رواية عيد ميلاد ميت.. الفصل الثانى

شارك مع أصدقائك

Loading

 

أحمد طايل

…محمد عيسوي مفتاح، الشهير ( بالبرنس).
..منذ أكثر من أربعين عاماً أو يزيد نزل إلى هذه القرية ، حاملا بضاعته من الأقمشة المتنوعة والتى كان يجوب بها القرى والعزب حاملا لها على ظهره، كان هذا بعضا من مشوار طويل من العمل مر به، تقارب مع الجميع بابتسامته التي لا تغادره مطلقاً ، بردوده البسيطة وبوده وتساهله كثيراً مع الجميع حتى اكتسب الثقة، كان يختار أي قرية. حسبما تقوده قدماه ، هذه القرية تحديداً وجد قدماه تقوده دوما إليها بكثير من الأيام ، الناس بها يقابلونه بحفاوة تامة، وهو اعتاد على التقارب معهم، والجلوس معهم بالحقول وعلى المصاطب وتناول الشاي أو أي مشروب، يتمازح ويتناقش معهم ويبدى الرأي أحيانا ببعض الامور، كان دوماً شديد الأناقة ، الملابس عنوان صاحبها، هكذا تعلم من ( الحاج مختار عويضة) وهو ظل أسيراً لهذه الجملة، دوما حريص على هندامه وعلى أناقته ، كثيراً ما يجلس بينه وبين نفسه يجتر ذكريات وأحداث ما يتذكره من أعوامه السبعين أو ما يزيد عنها، هو أنه من قرية ( الجفادون) مركز الفشن ، كان ابنا لأب فلاح يمتلك ما يقرب من خمسة أفدنة من الأرض، ولكنه رغم أنه ليس من كبار الملاك، ورغم أنه لا يجيد القراءة والكتابة إلا بالنذر اليسير نظراً لسنوات تعليمه القليلة التي مكنته فقط من القراءة والكتابة إلى حد ما، إلا أنه كان صاحب مكانة ومشورة بين الجميع، كان البيت لا يخلو إلا ساعات النوم القليلة، كان حكيماً حصيفا يتوسط الجلسات التي تعقد لحل مشكلات القرية وأهلها، مثل الفصل بين حدود الأراضي، أو مشاحنات الأولاد التي تصل أحياناً إلى التشابك والتلاسن، أو تدخل بنزاعات على ميراث أو خلافات زوجية، القرية كانت تحل مشكلاتها داخليا، لا تصعد المشاكل إلا التي لا يمكن حلها إلابالقضاء والقانون، قتل أو هتك عرض وما شابه، المصاطب التي كانت تحيط بالمنزل تمتلئ دوماً بالرجال يتسامرون ويحكون عن حكايات اليوم والأمس القريب والبعيد وحكايات من الزمن السحيق تناقلت بين الأجيال، كنت تراه يتقدم مشهد الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ممسكاً بإحدى الرايات ويتمايل يمينا ويساراً وذاهبا بعالم غير العالم، وبالمناسبات الدينية تجده أول المتواجدين، وبالأعياد يجلس أمام باب البيت وأمامه مائدة عليها أنواع شتى من الحلويات والتمور، أم أصل الإجابة هل كان يقلد العمدة بهذا أم العمدة هو من كان يقلده؟, لأن العمدة كان هو الوحيد الذى كان يفعل هذا وإن كانت مائدته أكثر اتساعا وبها صنوف أكثر، ورغم كل هذه المهارة والوقار، كان كل يوم بعد صلاة العشاء يخلع عباءة الوقار ويذهب إلى حيث دكان ( رمضان سالم) حيث يتجمع عدد من الرجال بعمره أو أكبر قليلا، يتناوبون شرب الشيشة والشاي الأسود، وبعضهم يطلب صنوفا أخرى من الشراب، يأخذ كل منهم بسرد يومه وما نما إلى علمه من أحداث تخص القرية أو غيرها من القرى المجاورة لها، حكايات تطلق قهقهاتهم، أو تجعل عيونهم تذرف بعض الدموع أو الإسراع بالدعوات والترحم على البعض، ذروة عجيج البيت بلا هوادة بمواسم الانتخابات، تجد كل المرشحين يأتون وحشودهم التابعة، يطرقون الباب ويجلسون إليه، يستمعون بكل إنصات لتحليله الأمور الانتخابية، يطلب من المرشح أو أحد تابعيه أن يمسك ورقه وقلما، يمليه هذه القرية ستكون له بنسبة هو يحددها، وهذه لن تعطيه للأسباب كذا وكذا، وربما يكون أكثر وضوحاً يغضب المرشحين أن ليس لديهم حظا بالفوز هذه المرة وأن فلاناً هو من سيفوز، وقليلا ما كانت توقعاته خاطئة، لذا صاحبه لقب الفلاح الفصيح، ومازال بالذاكرة يوماً مشهودا عندما وصل إلى بيتنا العديد من السيارات تعقبها سيارات تهتف باسم مرشح للانتخابات، نزل من إحدى السيارات الشديدة الفخامة، رجل شديد الأناقة والوسامة تفوح من خطواته روائح عطرية غير معتادة ببلدنا، دخل إلى المندرة الكبيرة المعدة لمثل هذه الزيارات، ما إن جلس وعرض سبب حضوره وأنه يرغب بتأييد أبى، الأب انتصب واقفاً زاعقا بأعلى الصوت، كيف تفكر بالترشح ثانية؟ وأنت لوثت اسمك، إن كنت تناسيت فأهل الدائرة لا ينسون هذا مطلقا، هل نسيت الإثم الذى ارتكبته أنت وبعض زملائك، حينما أتيتم بساقطة إلى شقة أحدكم وفعلتم الفاحشة، والصحافة لشهور أفاضت به، وصرتم حديث مصر كلها، بل إن أحدكم عند مساءلته أمام لجنة القيم بالمجلس لم يتورع ولم يخجل وهو يقدم تقارير طبية بالتأكيد زورها عن طريق أصدقائه تفيد أنه عنين، رجل لم يخجل أن يفضح نفسه أمام الجميع، بجد لا أعرف كيف أتيتم لتمثيل الشعب، زمن به العجب، نصيحة لك تنازل عن الترشح وتوارى عن الناس، هذا أهم من الترشح، خرج الرجل بعدها يهرول مطأطئ الرأس، يجر قدميه بصعوبة بل كانت ترسم خطوطا على الأرض يسنده من الجانبين رجلان من أتباعه، ذهب الجمع الغفير المصاحب له وقد أصيب بالخرس حتى أبواق السيارات أصابها نفس الداء، تنازل بعدها عن الترشح وانزوى عن الجميع، شهور قليلة وذهب إلى خالقه ،لم يشعر أبي بأي ذنب، بل تمتم حين وصوله الخبر، لكل أجل كتاب وتعددت الأسباب والموت واحد، ورغم سنوات عمرى القليلة حينها إلا أن الفضول وما أدراك ما فضول الطفولة ، الطفولة هي الأرض الأشد خصوبة للفضول، حاولت الوقوف على القصة بشكل يسبر غور فضولي، تواترت الحكايات وتعددت، ولكن علمت أنه من أسرة لها مكانتها بقرية مجاورة لبلدتنا، لم ينل حظا من التعليم الا الشهادة الإعدادية، كان نصيبه من ميراث والده عدة أفدنة زراعية وطاحونة وشقة بالمركز، ترشح بناء على إيعاز من أصدقائه وأهله، قريته كانت من أكبر التجمعات الانتخابية، نجح ومازال الكل يتندر على ليلة إعلان نجاحة، كان يجلس على كومة قش مع جمع من مريديه وعند إعلان نجاحة فوجئ الجمع به يقوم بحركة (أكروباتية) ويصيح، نجحت يا ولاد، أنا نائب!, حتى أن أحد الصحفيين المشاكسين والتي يكتب زاوية بصحيفة تتبع صحيفة حزبية بعنوان ( العصفورة) كتب مقالا يحمل عنوان ( النائب الشقلباظ),ورغم أن مكانته هذه كانت من الممكن أن تثير حفيظة البعض مثل العمدة ومشايخ القرية، إلا أنه بفضل كياسته وأسلوبه الهادئ الباسم أبعده تماماً عن كل هذا، بل كان العمدة والمشايخ من رواد لياليه، وينصتون لحكاياته وآرائه وبعضا من السخريات التي يطلقها هنا وهناك والتي من الممكن أن تطالهم أيضا، لكنهم كانوا يشاركونه الجلسات ويشاركونه سخرياته بكل ود وحميمية.
والأم ربة بيت كعادة معظم الأسر الريفية بهذا الوقت من الزمان، نسبة تعليم المرأة لا تكاد تذكر ، أغلب المتعلمات هن من البيوتات الكبيرة، يتوسط إخوته يسبقه أخان ويعقبه أختان وكأنه هو الحد الفاصل بين الذكور والإناث ، ذهب إلى الكتاب. تعلم القرآن وأبجديات القراءة والكتابة المتكسرة، لم يغادر القرية على مدار أعوامه الخمس والعشرين التي عاشها بها، كعادة أبيه زوجه حينما بلغ العشرين من العمر، كان الأب يقول أزوجهم حينما يصلون لعمر يفهمون معنى الزواج ومعنى تحمل المسئولية، الزواج ليس رجل وامرأة ، الزواج بداية لأسرة جديدة مع الأيام. تكون لها شجرتها الخاصة، ولابد أن يفهم الرجل معنى بناء أسرة ، تزوج من ابنة عمه ( بثينة عبد الصمد مفتاح)، كانت وقتها بالسادسة عشرة بالكاد ، وللأمانة كان هو من صغره يتمناها، تربى معها، لعب معها ، عاش معها أعواما خمسة بكل الحب ، كانت جميلة الملامح والخصال، دوما مشرقة الوجه ضحوكة، لم يرها يوماً عابسة أو ممتعضة أو تبدى نوعاً من التذمر ، حتى عندما تشعر بالصداع الذى كان ملازماً لها ولكنها كانت تردد دوماً أنه نتاج الصحو باكراً وكثرة العمل بين المنزل والحقل، حتى عندما كانت تسمع تلميحات شديدة القسوة من أم زوجها، التي كانت دوماً توجه حديثها إلى زوجها وأولادها وإن كان بحقيقته موجهاً إليها ، ما من وجبة طعام وإلا كانت تردد.
