ذاكرة الطفولة لأن أخربش دفاتر المدرسة بنظم أشعار لا رابط لها .. ، وقد قادني هذا الرابط لأن أصحو لاحقاً على ما أسميته ُ شعرا ً .
عرفناك َ شاعرا ً ، لكنّك مهندس وإداري ناجح ، كيف لك َ إن وفّقت َ بين اختصاصك العلمي وبين الشعر الذي أتقنته ُ حدّ الإبداع فيه ؟
**- الشعر يتطلّب الدّقة اللغوية والفنيّة والاشتراطات الجمالية والحس النقدي الذاتي والإنصات لمنجزات الآخرين المبدعين ، هكذا أدركت ُ التذوّق الشعري مبكرا ً . والتخصص العلمي هو الآخر يتطلب الدّقة النظرية والتطبيقية . وبما أنّي متداخل مع الإثنين ، فقد سعيت ُ لأن أُواشج بين المعرفتين على السواء . ثمَّ أن َّ الشعر هندسة ، أليست العروض هندسة شعرية ؟ .. كما أن َّ الإدارة هي الأخرى فن التنظيم كما في العلم والشعر . هكذا سعيت وهكذا حاولت . وربما لامست ُ بعض نجاح كما أشرت َ في تلافيف سؤالك مشكورا ً .
أنت َ من الشعراء السبعينيين الذي كتب عن الشعر العامي ، أمثال : عزيز السماوي ، أبو سرحان ، طارق ياسين ، عريان السيد خلف ، كاظم اسماعيل الكَاطع ، رياض النعماني ، وآخرين ، عذرا ً لعدم ذكر أسمائهم . لكن َّ انطباع الناس عن الشعر العامي كان مخيّبا ً بسبب ما فعله البعض من الشعراء في تمجيد حروب الطاغية . كيف كان لكَ أن تصمد بوجه هذه الموجة ؟
**-نعم ، كتبت ُ عن هؤلاء الشعراء – كل ٍّ بحدود لونه وتجربته – مقالات وقراءات فنيّة ، إلا أن المهم ، هو ما أصدرت ُ من كتب : الحاج زاير- رنين الوتر الفراتي ، بستان الرازقي – مظفر النواب الأسرار القصية في الشعر الشعبي العراقي ، تقاسيم العشكَ والجرح – شاكر السماوي جماليات التجديد في الشعر الشعبي العراقي ، أبو سرحان – كرستال القصيدة الشعبية العراقية الحديثة ، مناجل أور الفضيّة – كاظم الركابي خصوصية في الشعر الشعبي العراقي الحديث . أما انطباع الناس وخيبتهم مما فعله البعض من الشعراء في تمجيد حروب الطاغية ، فلا يصح أن يكون معياراً تقييميا ً عاما ً يُطبّق على كل الشعراء وكل الشعر الشعبي العراق الحديث ؛ وإنما الخيبة كامنة في هذا البعض وشعره . أما الشعراء المثقفون ونماذجهم العالية ، فقد نأوا بأنفسهم عن هذا الانحدار ، وتمترسوا بقناعاتهم الأرقى . أما كيف صمدت ُ بوجه الموجة التي أشرت َ إليها ، فأنا قبل بداية الحرب العراقية – الإيرانية كنت قد خرجت ُ للتو من السجن إذ كنت ُ محكوما ً بعد انهيار ( الجبهة ) لأسباب سياسية معروفة ، وقد تمترست ُ بقناعاتي كما تمترس الآخرون الذين أشرت ُ إليهم .