* الأرض البور التى لا تثمر ولا أمل في أن تثمر لابد من التخلص منها، والبحث عن أرض جديدة تعطى ثماراً، كلنا نشقى ونتعب من أجل أن نسعد بثمار تعبنا.
كانت تسمع هذا كثيراً ، ولكنها أبدا لم تظهر ألما ووجعا بل كانت تشاكس حماتها بالرد.
* الأرض البور تحتاج لبعض الجهد ومعرفة سبب عدم إثمارها، ثم لله قراره وتوقيتاته، ممكن تكون البذور ليست منتقاة بعناية.
ولكنه كان يعرف أنها تفرغ شحنة وجعها حينما تنفرد بنفسها وعدم وجود أحد بالبيت، تغلق الباب وتخرج مخزون دموعها وتطلق سراحها، ولكنها أبدأ لم تظهر أمامه أو أمام أحد أنها متعكرة ، عندما يعودان من الحقل تتأبط ذراعه مثلما رأت البعض يفعل هذا بالمرات القليلة التي ذهبت بها إلى المركز، تضاحكه وتشاكسه، وإن عاد وهى بالبيت يجدها على أجمل زينتها وبهائها وضحكاتها المليئة حبا ، الأم حينما تنفرد به بعيداً تظل تحرضه على أن يتزوج ثانية، كان كلامها يستفزه ويجعله يحتد عليها ثم يعتذر، يقول لها.
* أليس كل أمر بمشيئة الله، أليس لكل شيء توقيته من الله، دعي الملك للمالك، يا أمي لكل إنسان حظه، نحن نرضى بأمر الله،
تضمه إلى صدرها ، تمرر يدها على رأسه ، تمتم بأدعية الكثير من كلماتها لا يفهمه، تهمس له.
* يا بني كل أب أو أم يتمنون الخير لأبنائهم، ونحن نريد أن تكتمل فرحتنا بأولاد من صلبك يكونون سندا لك دوما، لا تظن أننا نكره زوجتك ، هى ابنتنا أيضا ومن لحمنا ، ولكن هى طبيعة الأهل يريدون أحفادا يتراقصون حولهم.
* السند هو الله يا أمي ، لكل أمر قراره من الله.
ينهض يتناول رأسها بين يديه وينهال عليها تقبيلا، ثم يخرج يريد هواء يزيح كم الأسى الذى يعانيه كل يوم على يد أمه وكأن كلامها أصبح ضمن الواجبات اليومية، تمضى به الحياة ما بين عمل بالحقل و اختلاس لحظات ليلية للجلوس مع أصدقاء العمر، كل منهم يحكى عن يومه وبعض همومه وبعض الحكايا المضحكة والمؤلمة ، ثم يعود متلهفا إلى زوجته التي تشعره أنه مازال بأيام الزواج الأولى، كل الأيام تمر سواء ببطء أو على عجالة، إلى أن صحا يوماً على لكزات سريعة ومتعددة، وأنين. وبعدها صراخ،. نهض فزعا وجدها تمسك رأسها تضغط عليه بشدة والدموع تنساب من عينيها بلا توقف وكل علامات الألم تعلو ملامحها، تصرخ وهو حائر ماذا يفعل؟، أسرع وجاء لها بقرص إعتادت تناوله عندما تأتيها هذه النوبات ولكن هذه المرة واضح أنها أشد، أصابته صاعقة الدهشة، جلس القرفصاء بجانبها على الفراش ، أخذها بحضنه يربت عليها، يمسح دموعها بكفه، يكاد يشاركها البكاء ، فجأة وجد جسدها يتراخى بين ذراعيه ، ونال منها الإغماء ، أنامها على الفراش ، فتح باب حجرته وصرخ مناديا على أمه وأبيه وإخوته ، أتوا بهرولة بعضهم مازال يحمل بعينيه آثار النوم، لم يستطع الكلام، فقط أشار إليهم إلى داخل الحجرة ، دخلت الأم وزوجات الإخوة ، ( بثينة) مغمى عليها لا تشعر بمن حولها ، مجرد صدر يعلو ويهبط يطمئنهم على أنه مازال ينبض ، صاحت الأم تطلب منهم الذهاب إلى منزل الدكتور ( ناجى عطية) القريب من بيتهم، هرول الجميع بلا انتظار، الأب جلس متكيء إلى الحائط يتلو ما يحفظ من سور القرآن وبعض الأدعية ، جاءوا وبأعقابهم الدكتور بزيه المنزلي ، أسرع بالدخول طلب منهم مغادرة الغرفة إلا الزوج فقط معه بالداخل،، طال الوقت والدكتور مستمر بالفحص ، كل لحظة تتغير ملامحه ، تعلوه علامات الحزن، بعد وقت طال وفاض بهم الانتظار خرج إليهم.
* نحتاج إلى نقلها إلى مستشفى حالا وبسرعة لإجراء فحوص شاملة. وتحاليل وأشعات، سوف أذهب لإحضار سيارتي لنذهب سريعاً نحن بحاجة للوقت.
وأعطاهم ظهره منصرفا بهرولة، تركهم نهبا للقلق وآلاف التساؤلات، قامت أمه بتبديل ثيابها بمساعدة زوجات الإخوة ، وهى لا تعي شيئا ، الأمر كان غاية بالصعوبة، علا صوت السيارة وبوقها المتصاعد ، أسرع بحمل زوجته على ذراعيه، جلس بالمقعد الخلفي. وضع رأسها على صدره وجسدها ممدد على المقعد، صاحبه الأب الذى أصر على تواجده معهم. فهي ابنة أخيه طالبا من أولاده عدم إخبار أحد إلا بعد تشخيص الحالة، وصلا إلى المستشفى، على بابها يقف ممرضان معهما ما يتيح وضعها عليه ونقلها إلى الداخل، الكل يهرول بها إلى حجرة الفحص، طال الوقت وهو يذهب ويجئ وكل لحظة يخبط رأسه بكفه، ويتمتم بكلمة يارب وحيدة، خرج الطبيب وجهه ينطق مما قد يكون قد حاول إخفاءه، ذهب على الفور إلى حيث يقف ( محمد) شاردا لا ينتبه إلى أي أمر محيط به، التفكير يأخذه إلى الذهاب بعيداً لأمور لا يتمناها ولا يريدها، ولكن صدره يوجعه يكاد يطبق على أنفاسه، أخذه بعيداً بعض الشيء عن الجميع، انزوى به جانباً قصيا، وضع يديه على كتفيه، مال عليه هامسا.
* آسف إن قلت لك إن الشواهد تقول إن الأمر ليس بجيد على الإطلاق، ولكن الأمر سيتضح أكثر بعد إجراء الأشعة والتحاليل اللازمة، ما عليكم الآن إلا الدعاء، هل كانت تشكو من شيء ولم يتم الاهتمام؟
* والله يا دكتور كثيرا ما كان يصيبها الصداع، ولكنها كانت تقول إنه أكيد بسبب العمل والحركة طول النهار بين بيت وحقل وأمور أخرى، لم نتصور أبدا أن تصل لهذه الحالة.
* فهمت الصداع كان مؤشرا كبيراً لمرضها الذى استفحل من جراء عدم الاهتمام، عامة ربنا ييسر الأمور قادر على كل شيء، لا تقلق أنا سأتابع كل شيء يخصها، سوف أذهب لأحضر الطبيب المختص ليفيدنا أكثر، اطمئن.
وربت عليه وأخذ طريقه تاركاً له دموعا طفرت من عينيه ونشيج بكاء جعله يرتعش وينتفض، أسرع أبوه وإخوته يحيطون به يتساءلون عما به، أخبرهم بحديث الدكتور، انتقل وباء قلقه ودموعه إليهم، أخذه الأب بين أحضانه مرددا وهو يمرر يده على رأسه.
* قل لن يصيبنا إلا ماكتب الله لنا، ندعو لها بالشفاء، الله قادر على كل شيء.
جلس القرفصاء، وضع رأسه بين ساقيه، تتصاعد دعواته بصوت عال بصوت متهدج مصحوب بدموع وحشرجة صوت، الأطباء يذهبون ويجيئون مما يزيد من مساحات القلق لدى الجميع، سمعهم مرة يقولون إنها مصابة بورم بالمخ وأن اكتشافه كان متأخرا جدا، هو لا يفهم ماذا يعنى هذا المرض ولكنه أيضا يستشعر بأن الأمر خطير، نبراتهم وقسمات وجوههم تنبئ بهذا، نقلت مرات ومرات إلى حجرات الأشعة ومعامل التحليل، عينه تتابع تنقلاتها وترسل التساؤلات إلى الأطباء، لا أحد يجيبه، ولكنه يلمح علامات تزيد من قلقه، أربعة أيام وهو قابع بالممر أمام حجرتها، كل ساعة يدخل إليها، يتأملها وجهها هو هو لم يتغير، الوجه المشرق الضحوك، يكذب مرضها ويهمس بداخله، هي نائمة ربما نوم طويل لجهد سنوات، يخرج باكياً يمسح دموعه بأكمام جلبابه ويعاود الجلوس، الأب والأخوة وأهلها والكثيرون من أهل القرية يأتون على فترات يجلسون وقتا وينصرفون، صديقه ( مكرم) هو الوحيد الذي أبى أن يتركه وحيداً، هو من كان يتولى إحضار الطعام والعصائر ويظل يلح عليه كثيراً حتى يتناول قليلا منها، بفجر اليوم الخامس، كان قد غفا قليلا دون إرادته، صحا على ربته خفيفة على كتفه، نهض ولديه إحساس بأن هناك أمر ما، كان الدكتور ( ناجى) الذى أخذه بين أحضانه، وأخذ يربت عليه بشدة، همس له.
* البقاء لله شد حيلك، عملنا كل ما نستطيع ولا راد لقضاء الله.
وجد الدنيا تلف وتدور به، عيناه لم تعد تبصر، كل الصور يراها ضبابية، أصابه الإعياء ، قدماه لا تحملانه، كاد يسقط لحتفه ( مكرم) أجلسه إلى مقعد، وجلس بجواره حائرا وقد شل تفكيرهما، ماذا يفعلان؟، تشاركا الدموع، ما إن بزغت الشمس حتى جاء الإخوة والأهل يتساءلون عن الجديد بحالتها، أجابهم بدموعه وصوت لا يسمع.
* ( بثينة) ماتت.
علا الصراخ من النسوة وعلا صراخ الرجال والبكاء يتصاعد من الجميع، هو لم يعد يشعر بشيء مما يحيط به، أصابه نوع من فقدان الذاكرة، شعر كأنه في تيه، لا يعرف من هو؟ وما الذى يحدث من حوله؟، أشباح وظلال وأصوات تأتى من هنا وهناك لا يفهم ماذا تقول أو إلى ماذا تشير؟، بلا إرادة تساند على صديقه ( مكرم), الدكتور ( ناجى) كان يهرول من مكتب إلى آخر لإنهاء إجراءات التصاريح وما يلزم لاستلام الجثمان، خرجوا بالجثمان إلى سيارة إسعاف، أسرع هو إلى القفز بداخلها، رفض أن يكون أحد معه، صرخ بهم عاليا.
* أريد أن أكلمها وحدى.
جلس بالسيارة محتضنا الجسد المسجى على محفة، يبكى بحرقة دموع ساخنة تخرج من صدره، يصرخ،
* تركتيني وحدى لماذا؟ ألا تعرفيني أنى بعدك ميت؟، ربنا يرحمك، عمرى ما تخيلت أنى أعيش هذه اللحظة، لحظة قاسية، فقدان الحبيب والوليف والأنيس، ليتني سبقك بالرحيل ، فقدت كل الحياة من غيرك، كل المر سكنني ، ردد هذا كثيراً، وصلت سيارة الإسعاف حتى المسجد الكبير للصلاة على الجثمان، المسجد محاط بكل أهل القرية والقرى المجاورة والتوابع، صحن المسجد ملئ بالكثيرين، لا موضع لقدم، النسوة اتشحن بالسواد شابات وعجائز وقفن على روؤس الشوارع والحارات يلطمن ويصرخن، وقف وسط إخوته على باب المسجد يستقبل القادمين لحضور الجنازة يسبقه بالوقوف أبوه، هو غير واع لما يرى، يده ترتفع للسلام آليا، وهناك من يعانقه ويحتضنه، وهناك من يربت عليه، أقيمت الصلاة، كان بالصف الأول يجاور أباه وإخوته وأعمامه، طال وقت الصلاة، قدماه لا تحملانه، يشعر بأن جسده رخو، كاد يقع، أسرع إخوته بالإحاطة به، خرج الجثمان يحمله إخوته قدماه ترسمان خطوطا على الطريق كأنه يشهد الطريق على أنه تابعها حتى النهاية، أسرعوا بمواراة الجثمان الثرى، وبدأ أحد فقهاء القرية تلاوة الأدعية للميت والجميع يردد وراءه، هو يجد نفسه أشبه بالبغبغاء يردد ولا يعي، انتهت مراسيم توديعها، الكل أخذ طريقه إلى الانصراف، كأن الأمر عملا أو شأنا وظيفيا انتهوا منه، حقيقة صدق من قال لا يشعر بالوجع إلا صاحبه، ولا يحس بألم لسع النار إلا من يقبض عليها، رفض كل محاولات الأب والإخوة المغادرة، صرخ بهم طالبا تركه وحده، الجميع غادر على مضض، استلقى على المقبرة فاردا ذراعيه كأنه يحتضنها، أخذ يتمتم بكلمات مبعثرة لا رابط بينها، أخواه وصديقة ( مكرم) جلسوا على مقربة منه، يراقبونه والدموع تكحل أعينهم ، حائرون لايدرون ماذا يفعلون ؟؟ ، لم يحاولوا الاقتراب منه كثيراً، مثل هذه اللحظة تحتاج الانفراد بالنفس ، أخذه النوم ولم يشعر بالوقت إلا عندما لسعه برد الليل ، نهض متحاملا على نفسه، حاول الوقوف خذلته قدماه، كاد أن يقع، لحقه الإخوة وأحاطوا به من الجانبين وصديقه بالخلف، أسندوه وساروا به، إلى حيث أقيم سرادق العزاء الذى أصر الأب على إقامته بما يليق بهم،، على مدار أيام تقارب الأسبوع وأفواج المعزين لا تقطع، السيارات والركائب تأتى مكدسة ، وهو لا يشعر بأي شيء من حوله، هو هائم بعالم آخر يعيش لحظات استرجاع الماضي منذ أن كان صغيراً يلعب معها، ويتشاجر مع الجميع من أجلها ، كان يمنع الكل من الاقتراب منها، حتى أطلقوا عليه، حامى الحمى، يتذكر كل الشريط الحياتي والدموع تعبر عن وجع ذكرياته ، زهد الطعام والشرب ، بالكاد كانوا يلحون عليه لتناول بعض اللقيمات. تعينه على صلب طوله، أصبح بأيام ناحلا شديد الشحوب، برزت عظام وجنتيه ، زائغ العينين ، لا يدرك شيئا مما يحيط به ، الأب طلب من إخوته والمقربين منه ألا يتركونه وحيدا ولكنهم لم ينجحوا كان رافضاً لكل شيء ، أغلق عليه باب حجرته ، يجلس القرفصاء فوق فراشه، كثيراً ما يدفن رأسه بحجره ويجهش بالبكاء ، الأب والأم والأخوة يدخلون إليه، يتحدثون إليه وينجرفون بالحديث إلى أطراف شتى لإبعاده عن الوجع ولكن هيهات ، كان كثيراً ما ينتفض زاعقا بهم.
* اتركوني وحدى لا أريد أحدا ، أنا تعبان .
ولم يكن أمامهم الا الانصياع لطلبه ، صار خيالا يسير على قدم لا تعرف الرسوخ على الأرض ، كان كل صباح يتسلل ويذهب إلى قبرها ، يروى ما يحيط به من بعض الأشجار والورود، ويجلس يذكرها بما كان من لياليهم وأيامهم، تنتابه حالات من الضحك الهستيري للحظات ثم يرتد سريعاً إلى البكاء بشدة، ظل على هذا الحال لأيام طويلة، عازفا عن كل شي، الكل يحاول التهوين عليه ولكنه ظل أسير الحزن المميت، ليلة لا ينساها وجد نفسه ينهض قافزا، يخرج بعض ملابسه يضعها بصرة قماشية، ويخرج مبلغا ماليا كان بموضع كانت قد اختارته لوضعه قائلة.
* لابد من عمل حساب لأى ظرف طارئ.
وضعه بجيبه، الوقت قد تجاوز منتصف الليل، خرج متسللا، غير محدد لهدف للذهاب ، الهدوء يسود القرية بكاملها مع عباءة ظلامية تحيط بكل ربوعها إلا من بصيص أضواء قليلة تنبعث من خصاص النوافذ غير جيدة الإغلاق، ونباح الكلاب التي تتشاكس مع بعضها أو أن الوقت سامح لها بالتعبير عن ذواتهاورغباتها، سار متخذا الطريق إلى حيث الطريق الرئيسي للقرية التي تمر عليه بعض السيارات ذهاباً وإياباً، وقف بانتظار ما يرسله الله من وسيلة مواصلات تذهب به إلى أي مكان بعيد عن هذه الذكريات التي تلازمه، فهي تحيط به من كل جانب، كل مكان بالقرية شاهد على ذكرى لهما، طال انتظاره، جلس أرضا، من بعيد جاء ضوء مبهر لسيارة قادمة، وقف ملوحا بكلتا يديه، السيارة مسرعة، ربما بل من المؤكد قد تتجاوزه، ولكن خاب ظنه، بلحظة علا عويل فرامل السيارة التي أوقفها قائدها أمامه أو أبعد منه قليلا، فتح النافذة قائدها صائحا.
* يا بلدينا إلى أين أنت ذاهب؟.
* إلى بلاد الله، هل لك أن تأخذني إلى أقرب مدينة؟.
الرجل لم يعقب، شعر أن به وجعا كبيرا، لم يعاود السؤال وأشار إليه بالركوب، .الصمت ران عليهم تماما، مجرد عيون تدور في محجريهما تتبادلان النظرات بين الفينة والفينة، السيارة شديدة الفخامة ، روائح عطرية نفاذة. المذياع مؤشرة على القرآن الكريم، تستمر النظرات المتسائلة التي لا تجد إجابات، صاحب السيارة يعتنق مبدأ أن لا يبدأ أي حديث، كثيرا من الناس لا يحتاج نكأ آلامه وهذا الرجل ومن الواضح أنه يمر بحالة ألم شديدة ، دفع إليه بابتسامة ودودة ظهرت على محياه، ظن أن البسمة قد تفتح شهيته للحديث، ولكن الحال ظل كما هو، لا حديث، اضطر بعد فترة أن يسأله.