ترى أن َّ الحداثة بالشعر العامي لم تخرج يوما ً عن مظفر النواب ، ماالذي تقوله في ذلك ؟ وقلت َ مرّة ً ” فمظفر صاحب الكشف الأوّل الذي مهّد َّ لنا الكتابة الحديثة ” .. وما الدور الذي يلعبه النواب في الشعر والثقافة العراقية ؟
**-نعم ، مظفر النواب هو صاحب الكشف الأوّل الذي مهّد َ لنا الكتابة الحديثة في الشعر الشعبي العراقي ، كما فعل / السياب ونازك الملائكة والبياتي وبلند الحيدري / في تجديد وتحديث الشعر العربي ، ولا يخفى أن َّ تجديد وتحديث النواب جاء بعد تجديدهم وتحديثهم ، نتيجة لقوّة انتباهه وإنصاته الذكي للتحوّلات التي أحدثوها . أما أن َّ الحداثة بالشعر العامي لم تخرج يوما ً عن مظفر النواب ، فهذا القول بهكذا اطلاق غير صحيح ، فبعد التجربة النوابية جاءت تجارب تجديدية وتحديثية معروفة لشعراء مثقفين موهوبين ذوي تحصيل أكاديمي ومعرفي ، أضافت الكثير على ما جاء به النواب وبطرائق مغايرة وموازية فنيّاً وإبداعيّا ً .
أما الدور الذي يلعبه أو لعبه النواب في الشعر والثقافة العراقية ، فهو دور المجدد والمحدّث في الشعر الشعبي العراقي ، وصاحب لون شعري بالفصحى ارتبط بخصوصية نادرة كامنة في ذاته وممكناته الفنية والجمالية . من هنا كان النواب صوتاً شعرياً بلونين مغايرين للسائد ، وحين نُضيف وعيه ُ وتجربته الثقافية والنضالية ومواقفه السياسية لشعره ، فإنه في المركز من دائرة الثقافة العراقية .
هل لك َ أن تدلّنا على مسارات التحديث في الشعر الشعبي ؟
ج : كانت القصيدة الشعبية العراقية بسيطة ، تراوح في نموذجها وشكلها النمطيين حتى عام 1956 وهو العام الذي كتب َ فيه الشاعر الكبير / مظفر النواب / قصيدته / للريل وحمد / .. وكانت القصيدة التجديدية الأولى في الشعر الشعبي العراقي رغم بنائها العمودي ، إلا أنها توافرت على بناء شعري محكم وإيحاء رمزي وتشكيلات صوريّة غير مسبوقة ، كما أن َّ اكتشاف الطاقة الحسيّة الكامنة في المفردات الشعبية من ميزاتها الأخرى . ثم تبعها بقصائد أخرى تجديدية وتحديثية ظهرت في مجموعته الرائدة / للريل وحمد/ .. ، من هنا كان النواب قد شكّل المسار التحديثي الأوّل ، وقد أثّر هذا المسارفي الشعر الشعبي العراقي منذ ُ الستينيات ، وحاول تقليده الكثير من الشعراء ، ولم يصلوا إلى ما وصل إليه ، كون شعره كان يقوم على ثقافة وتجربة وموهبة ومعرفة بسريّة اللهجة .
في منتصف الستينيات ، حصلت موجة تجديدة على أيدي شعراء مثقفين موهوبين ، أدركوا أهمية الخصوصية والتخلّص من تأثيرات النواب ، ومن أبرزهم : شاكر السماوي ، كريم محمد ، طارق ياسين ، عزيز السماوي ، علي الشباني ، أبو سرحان . وهكذا توافر الشعر الشعبي على نماذج تتشاغل بما هو فكري وفلسفي بعيدا ً عن اللون النّوابي ذي السمات الرومانسية الحسيّة . ويمكن اعتبار تجاربهم موجة تجديدية ثانية لا حقة لتجربة النّواب الريادية . ثم تبع هذه الموجة شعراء شباب – في حينه طبعا ً – برزت تجاربهم في السبعينيات ، وشكّلوا الموجة النوعية الثالثة ، بعد أن تمعّنوا بأساليب ما قبلهم ، واكتسبوا خصوصياتهم وحدود تجاربهم وألوانهم ، وفي الكم الإحصائي فإنهم لا يتجاوزون العشرين . وما بعد هذه التجارب الثلاث لا يوجد مايُشير فنيّا ً وإبداعيا ً إلى موجة نوعية أخرى سوى محاولات شعرية محدودة تراوح بين القديم التقليدي وهوامش التجديد .