* طريقك أين يا بلدينا؟
لم ينل الإيجاب، فوجئ به يضع رأسه بين كفيه ويجهش بعنف بالبكاء، صاحب السيارة لم يجد أمامه إلا الوقوف جانباً وإشعال ضوء صالون السيارة، ربت على كتفه مرات عديدة، خاطبه.
اهدأ يا ابنى، لا شيء يستحق شيئا من الوجع، أعرف أن هناك أوجاع لا تنسى ولا تندمل بسهولة، ولكن بالنهاية كله يمر ومع الأيام يقل ألمنا، كل واحد من الناس له جانب من الألم، لا يوجد من يخلو منه، ولكن علينا بالصبر والتحمل فكل شيء من أقدار الله، اعتبرني أبيك وفضفض، لعل الله وضعني بطريقك أو وضعك بطريقي لحكمة هو يعلمها، ولعلني أكون سببا يعلمه الله ليفرج همك، وتكون سببا بخير لي لا يعلمه إلا الله تكلم لكل أمر سبيل للخروج منه.
زادت مساحات البكاء لديه واتسعت رقعة نشيجه الحاد، الرجل اكتفى بالربت على كتفه طالبا منه الهدوء، بعد جهد تكلم وحكى كل شيء للرجل، سار بالسيارة حثيثا، أخذ بالحديث عنه حتى يهدأ.
* أنا ( محفوظ العربي) تاجر (ماني فاتورة)، أقمشة وملبوسات ولوازم تجهيزات العرائس، الحمد لله لي أكثر من محل، المحل الرئيسي بالغورية، يا بني لكل منه رحلته بين الفرح والألم لا تتخيل أن هناك طريقا واحداً للألم أو للفرح، لكى تكون ناضجا لابد من التقلب بين هذه وتلك، دع الملك للمالك، أنا عائد من واجب عزاء في أحد عملائي بقرية ( آبار الملك) مركز (أخميم)، الرجل كان عندي من أسبوع موفور الصحة والعافية، ولكن لا نملك من أمرنا شيئا، قل يارب، مهما كان الوجع لله قراره وله حكمته، وعلينا أن نرضخ لمشيئته، يا الله لو علمت ما عانيت تقول كما يقولون من رأى ظروف من حوله يحمد ربه على ما هو فيه عشت يتيما، وعملت وأنا صغير جدا بكل المهن ما يخطر بها على بالك وما لا يخطر، واجهت كل شيء صعب من الأقارب ومن غير الأقارب، ولكنى رغم أنى كنت صغيرا، ولكن الله ذكرني بكلمة سمعتها من أحد الشيوخ أثناء درس بعد صلاة أن الإنسان عليه أن يتحمل وعليه أن يتجاهل الوجع ويتعلم منه وأن لا يلق بالا لمن ينثر الغبار بطريقه، فلا تدع نفسك الوجع والحزن، كل هذه أمور مقدره من الله وما علينا إلا أن نحمده وأن يهون علينا.
وسكت ونظر إليه، أكمل.
* لن أضغط عليك، عندما تريد أن تتكلم تكلم، لكن إلى أين أنت ذاهب؟
* والله يا حاج لا أعرف إلى أين ؟
نظر إليه بكل ألوان الدهشة بنظرات متسائلة.
* كيف يا ابنى.
وجد نفسه يعاود البكاء، تركه الرجل يخرج ما بداخله، مسح دموعه بأكمامه، خرج الحديث منه متقطعا، حكى له حكايته دون إخفاء شيء، بين اللحظة والأخرى الرجل يمد يده يربت عليه، عندما انتهى وألقى برأسه على مسند المقعد مغمضا عينيه، تركه الرجل لفترة ثم حدثه.
* الله معك يا بني أقدر حزنك، وحتى لا تزداد معك أيامك صعوبة وتزيد مساحات حزنك، سوف أعرض عليك عرضا لك أن ترضى به أو لا ترضى، أولا أنا مؤمن بالقدريات، وأجزم دائما بأن اللقاء بيننا قدر ولله حكمته بكل شيء، لذا سوف تكون ضيفي لأيام تستعيد هدوءك ونفسك للوقت الذى تريده وبعدها لنا حديث، والله صاحب القرار، عامة يا ابنى الدنيا لا ثبات لها، هي مثل الأرض الرخوة ممكن تذهب بك شرقا أو غربا ممكن تنال حلوها لفترات لا يعرف إلا الله مداها، ونفس الحال مع مرها، لازم الإنسان يتقلب بين حلوها ومرها حتى يصبح قادرا على التعامل معها، ونحن نسير حسب ما رسمه الله لنا من أقدار، الدنيا كأس مترع بالكثير من الأوجاع والملمات والقليل من الأفراح والمسرات، وما عليك إلا أن تترك أمورك لله وحده، الفقدان أكيد صعب ولكن عندما تسمع حكايات الآخرين تهون عليك الأمور،
سيأتي يوم وتعرف حكايات كثيرة ومنها حكايتي، وترى أن هناك أحزانا وأوجاعا أكثر ألما،
الله قادر على إخراجك من حزنك وتوجيهك لطريق تجد به الدواء والسعادة.
عاود الصمت فرض هيمنته عليهم، أغمض عينيه وأطلق العنان لغفوة ذهبت به لبعض الوقت، لم يفق منها إلا على ربتة يد الرجل، فتح عينيه وجد السيارة تقف بمواجهة بوابة كبيرة فتحت بمجرد أن أضاء الرجل أنوارها مرتين، دخل بالسيارة ممرا يصل بها حتى درجات سلم البيت الواضح والدال على مدى ثراء الرجل، نزل من السيارة ووقف جانباً، الحاج ( محفوظ) بمجرد نزوله أشار إلى من قام بفتح البوابة، أتاه مهرولا واقفا على بعد خطوات.
* أوامرك يا حاج.
* تأخذ ( محمد) إلى الحجرات الشرقية، وترى أن كل شيء موجود، هو ضيفنا، دعه ينام كما يحلو له، هو بحاجة لنوم طويل، وعندما يصحو بأي وقت يفطر وتجعل ( محروس) يأت به إلى المحل الكبير، مفهوم يا ( مغاوري)
* مفهوم يا حاج.
* تصبحون على الخير.
وأولاهم ظهره صاعدا درج السلم، سار خلف ( مغاوري) حاملا صرة ملابسه صامتا يتجول بعينيه بالحديقة التي تحيط البيت والأضواء التي تتلألأ على أسوار البيت تجعل الليل أشبه بالنهار، بعد مسير دقائق توقفا أمام مبنى دور واحد، مد ( مغاوري) يده داخل جلبابه مخرجاً مفتاحا، أولجه داخل الباب وفتحه، أخذ جانباً ليسمح بمروره، دخل وراءه مشيراً إلى حجرة النوم المتسعة والمجهزة من كل الاحتياجات، وأشار إلى المطبخ وفتح الثلاجة مشيرا لوجود كل متطلباته، وبعدها سأله.
* هل تحتاج أي شيء أخر؟.
شكره، انصرف ( مغاوري), تجول قليلا بالمكان، بعدها نزع حذاءه وألقى بنفسه على الفراش وذهب برحلة نوم عميق لم يستطع الأرق أن ينغص عليه نومه، كان بالفعل بحاجة ماسة للنوم، لم يشعر بأي شيء، أفاق من نومه وفتح عينيه يتأمل، نظر إلى النافذة الزجاجية وجد الظلام يلف كل شيء، تعجب من طول فترة نومه، رغم أنه يشعر بجوع وظمأ شديدين، هو لا يتذكر متى تناول الطعام آخر مرة، تجاوز عن حاجته للطعام والشراب، وأسرع للاغتسال وتوضأ، قام بأداء عدد كبير من الصلوات، هو لم يعرف عدد الصلوات التي فاتته، فزاد من صلاته، أخذ بعدها بالدعاء والشكر، أن وضع بطريقه رجلا يتوسم فيه الإنسانية والشهامة، بعد الصلاة أخذ طريقه إلى الثلاجة، أخرج منها بعض الطعام، لم يبحث عن صنوف بعينها، أخذ ما صادف يده، تناول طعامه شرب كوبا من الشاي، ثم أخذ طريقه للخروج، وجد على مسافة قريبة منه ( مغاوري) جالساً أمام نار أشعلها داخل وعاء كبير من الفخار، بحثا عن دفء يزيل برودة الليل، اقترب منه وجلس بجواره ملقيا السلام، مد ( مغاوري) يده متناولا إبريق الشاي القابع دائماً على النار، صب له كوبا، ناوله له متفرسا وجهه، دون حديث، فرض الصمت هيمنته لحد كبير عليهما، اكتفيا بتبادل النظرات، ولكن ( مغاوري) المعروف عنه شدة الفضول لمزيج من فتح مسام الحديث.
* ماحكايتك يا بلدينا؟
رد عليه بنظرة شديدة الحدة وكأنه يطلب منه عدم السؤال، ولكنه لكى ينهى المسألة.
* يا بلدينا لكى منا حكايته، ملابسنا تخفى الكثير من الحكايات، دع لكل منا ما يخصه وعندما يريد الله أن نخرجها من صدورنا ستخرج دون طلب، لا تظن أنى أحمل أمرا غريبا، مثلي مثل الجميع، بي وجع وبي جانب من الفرح.
عاد الصمت يلفهم من جديد، تناولا شرب الشاي مرات، نهض بعدها قاصدا الذهاب للمكان الذى خصص لسكنه، أخبره ( مغاوري) قبل إنصرافه.
* الحاج كان طلب مني أن تذهب إليه حال صحوك ولكن النوم أخذك لبعيد، بالصباح بأمر الله تذهب إليه او ربما تذهب معه.
أومأ إليه برأسه، وأخذ طريق العودة، ألقى بنفسه على الفراش محاولا استعادة النوم، ولكن هذا لم يطاوعه، شرد كثيراً بأمسه، بلحظات طفولته وملازمته الدائمة مع ( بثينة) حتى وصلا للصف الرابع، بعدها قرر الجد أنه حان وقت التفريق بين الصبى والصبية، كان يكتفي بإرسال النظرات من على بعد، لم يكملا التعليم بعد الصف الرابع، هو أساسا كان لا يرغب بالتعلم، شأنه شأن الكثيرين من أبناء القرية فى هذا الزمن، كان يتلظى من بعادها ووأد أي محاولة للاقتراب منها أو الحديث معها، تحمل حتى وصل لعمر التاسعة عشرة، مازال هذا اليوم تحديداً ماثلا أمام عينيه، كان يقدم خطوة ويتراجع خطوات، ساقاه مرتعشتان، كانت أمه تجلس جلستها المعتادة على إحدى الكنبات بصحن الدار، تلفت يمنة ويسرة ليتحقق من عدم وجود أحد، جلس مجاورا لها، الكلمات تأبى الخروج من لسانه وكأنه أصيب بالخرس، بعد وقت نهض وأمسك برأسها وقبله قبلات متعددة، قابلتها الأم بضحكات متعالية، ونظرت إليه نظرة مشجعة للسانه على الحكي، أطرق رأسه إلى الأسفل، خرجت الكلمات تسمع بالكاد.
* أمي أريد الزواج من ( بثينة ) ابنة عمى.
مدت ذراعها وضمته إليها بقوة ومررت يدها على رأسه، همست له وهى ترفع وجهه إلى وجهها.
* ولماذا لم تخبر أباك؟، الأمر ليس به خجل.
* الأم خير طريق لقلب وعقل الأب حتى لو عاند بعض الشيء.
اتسعت بسمتها وربتت عليه ببعض القوة.
* عندك حق النساء مفاتيح الرجال، لا تقلق الليلة أفاتحه وأظنه لن يرفض وحتى عمك أيضا سوف يرحب، الكل يعلم أنكما من صغركما متقاربين .
سارت الأمور سيرها الطبيعي، الأب لم يبد أي ممانعة بل رحب بشدة، والعم كان ينتظر هذه الخطوة أو كما قال فيما بعد أنه كان يرى رغبة ابنته مرسومة على وجهها كلما لمحت ( محمد), بظرف أيام قليلة تم إعداد الحجرة وشراء القليل مما يلزم، السرير والدولاب وبعض أواني المطبخ وملابس للعروس، أتت إلى بيتهم حاملة معها كل البهجة، دوماً ضحوك، حتى لو كان هناك بعض الكلمات المؤلمة التي تأتى بسياق الكلام من أمه أو من زوجات إخوته، كانت تضحك ولا تلق بالا لما سمعت، السنوات التي عاشها معها كانت بمثابة العمر كله، لم يكن يعي أن هذه الصفات تشير إلى أنها ابنة موت كما يقولون، طفرت دمعات من عينيه، لم يفق منها إلا على طرقات الباب وصوت ( مغاوري) يناديه بعلو.
* ( محمد) الحاج ينتظرك.
قالها مرات وغادر، انتفض من جلسته وأسرع للاغتسال، وارتدى جلبابه سريعا وأخذ طريقه إلى الباب، قذف بنفسه خارج الباب بهرولة، أبصر الحاج جالساً على مقعد أمام باب البيت مرتديا بدلة أنيقة تعلوها عباءة موشاه بخيوط ذهبية تزيده فخامة، يمسك عصا أبنوسية عندما اقترب منه وجد بها نقش لرأس صقر، وقف قبالته مطرقا متمتما بصوت شديد الخفوت.
* صباح الخير، أوامرك يا حاج.
نظر إليه نظرة فاحصة.
* هل أخذت وقتك بالنوم بشكل يريحك.
* الحمد لله بالحقيقة لم أشعر بحالي، أول مرة أنام بهذا الشكل.
* أنت كنت بحاجة لهذا النوم، هل أفطرت؟
* لا والله نفطر فيما بعد.
* إذا تعال معي، نذهب إلى المحل الكبير، نفطر سويا ونرى ما الذى يمكن أن تعمل به، إذا كانت بك رغبة؟
* يشرفني يا حاج، أنا تحت أمرك بما ترى من اللحظة .
ركبا بالمقعد الخلفي للسيارة، لم يتبادلا أي حديث، مجرد نظرات متبادلة على استحياء، استمر الحال طويلا، وبلحظة وجه الحاج الحديث له.
* تعرف ابننا أنني ألمح بك بعضا منى، ولا تسألني كيف، الله هو من يوجه خطواتنا، أريد منك أن تنغمس بالعمل، العمل هو خير دواء للأحزان والأوجاع، أعرف ما بك من وجع ولكن هكذا الدنيا كما قلت لك لا تسير على وتيرة واحدة، وما علينا إلا أن نجيد التعامل معها حتى لا نتوه بدواماتها، لكل أمر بداية ونهاية مهما كان وجعه وألمه، اترك أمورك لله.
* لتكن مشيئة الله، الله أعلم بالقادم.
تبادلا الحديث بأمور عديدة، حتى يخرجه من الحالة التي يعيشها، وصلا إلى المحل الرئيسي
بالغورية، أسرع ( محروس) بالقفز من السيارة مسرعاً بفتح الباب، نزل الحاج ونزلت خلفه،
وضع يده على كتفي ضغط على ببعض الشدة.
* ما إن تطأ قدمك هذا المكان، حاول أن تجعل الماضي يرقد بسلام، فالماضي هو الموطن الأساسي للألم، دوماً به الكثير من الوجع والقليل من الأفراح لنكن منصفين، اطوى صفحته بأسرع وقت وحاول بناء حياة جديدة.
اكتفي بهز الرأس، سار وسرت وراءه، دخل المحل، يلقى السلام هنا وهناك وهو يعرفني عليهم، هذا ( جوهر، مصباح ، بدوى، فهيم، عدلي) وكثير من الأسماء، الكل يهلل ترحيبا به، ترحيباً لا يحمل أي شائبة تملق.
* كل العاملين هم وبكل المحلات من قريتي، لهم حق على، كن حريصاً عندما تبتسم لك الحياة أن تحتمى بأهلك، خيركم أنفعكم لناسه. أسرع أحد العاملين بإحضار كرسي له، أشار إليه بإحضار آخر، أسرع بالتلبية، أمرني بالجلوس، كل أصحاب المحلات المجاورة له يأتون للسلام عليه وتحيته بحميمية مطلقة صادقة، يشاكسونه ويلقون عليه بعض الإفيهات والنكات الكثير منها برئ، والقليل به إيحاءات ذكورية، تعلو الضحكات تعطر اليوم، يلقى تعليماته بصوت خفيض، يأتيه البعض بفواتير يتأكد من صحتها بالسؤال، وأيضا أذون صرف بضاعة من المخازن، يقرأ على مهل قبل أن يوقع، تأتية بعض المكالمات على التليفون الأرضي الذي يأتي به عامل ويضعه أمامه، لا يكاد يلتقط أنفاسه، ولكنه أبدا لا يبدى تبرما أو ضيقا، الأمور تسير بسلاسة تامة، عندما ارتفع صوت الآذان لصلاة الظهر، رفع يده بحركة يبدو أنها متعارف عليها، أسرع البعض بإحضار بعض قطع السجاد وفرشها بأحد الأركان، قسم العمال إلى قسمين، قسم يؤدى الصلاة، وقسم يتعامل مع العملاء، البعض أسرع للوضوء, . بعض
المترددين على المحل شاركوا بالصلاة، أم هو المصلين، كان صوته بالتلاوة يذهب بالجميع إلى حالة خشوع تام، أخذ وقتا طويلا بالصلاة، بعدها أخذ جانباً وأخذ يدعو همسا، جلست قريبا منه أترقبه، رأيت وجهه مضاء، رغم وجود بعض الدموع تملأ عينيه، أشار إلى، تساند على، وضع يده على كتفي وسار، همس لي.
* مهما يكن لا تترك فرضا من فروض الله، هي بركة ودليل على السير على الطريق الصحيح، عدنا إلى نفس الجلسة، بعد حين نادى أحد العمال آمرا له بالذهاب لإحضار طعام الغذاء، وقت قليل وأتى الطعام فيما يبدو أن صاحب المطعم يعرف متى يقوم بتجهيز الوجبات،
يوزع بنفسه الطعام، يكون آخر الجلوس بعدما يسأل.
* هل الطعام كافي؟
عند العصر ، نادى.
* يا ( عنتر)
جاء رجل تجاوز الأربعينات، لم يتكلم، وقف انتظارا لتعليمات الحاج.
* تذهب مع محمد إلى مخازنا، وتقول لعمك ( بهيج) أن يعلمه كل شيء عن المخازن، وطمأنه أيضا أننا لن تبعده فأنا أعرف وسوسته.
تقدمني ( عنتر) إلى سيارة، قفز داخلها، ركبت وسار بنا سريعا، يتفرس بوجهي، و أنا نفس الحال، لم يسأل وإن كانت كل ملامحه تنطق بفضوله، اكتفى بسؤال.
* هل أنت من بلدنا؟ أو من أجوارها؟ كل العاملين هنا من بلدنا.
* أنا من الصعيد.
استمر سيرنا لقرابة العشرين دقيقة، توقفت السيارة أمام باب من الفولاذ، لمبنى شديد الاتساع
يدل عليه هذا السور المرتفع الذى يحيط بالمبنى، نزل ( عنتر ) وكنت خلفه، وقف أمام
الباب مناديا .:
* عم ( بهيج).
ولما رأى دهشتي من ندائه الذى يسمع بالكاد.
* عمك ( بهيج) يكره أمرين، أن تكرر النداء أو أن يكون الصوت مرتفعا.