بعض أبناء جيلك من الشعراء وأنت منهم ، كان يكتب الشعر العامي إلى جانب الفصيح ، بل البعض غادر العامي إلى الفصيح ، لكن مَن يقرأ لك َ يراك َ تكتب بالنوعين .. بالنسبة لك َ أين تجد اللحظة الشعرية نوعها التعبيري ، العامي أم الفصيح في كتابة الشعر ؟
**- اللحظة الشعرية تجد نوعها خارج محددات اللغة واللهجة ، فليس كل ما يُكتب باللغة يمتلك اللحظة الشعرية التي تأتي بفكرة الشعر ليكون فنّا ً ، وكذلك ليس كل ما يُكتب باللهجة . الشعر كفن إبداعي ما هو إلّا نداء داخلي يخرج ممسرحا ً : لغة ً، لهجة ً ، بناء ً ، صورة ً ، رمزا ً ، موضوعا ً . وفي كلا الحالين لابد َّ من معرفة عالية بأسرار اللغة أو اللهجة ، ومدى طواعية كل ٍّ منهما للشاعرية والشعرية . اللغة أو اللهجة رداء ، وما تحت الرداء هو النبض الحسّي الذي يأتي برجفة الشعر إن اكتملت دقّاته . أنا مع الشعر حينما يكون هكذا .
أراك َ تُفرّق كثيرا ً بين الشعر العامي والشعر الشعبي ، ماهي أوجه التمايز بين الإثنين ؟
**-العامّة ، في المعنى اللغوي ، هي الأغلبية غير المتعلّمة ، من هنا ، من غير الممكن أن نقول عن الشعرالمكتوب باللهجة والذي يكتبه الآن متعلمون وأصحاب تحصيل أكاديمي ، علمي وأدبي ، وكذلك يتلقاه شعب تجاوز الأميّة ، بأنه ُ شعر عامّي . وحتى في البلدان العربية يطلقون توصيف / شعر باللغة المحكية / .. ، ومثل هذا التوصيف يكون أكثر قبولا ً . لقد تمدّين الريف كثيراً بعد أن زحفت إليه المدينة أو زحف هو الآخر إلى المدينة ، وانقرضت المفردات العاميّة الموغلة بالقِدَم ، وتفصّحت الكثير من المفردات أيضا ً . وأصبحت اللهجة واضحة لإبن المدينة ، إذن من غير المناسب معرفياً وحضارياً أن نُسمي الشعر المكتوب باللهجة شعراً عاميّا ً .
إن َّ اللهجة الجديدة مشتبكة الآن بأعصاب وأحاسيس الشعب بكل طبقاته الاجتماعية ، في حديث الشارع والسوق والمقهى والبيت ، في الغناء والمسرح والسينما .. إلخ . فلماذا حين يُكتب الشعر بهذه اللهجة لا نقول عنه بأنه شعر شعبي ، بعد أن أصبحت اللهجة شعبية التداول . وأُضيف ، استدلالا ًبما تقدّم ، هل يصح أن نقول التراث العامّي ، أم التراث الشعبي ..؟ .
قد لا أُبالغ إن قلت ُ أنك َ حين تكتب النقد ، فإنك َ تكتبه ُ باندفاعة ناقد ٍ واع ٍ لأدواته ، واثق ٍ من ذائقية في التقييم ، وخاصة نقد الشعر ، وأنت َ الشاعر .. فهل تكتب النقد بروحية الشاعر ؟ وما طبيعة النّص الذي يُحرّض الناقد فيك ؟
**-توصيفي بالناقد ، كثيرجدا ً على مدركاتي المعرفية في هذا المجال الإبداعي الواسع ، أنا أكتب محاولات في تذوّق الفنون الإبداعية ، قد لا تخلو من ملامسات نقدية . وأميل جداً إلى تكوين انطباعات عنها ، وأرى أن َّ أيّة َ كتابة في النقد ، لا بد َّ أن تأتي بانطباع عام أو خاص مهما كان المنهج المُتّبَع ، وبدون هذا الانطباع لا يصح التقييم . أما في الشعر ، فليَّ حدود تجربة ولون وإدراك ذوقي وتذوّقي ، وطبيعي أن تكون محاولاتي في الكتابة الموصوفة بالنقد على حد ِّ قولك انعكاساً وتطبيقا ً لهذه الحدود و هذا الإدراك . ويبقى النّص الذي يحمل تجربة وتكوينات فنية / جمالية وبراعات لغوية وصوريّة وبناء ً متكاملا ً إضافة إلى طبيعة وجدّة موضوعه ، هو المحرّض الأوّل للكتابة .