دقائق معدودة وخرج إلينا رجل تجاوز السبعين على الأقل، طول فارع، منحنى قليلا
عند الكتفين، أخذ يتفرس بي كثيرا، من كل زوايا الرؤية، بعدها سأل.
* ماذا هناك يا ( عنتر)؟
* الحاج يخبرك أن تعلم ( محمد) كل أعمال المخازن، ويخبرك أيضا أن لا تخشى فهو لن يحل محلك
عاود الرجل التفرس بي ثانية وكأنه يرغب بمعرفة داخلي قبل ظاهري، أشار إلى ( عنتر) بالمغادرة وإلي أن أتبعه وماكان مني إلا أن أفعل ، دخلت الى المخزن، مساحة كبيرة جدآ جدآ، وعمال يقومون بصف الأصناف كل بمكانة، مكتب كبير يتوسط المكان يتيح الرؤية من كل الزوايا، المكتب تعلوه الكثير من السجلات، جلس وأشار إلى بالجلوس، سألني.
* هل تشرب شايا؟
أجبته بإيماءة من رأسي، نادى على أحد العمال طالبا منه كوبين من الشاي، عاود السؤال.
* هل أنت من قريتنا؟, أم أنت قريب للحاج؟ كيف تعرفت عليه؟
* بالحقيقة لم أعرف الحاج إلا من أقل من يوم.
ضرب كف بكف، وعلت شفتيه ابتسامة.
* هكذا هو الحاج من صغره يسير وراء قلبه، القلب عنده هو مؤشر اختياراته، وكم من مرة طلبت منه أن يكون الاختيار بالعقل قبل القلب، ولكن لا حياة لمن تنادى، ولكن للأمانة دوما هو الرابح، لم تخطيء اختياراته إلا بالنذر اليسير، وأتمنى أن تكون أنت اختيارا سليما، أعرف يا ابنى أن الله يضع أمام كل منا منذ لحظة الميلاد آلاف الطرق لتختار من بينها، وكل طريق له مغرياته، والذى يمنحه الله البصيرة يكون اختياره سبيلا لفهمه الحياة ودروبها جيدا، نتمنى أن نكون ممن منحهم الله البصيرة، ضع الله نصب أعينك يتولاك بكل أمورك.
أردت أن أهديء من روع تساؤلاته وقلبه.
* على فكرة يا حاج ( بهيج) لست هاربا من ثأر أو من فعله شنعاء، أنا هارب من الذكريات، ولا تندهش نعم هارب من الذكريات التي كانت جميلة ولكن فجأة ألبسها الحزن رداءة، وأعرف جيداً أنى بحاجة لوقت طويل لأستعيد جمالها.
حينها وجدت يده تربت على يدى بحنان الأبوة، أخذ يفتح الدفاتر واحداً تلو الآخر، هذا وارد الشركات الحكومية، وهذا وارد الشركات الخاصة مقسم بين عدد من الشركات، وهذا صادر للأفراد وهذا للشركات الخاصة، وهذا سجل بأرصدة المخازن كل صنف له ما يخصه من صفحات، للحقيقة الرجل استفاض بالشرح، أخبرني أن على استلام البضاعة والتحقق منها ومن صنوفها حسبما يكون بالفواتير المرفقة، وكذلك الصادر، وجدت نفسى خلال أيام ملما لحد كبير بغالبية الأعمال، أركب السيارة مع الحاج بالصباح، ينزل هو إلى المحل الكبير وتذهب بي السيارة إلى المخازن، وتعود لأخذى بعد الثامنة مساءا، استمر عملي هذا على مدار شهور، حزت فيها على ثقة عم ( بهيج) وصرت ساعده الأيمن، الحاج كان كل فترة يذهب إلى قريته، صحبته أكثر من مرة، ننزل يوم الجمعة الأخيرة من الشهر، من بداية انبلاج الفجر، نصلى الفجر، يركب السيارة الخاصة به ومعه زوجته وابناه الشابان الذى لا يتجاوز عمر أكبرهم السادسة عشرة، يصاحبني أنا وعمى ( بهيج) بسيارة أخرى، أحيانا يكون معنا أحد العمال، وسيارة أخرى تحمل بعضا من العاملين لديه، كانوا يتناوبون الذهاب حسب جدول محدد، نصل إلى ( كفر ربيع) بعد مسيرة تقارب الساعة أو أكثر قليلا، قبل الدخول الى القرية، لابد من المرور على المقابر، يقف أمام مقبرتي أبيه وأمه يقرأ القرآن بصوت مسموع، بعدها يدعو لهم ونحن نردد وراءه، نعود إلى السيارات، يسير متثاقل الأقدام وكأنه يأبى المغادرة، نلمح بريق دموع بعينيه، نذهب بعدها إلى مقدمة حارة شديدة الضيق، ننزل مترجلين، يسير وعلى جانبيه ابناه، ونحن خلفه لمسافة أمتار قليلة، يتوقف أمام باب الحجرة من الواضح أنها ليست كبيرة المساحة، ولنكن منصفين ربما بلا مساحة، يتوقف أمامها يمرر يده على الباب لمرات، اللافتة التي ذهب طلاؤها تحمل اسمه، فهمت أنه المحل الأول الذى بدأ منه، التحايا تلقى عليه ممن يمرون بنا، بل إن البعض يهرول مندفعا محتضنا له ويقبله من كتفيه، نعود إلى السيارات التي تعاود سيرها لحوالي الربع ساعة، حتى نتوقف أمام مبنى كبير من عدد من الطوابق، تنفتح البوابة الكبيرة، ندخل حتى بداية درج السلم المؤدى للبناية، نجد على أحد الجوانب أخيه ( عوض) وزوجته وأولاده، وعلى الجانب الآخر أخته ( انشراح) وزوجها اللواء طبيب ( حسين المعصراوي ) والذى يتخصص في جراحات العظام، سليل الأسرة العريقة والتي قيل عنها الكثير، قالوا إن الأب كان هو الطبيب الخاص للملك، وأنها تملك أكثر من ربع زمام القرية من أراض، تزوجها رغم الرفض القاطع والشديد من كل إخوته وجميعهم أطباء عسكريون، حتى شقيقته الوحيدة ( نجوان هانم) كانت أكثر رفضا من الجميع بداعي أن البون شاسع بين الأسرتين، لم يلق بالا لرفضهم وأصر على زواجها، ما إن انتهت من الثانوية العامة، وكانت زوجته، وبخلال فترة قليلة أثبتت للجميع أن رفضهم لم يكن بمحله على الإطلاق، الكل يقف وكأننا بتشريفة استقبال، الكل يلقى بنفسه إلى أحضانه، أخته تصاحب الزوجة وتدخل بها قبل انتهاء مراسم الاستقبال، ندخل بعدها إلى البهو الرخامي الكبير التي تتوسطه مائدة طعام كبير، طعام الإفطار معد، نجلس جميعا لتناوله، بعدها نعود إلى المدخل، تأتى أكواب الشراب والشاي، تستمر الجلسة وقتا طويلا، أناس تأتى للترحيب، وآخرون يذهبون بعد انتهاء مهمة الترحيب، يرتفع أذان صلاة الجمعة، نتبعه جميعا مترجلين، المسجد الأكبر بالقرية والتي يتوسطها تماما، يفسح له مكاناً بأول الصفوف، الخشوع التام يسود المسجد، تنتهى الصلاة وينهض، الكل يسرع إليه مجيبا له، نخرج وفى أعقابنا عدد لا يحصى، عند باب المنزل نجد عددا من الماشية يمسك بها صبية صغار، يأتي من بعيد جزار وبعض صبيانه، يشير إليه ببدء الذبح، بعد الذبح يبدأ تجهيز لفافات اللحم، وتحميلها على سيارة نصف نقل كبيرة، وتذهب مع بعض عماله لتوزيعها على أهل القرية بلااستثناء، الحاج يجالس رجالات القرية ومن بينهم حسبما أخبرني عمى ( بهيج) المجاور لى والذى كان يكتف ببسمة خفيفة حينما يرى زيادة مساحة الدهشة، يجلس بجوار الحاج مباشرة العمدة الحالي ( صبري عبد الغفار) ابن العائلة التي لها باع كبير بعالم السياسة والبرلمانات وتولى الحقائب الوزارية، وأيضا ( عادل ابو حسين) عائلة لها نفس المكانة وبينهم قرابة ومصاهرات وتنتقل العمودية بين العائلتين بهدوء، لم تجر أي انتخابات بشأن من يكون العمدة؟، الحديث يتشعب بهم بجوانب عدة ولكن مركزها هو القرية ومتطلباتها، عند إعلان الشمس رغبتها بارتداء عباءة الليل، ينهض مصافحا الجميع، تأبط عمى( بهيج ) ذراعي وهو يقول لي.
* لعلك عرفت مما رأيت اليوم أن المحبة هي الثروة وليس المال أو السلطة، دعوات الناس الصادقة هي سبب بركة رزق الحاج، المحبة لا تباع ولا تشترى، ولكنها مواقف وأسلوب حياة، سر أنت أيضاً على هذا النهج، لا تجعل المال أو السلطة همك الأول، محبة الناس هي الأهم وهى الداعم للحياة.
سارت الحياة سيرها المكتوب لها، وكان انغماسي بالعمل وشغفي أن أكون جديرا بالثقة سببا كبيراً بعودة الروح إلي إلى حد كبير رغم أن الحزن يسكنني، وفى صباح يوم أرسل الحاج يستدعيني، ذهبت إليه والكثير من التساؤلات تجتاحني، جلست أمامه منتظرا ما يريد قوله، بعد حديث قصير عن العمل بالمخازن ومجرياته قال.
* ( محمد) سوف تعمل من اليوم على توزيع البضاعة على خط الصعيد، تذهب مع السيارة وتمر على التجار الذين نتعامل معهم وتوزع عليهم البضاعة وتحضر ما يقومون بدفعه من أثمانها، وهذه أيضا فرصة للمرور على قريتك، مرت شهور وأنت بعيد لا تعرف ولا يعرفون عنك شيئا، لابد من طمأنتهم.
أجبته بهزة الرأس، نادى على سائق الشاحنة الكبيرة.
* ( زكى) من الغد ( محمد ) معك بالتوزيع على خط الصعيد، عليك أن تعرفه بكل شيء، ربنا معكم.
جبنا الكثير من الرحلات التسويقية على خط الصعيد، وفى يوم وجدت بي حنينا لقريتي ( الجفادون), فطلبت من ( زكي) السائق أن ننهي جولة اليوم ويذهب بي إليها حتى أذهب لساعات لزيارة الأهل، لم يمانع، بهذا اليوم كانت الأمور ميسرة، انتهينا بعد الظهيرة وأسرع بي إلى قريتي، تغير كبير حدث، بنايات عديدة وعلى طرازات معمارية مختلفة نبتت على جانبي الطريق، حتى طريق المقابر يكاد أن يلتصق ببنايات القرية، أوقفنا الشاحنة بمقدمة الشارع القائم به بيتنا، أصر ( زكي) أن يتركني للذهاب وحدي، هذه لحظة تحتاج خصوصية عائلية، هكذا قال وأضاف آتى إليك بعد ساعتين، وافقته وأخذت الطريق إلى البيت، كلما اقتربت تتصاعد دقات قلبي والعرق تزداد إفرازاته، البيت كما تركته، ولكن الباب مغلق وهذا لم يحدث بأي وقت من أوقات النهار وحتى لساعات الليل التي تسبق النوم، وقفت متسمرا يعتريني القلق، دفعت الباب وكان غير جيد الإغلاق تماما، دخلت كل شيء على حاله، كأنه تركه من أيام أو ساعات أو لحظات، دخلت بخطوات بطيئة
أنادي أبي وأمي وإخوتي، لا إجابة تأتي إلي، مجرد صدى صوت يرد إلي، أخذت الطريق إلى حجرة أبي وأمي، طرقت الباب مرات، لا رد فزادت مساحات قلقي، دفعت الباب ودخلت، أمعنت النظر بمن يرقد على الفراش، إنها أمي ولكن ماذا حدث لها، أصبحت ضامرة الجسد، مجرد هيكل تحت الغطاء، هززتها مرات، بعد وقت طويل فتحت عينيها، انتبهت إلي، قفزت جالسة وأمسكت رأسي بين يديها، تمرر كفيها عليه، تتحقق من وجودي، صاحت بصوت عال.
* ( محمد) أين كنت، أبوك وإخوتك لم يملوا من البحث عنك، أبوك ظل حتى آخر يوم بعمره ينتظرك، مات أبوك من أكثر من شهرين، لماذا تركتنا يا ولدي كلنا راحلون؟.
واحتضنتني بعنفوان لم أعهده بها، وتركت العنان لدموعها وتعانقت معها دموعى،
وجدت نفسى أندفع إلى حضنها وأقبل يديها وقدميها، طالبا منها أن تسامحني.
* يا ولدي لا أب ولا أم لا يتمنون أن يكون أولادهم أفضل منهم، وأبوك حتى آخر أيامه كان يدعو لك ويتمنى عودتك إلى حضنه، ولكن إرادة الله فوق أي إرادة.
فجأة تذكرت ( زكي) نهضت سريعا وأتيت به إلى البيت، وأحضرت له طاجن لبن بالقشدة، نعلم جيدا شغف الكل بهذا الطاجن، وبعدما انتهى منه وشرب الشاي، طلبت منه أن يعود ويتركني للمبيت هذه الليلة مع أهلي وسوف أعود باكرا، وافقني على مضض كان راغباً بوجوده معي، غادر وأخذت طريقي نحو المقابر، وقفت أمام قبر الأب أولا، بكيت كثيرا وطلبت منه أن يسامحني، وطلبت له الرحمة، وذهبت إلى قبر ( بثينة) حدثتها طويلا عن أيامنا الماضية، دعوت لها بالرحمة، عند مغيب الشمس أخذت طريق العودة، وجدت إخوتي ينتظرونني، أحاطوا بي من كل جانب بين أحضانهم وقبلاتهم، جلست معهم وحكيت لهم رحلتي خلال الشهور الماضية، وأنني وجدت نفسي بهذا العمل وسوف أستمر به، وحكوا لى عن بحثهم عني وعن معاناة أبي واعتزاله الحياة بأواخر أيامه حزنا علي، سهرنا حتى ساعة متأخرة من الليل، تركت مبلغا من المال يكون تحت تصرف أمي، وتركت رقم تليفون المحل والمخزن، وعند الفجر صليت معهم بمسجد القرية، وغادرتهم عائدا على وعد بالعودة على فترات متقاربة، دار بي دولاب العمل وأخذني أخذا كبيرا، تعلمت الكثير من عمي ( بهيج) من العمل ومن الحكمة، والحاج صار يعتمد علي بالكثير من الأمور، طرأت على رأسي على مدار أيام وهى أن أكون بائعا متجولا وأبدأ المشوار كما بدأه الحاج، ولكن المشكلة كانت تكمن بكيفية عرض الأمر عليه، ترددت كثيراً ولكن في صباح ذات يوم طلبت منه أن أحدثه بعض الوقت، أشار إلي بالجلوس، الحيرة أمسكت بتلابيب لساني، كلما أردت أن أنطق تتوقف الكلمات ولا تغادر شفتاي، وهو مكتف بالنظر إلي، بعد وقت طويل تكلمت بطريقة أقرب إلى التلعثم.
* عم الحاج هناك أمر أود أن توافق عليه، أنتم أسبغتم علي الكثير من كرمكم وأفضالكم، وأود أن أسير على ذات طريقك من البدايات، أريد أن أكون تاجراً جوالا بالبلاد، امنحني موافقتك وبركتك.
وجدته يضحك بشدة وترتفع ضحكاته ويضرب كفيه، ثم مد يده وأمسك بيدي.
* كنت أنتظر هذه اللحظة، ولمحتها كثيرا بعينيك، منذ أن رأيتك للمرة الأولى رأيت بك شخصي، وكنت أنتظر هذه اللحظة، لك ما تريد شريطة أن تكون كل بضائعك من عندي، وأن تظل قريبا مني، فأنت قريب إلى نفسي.
وجدت نفسي أتناول يده وأقبلها مرات، وهو يزداد ضحكا، سألني.
* هل حددت أماكن تجوالك؟
* لا والله أترك كل شيء للمشيئة.
* أقترح عليك أن تبدأ بالجوار محافظة القليوبية وتوابعها، فقط ضع أمام عينيك أن تكون بشوشا مرنا، لا تظهر التذمر حتى لو طال الجدال معك، تعامل مع الكل على قدر عقولهم، اهتم بمظهرك، المظهر والقول الحسن يفتحان أبواب الرزق والبركة، ليكن الله معك.
* على خيرة الله.
جهزت بضائعي وأخذت طريقي إلى مركز طوخ ولا أدري السبب بهذا الاختيار ولكنه توجه من الله، أخذت البضاعة التي أراها تناسب أهل الريف وتوكلت على الله، نزلت إلى مدينة طوخ، وتركت لله قيادة قدماي، أخذت مواصلات لأقرب قرية، جبت قرى كثيرة باليوم الأول، جبت (كفر الحصة ، السفاينة، العبادلة، وبلدان أخرى)، ولكن ما شدني أكثر هي (كفر منصور )، لا أعرف السبب سوى أني وجدت بها تشابها كبيرا بينها وبين قريتي, أحسست كأني بين ناسي، كثر نزولي بها، وكثر رزقي منها، كنت أجلس مع الرجال على المصاطب أو بين الحقول، نتبادل الحكايا والنكات والقفشات، أتناول معهم أكواب الشاي أو لقيمات من طعامهم، كان الكل يقابلني بالترحاب، لفت نظري على مدار أيام عديدة هذه السيدة التي تجلس أمام بيتها بعد عصر كل يوم، والنسوة يقبلن عليها هاشات باشات، البعض منهن يقبلن يدها أو رأسها، تنصت جيداً لهن، تنهض أحيانا تصطحب إحداهن معها للداخل، يخرجن بعد قليل والسيدة الأخرى لا تتوقف عن الدعاء لها، سيدة لم تتجاوز منتصف العشرينات من العمر، وجه ضحوك دائما، وجه مستدير شاهق البياض مزدان ببعض الخمار، جسد متوسط، تابعتها كثيرا، والتساؤل ينهشني ما حكايتها؟, لم أجرؤ على السؤال عنها، إلى أن كان يوماً، وجدت من يناديني، صوت نسائي، تلفت أبحث عن مصدره، وجدتها تشير إلى أن أذهب إليها، للأمانة سرت متثاقلا بعض الشيء، وقفت قبالتها متسائلا.
* أوامرك يا ست.
أشارت إلى بالجلوس، صبت لي كوبا من العصير، ناولته لي، تجرعته دفعة واحدة، ربما لأخمد تساؤلاتي، تبادلنا النظرات لوقت، ثم سألتني.
* أشعر بأن لك حكاية تخفيها بشاشتك ووجهك البسام، وجهك يخفى الكثير، ومنذ ذلك اليوم الذى أوقفت به شلالات دم كانت من الممكن أن تملأ قريتنا والقرية المجاورة لنا، لن أنسى هذا اليوم، عندما جاء أحد رجال القرية يهرول وهو يصرخ وعلى بعد منه يهرول بعض الرجال والشباب، كان يصرخ:
* يا أهل ( كفر منصور)، عمى (نجاتي الميكانيكي) مات مسموما قتلوه ولاد البلد التي بجوارنا ويعمل بها، خرج الرجال، من يحمل فأسا، ومن يحمل عصا، ومن يحمل سكينا، ومن يحمل بارودة، الأمر ينذر بما لا يمكن أن يحمد عقباه ، كنت أنت آتيا من بعيد، لمحتك لأن الله أراد لي هذا، وجدتك تلقي ما تحمله، وتسرع فاتحا ذراعيك على سعتها، حاول البعض دفعك جانبا ليستمروا لم تتزحزح عن مكانك ولا قيد أنملة واقفا أمام الحشد الذي كان يهرول باتجاه القرية الأخرى، صرخت فيهم.