يعتبرك البعض من أكثر المساهمين في توثيق تجربة الشعر العامي أو الشعبي وأيضا ً شعرائه . لماذا هذا البحث المستمر عن أصول الشعر العامي ؟
**-نعم ، كتبت مقالات عدّة عن بعض الشعراء والشاعرات من الأقدمين والمعاصرين ، وأصدرت ُ كُتباً – كما أوضحت ُ في سياق إجابة ِ سؤال سابق – عن تجارب الشعراء المجددين ، من أجل كشف وتوثيق تلك التجارب ، وبيان أهميتها في تجديد وتطوير الشعر الشعبي لتكون مرجعا ً للأجيال المعاصرة والقادمة كما أفترض ، إذ يُعاني الشعر من قلّة الدراسات . وإن َّ ما أسميتَه ُ ( البحث عن أصول الشعر العامي ) وأُضيف تأصيله هو الهاجس الذي يشغلني في هكذا مجال .
هل ترى في نجاح الأغنية السبعينية ، كان في وجود شعراء كبار أو قل نصوصاً مهمّة رفعت كثيرا ً من حظوظ هذه الأغنية في الانتشار ؟
**-قبل السبعينيات ، كان شعر الأغاني العراقية يعتمد أبياتا ً من الدارمي لا ترابط بين تسلسلها في الأغنية أو أغاني تُكتب بعجالة في مقهى أو بار ، وهكذا تبدو تلك الأغاني ( تجميعيّة الشعر ) لا موضوع واضح تقوم عليه . وما حصل في السبعينيات من تطوّر كبير في الأغنية يعود بالأساس إلى ظهور ملحنين مثقفين اعتمدوا القصيدة الشعبية الجديدة لشعراء مهمّين ، ولم تُكتب تلك القصائد من أجل أن تُغنّى إذ كانت معظمها قصائد منشورة في دواوين ، كما أن َّ اللحنية العراقية الجديدة التي اعتمدت القصائد الطويلة نسبيا ً والمقدمات الموسيقية وتعدد المقامات ، كل ذلك أوجد أغنية مكتملة جديدة على الذائقة والإنصات ، مما ساعد على انتشارها عراقيا ً وعربيا ً .
لم يتناولك النقد بشكل يُليق بإنجازك على مدى أربعين عاما ً . هل الخلل في الحركة النقدية أو في مَن يُمارس ذلك النقد ؟
**-عندما نكتب ، يفترض أن نطرح ما نكتبه ُ للقراءة كهدف أساس ، لا من أجل الكتابة عنه ُ من قبل الآخر سواء كان ناقداً أو متذوقا ً . وقد أصدرت ُ ( 27 ) كتابا ً في الشعر بنوعيه وكذلك في الدراسات والقراءات . ولا يشغلني موضوع الكتابة عنها بالقدر الذي أطمح فيه أن تكون طيّعة للقراءة والتداول .
إن َّ الحركة النقدية في العراق على الأعم محكومة بعوامل من خارج الإبداع مع الاستثناء المحدود ، ولا أُفضّل الاستطراد في هذا الموضوع . وهنا ، لابد َّ أن أُشير إلى بعض النقّاد والأدباء الذين كتبوا عن بعض ما أنجزت : د . سمير الخليل ، حميد حسن جعفر ، د . حسين سرمك حسن ، علوان السلمان ، ناجح المعموري ، د . جمال العتابي ، رياض النعماني ، سعد صاحب ، د . عبد الله راضي ، حسين الرفاعي ، خليل مزهر الغالبي ، داود سلمان الشويلي ، ستار زكم ، رياض المعموري ، خالد البابلي ، علي الاسكندري ، قاسم الموسوي ، وآخرين .
ما حكاية ( ما قيل في الغرفة 61 ) التي دوّنت فيها يومياتك ؟
**-هي غرفة التحقيق أو غرفة التوقيف أو غرفة السجن . والحديث يطول يا صديقي ….
ما السبب الذي يجعل الشعر العامي أو الشعبي بعيدا ً عن مجسّات النقد؟
**-ترفّعات واهية عليلة الصدق ، فالشعر الشعبي العراقي الحديث بشعرائه المثقفين وبنماذجه المتقدمة ، لا أتردد من القول فيه ، بأنّه ُ الجناح الأنشط في جسم طائر الشعر العراقي . ومن المفيد هنا أن أذكر رأي الشاعر / المفكّر أدونيس عن الشعر الشعبي ، إذ يقول : إن َّ شعر ميشال طرّاد الشعبي وأغاني فيروزالشعبية والرحابنه ، هو أهم انجاز شعري / صوتي في عصرنا الحديث .
هل ترى أنَّ المهرجانات القطرية الثلاثة 69 ، 70 ، 71 قد خلقت جيلا ً شعريا ً في العراق ؟
**-إن َّ الجيل الشعري موجود أساسا ً قبل سنوات من هذه المهرجانات ، لكن َّ تلك المهرجانات كانت الإعلان الصوتي الممسرح للجيل ، وقد أوقع هذا الإعلان الصوتي المدن َ التي أُقيمت فيها ، بحالة من السهر ولهيب الأكف غير مسبوقة ، إذ كان الشعر على الأعم في أعلى مستوياته من حيث الموضوعات والصياغات الفنية وكل جماليات واشتراطات الشعرية .
نعم ، كانت تلك المهرجانات مرابد َ وعكاظات ٍ جديدة ، أفرزت الأصوات الشعرية الحقيقية عن سواها ، وجعلت الشعراء يتحسّبوا أكثر من ذي قبل : ماذا وكيف وعم َّ يكتبون ؟؟؟
والأهم ، أن َّ شعر تلك المهرجانات أصبح المقياس المعياري لمن يُحاول أن يكتب شعرا ً شعبيا ً ، ومازال الصدى فاعلاً ، وها أنت َ تتذكرها يا صديقي .
سأذكر لكَ بعض شعراء وأطلب منك وبروح الناقد أن تتحدث عن كل منهم بسطر أوسطرين ؟ .. : جبار الغزي ، علي الشباني ، كاظم الركابي ، أبو سرحان ، رياض النعماني ، طارق ياسين ، كاظم اسماعيل الكَاطع ، عزيز السماوي ، حمزة الحلفي .
**- بسطر أو بسطرين ؟! ما أصعب الطلب ! وكم أحتاج من التركيز الذي يؤدي إلى الإنصاف ؟ ومع ذلك لن أتردد من القول :
جبار الغزي .. شاعر محدود الثقافة ، سرقته ُ الخمرة ، غادر كتابة القصيدة من أجل كتابة الأغنية – مصدر عيشه ، كتب بعض الأغاني المهمّة المستمرة في إشعال الحسيّة الغنائية ، ولا رصيد له ُ سوى شعر الأغاني .
علي الشباني .. شاعر كبير ، وريادة تجديدية في الشعر الشعبي العراقي الحديث .
كاظم الركابي .. شاعر مهم جدا ً، يمتلك خصوصية شعرية ، مناجله الفضيّة تكفي الحصاد .
أبو سرحان .. كرستال القصيدة الشعبية العراقية الحديثة .
رياض النعماني .. إمام الورد والرذاذ على جبين الغزالة ، شاعر مثقف يدرك فكرة الشعرومن أكثر المتفاعلين مع الحداثة ، وفيه العذوبة الشعرية الطيفيّة .
طارق ياسين .. ريادة تجديدية في الشعر الشعبي العراقي الحديث . شاعر كبير ، مثقف من طرازخاص .
كاظم اسماعيل الكَاطع .. شاعر له جمهور ( معروف ) .. راوح بين القديم والجديد . تجاربه العالية محدودة .
عزيز السماوي .. ريادة تجديدية في الشعر الشعبي العراقي الحديث ، شاعر كبير ، يمتلك خصوصية البناء الشعري ذي التبرعمات المتشعبة ، وكأنّه ُ يكتب قصائد َ داخل القصيدة الواحدة .
حمزة الحلفي .. شاعر ، يمكن أن يتقدّم أكثر لو اقترب َ من الحداثة ، وحين يغادر الخطابية والمهرجانية فإنّه سيتوافرعلى صوته الآخر .