* أرجوكم اسمعوني، ألم يقل رب العالمين ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة ) أليس من الممكن أن بكون موته قضاءا وقدرا و هذا ما يقرر هذا الطبيب الشرعى، فلنسمع صوت العقل والحكمة، حتى نتبين الأمر وبعدها يكون لكل حادث حديث.
والعجب سكت الجميع وصمتوا وكأن على رؤوسهم الطير وأصابهم الخرس وتبادلوا النظرات، وارتضوا بما قلت، شكلوا عددا من الرجال ذهبوا إلى الوحدة الصحية طالبين النظر بسبب الوفاة، أخبروهم أن عليهم إبلاغ الشرطة لتقوم بإجراءاتها وهذا ما حدث، وتم الإثبات أن الوفاة بسبب هبوط حاد بالدورة الدموية، وكنت أنت السبب في حقن الدماء، وزادت مكانتك بين الجميع، ويومها تأكدت أن لك حكاية وأنك ابن أصول وشهم ولا تخش في الحق لومة لائم، ثم لماذا نذهب بعيدا من أيام كان يزورني العمدة ( بدر السمكي)، وحكى لي حكاية أغرب من الخيال، أنك صديق مقرب للشيخ ( بدير حمدان) شيخ الجامع الكبير، والذى عرفت أنك كنت صديقا مقربا له، حكى لي حكاية لم تنتشر بمدار القرية، لا يعرفها إلا البعض، أنا لم أعرفها إلا منه عندما أتت سيرتك وذكر بعض أفعالك الطيبة، أن أحدهم إدعى كذبا على أحد أبناء الشيخ وأظنه حدده بمن يحمل اسم ( بهاء) أنه اغتصب إحدى الفتيات، وأتى مهرولا إلى العمدة يشكوه، فهو كما قال الرجل الشاكى يمت للبنت بصلة قرابة بعيدة، العمدة لم يصدقه، ولكنه لم يعلن هذا سمع الحكاية، وطلب منه عدم الحديث مع أحد بهذا مطلقا ومنحه مهلة ليتحقق من الأمر ويجد حلا، العمدة كان قد لاحظ غياب الشيخ عن المسجد لأيام بداعي أنه مريض، ولكن ما لفت النظر أنه لم يفتح بابه على الإطلاق لأيام ولم ير أحدا من أهل القرية له أو أولاده الثلاثة، هذا كان مثيرا للدهشة العمدة الذى أخذ طريقه إلى بيت الشيخ ليلا بل تستطيع القول إنه تسلل يلتفت يمنة ويسرة لا يريد لأحد أن يراه، طرق الباب، فتح أحد الأبناء بعد وقت ليس بالقليل، أفسح الإبن الطريق له ، قاده إلى حيث كان يجلس الشيخ، العمدة فوجيء بوجودك ولم يصب بالدهشة، كان يعرف قوة العلاقة بينكما، وأنك أحيانا عندما يحل الليل عليك تنام مع الشيخ كنت أنت تتحدث بهدوء إلى الشيخ طالبا منه أن لا يحمل الأمر أكثر مما يحتمل، فهم العمدة اتجاه الحديث وهذا سهل له ما جاء له، لم يتكلم، سمع منك اقتراحا أدخل السرور على قلب العمدة، لعلك تتذكر ما قلت ليلتها، قلت إن البنت تتهم ( بهاء)، وأنا من داخلي أشعر أنها تدعى عليه ولا تعرف ( بهاء) وأرى أن نعمل مواجهة بين البنت ولكن ليس مع ( بهاء) وحده، بل سيحضر هذه الجلسة أخواه ( نادى، حكيم), تكون الجلسة ببيتك يا عمدة ونطلب منها أن تتعرف على (بهاء) وهنا ستتضح الحقيقة حينها، وبعدها نرى ماذا بعد، الجميع أجمع على حصافة وحكمة الاقتراح، بل إن العمدة نهض من مكانه واندفع إليك محتضنا ومقبلا، تحددت ليلة هذه المواجهة، أتوا بالشيخ وأولاده، وتم إدخالهم إحدى حجرات الدوار وهو ما حدث مع الفتاة ومن يدعي أنه قريبها، بعد جلسة استمع فيها العمدة للبنت عن الواقعة، طلب منهما النهوض معه، أخذهم إلى حيث الشيخ وأولاده وأنت جالسا بأحد الأركان، أجلس الفتاة لم يطلب شيئا لوقت، البنت تتجول بعينيها بين الجميع الحيرة تنتاب نظراتها، فاجأها العمدة أن تنهض من مكانها وتذهب إلى ( بهاء), نهضت بأقدام متثاقلة، وقفت أمام الشباب الثلاثة، التي تتصاعد أنفاسهم انتظارا للحقيقة لتثبت الفعل أو تنفيه، هم على ثقة ويقين من أخلاقهم، البنت بعد وقت طال، تنظر لهم وتنظر للمصاحب لها، ثم اقتربت من أحدهم ومدت يدها وأمسكت بمعصمه هاتفة.
* هو هذا، كررتها كثيرا.
وأسرعت بالجلوس أرضا ترتعش، أصابت كل الوجوه السرور فلقد أشارت إلى ( حكيم).
نهض العمدة منفعلا ممسكا بخناق الرجل، صارخا به.
* قل لنا الحقيقة، لن تخرج من هنا إلا بعد الحقيقة.
حاول التملص نافيا أنه من قال وأخذ يرمي الأمر على البنت أنها من أخبرته بهذا، العمدة عندما وجد ألا طائل نادى خفرائه، طالبا منهم التحفظ على الرجل بحجرة (السلاحليك) بدون فتح أي حديث معه، بعد خروج الرجل طلب الرجل من البنت أن تتكلم بالحقيقة واعدا بالوقوف بجانبها للأخذ بحقها مهما كان الفاعل، قالت إن هذا الرجل لا يمت لها بأي قرابة، وأنه أتى بها من مدينة بنها التي كانت تبيع بأحد شوارعها الخضار، واعدا لها أنه سيتزوجها، وغرر بها وعاشرها مرات عديدة ببيته هنا، ثم تفتق ذهنه أن يلقى الجريمة على أحد شباب القرية وكان ابن الشيخ من اختار بحجة أن الشيخ رجل ضعيف الحيلة ولن يجد بدا إلا تحمل الجربمة، وأقتعها الرجل بهذا، وهى وافقت لأنها كانت قد شعرت بتنصله من فعلته، العمدة طلب إحضار الرجل، وأرسل إلى طلب المأذون، خلال فترة انتظار المأذون كان هدد الرجل إما تحمل فعلته، وإما إبلاغ الشرطة ويتحمل حكم القانون الذي ربما يصل لإعدامه، قبل الرجل، أتى المأذون وعقد عليهما، بعدها طلب العمدة الخفراء بطردهم خارج القرية، وما تم كان من رؤيتك وحكمتك. وغيرها من أمور شاهدتها بعيني، ثم تعاملك مع الناس، بساطتك، بشاشتك لم ألمحك مرة عابسا، حتى الصغار أراهم يهرولون إليك ويمسكون بساقيك وجلبابك، وأنت تضحك بعلو الصوت وتمد يدك تخرج الحلوى وقطع النقود توزعها عليهم مع تعالى ضحكاتك، كما لو أنك طفل مثلهم، أكيد لديك الكثير،افتح قلبك واحك .
* ما الذي يفيدك من حكايتي، بها الكثير من الوجع والقليل من الفرح، وهل أنت بحاجة لزيادة أوجاعك التي أراها مثلما رأيتني؟
* ما عرفته من الحياة أن الوجع موجود داخل كل إنسان، سواء وجعا كبيراً أو صغيرا، والوجع أخي دوما ينادي مثيله.
ولا أعرف ما الذى فك عقدة لساني وجعلني أحكى لها حكايتي من الألف للياء، كانت تسمع ولا تعقب حتى انتهيت، تفرست بي كثيراً، وطال صمتها، تكلمت بالنهاية.
* لك حق أخي لكل منا وجعه الذي يحاول مداراته بأي شكل، الآن فقط عرفت سر بشاشتك وأسلوبك الجيد بالتعامل مع الجميع، أنا مثلك تزوجت ما إن وصلت عمر الثامنة عشر، من رجل كان يعمل مهندساً زراعيا، ويملك خمسة أفدنة، تزوجنا دون أن نعرف بعضنا، كان رجل تجمعت به كل الصفات الحلوة، مشاعر حانية واهتمام وعشرة بكل الاحترام، لم يعلو صوته علي أو تطاول علي بأي شكل، عشت معه ثلاث سنوات، مرت كأنها ثلاثة أيام أو ساعات، وكأنه كان ابن موت، صدمته سيارة وهو بطريقه لمديرية الزراعة بالمركز، بكيته كثيراً، إخوته حاولوا أن يتقربوا لي وأن أتزوج منهم، رفضت، المرحوم وكأنه كان يشعر بأن عمره قصير فوجئنا بأنه كتب كل ما يملك لي، وحفظ هذه الأوراق التي تثبت هذا مع أحد مشايخ البلد كان يثق به، جن جنون إخوته عندما علموا بهذا، وزاد ضغطهم علي للزواج من أحدهم بهدف أن يضعوا أيديهم على ما ترك أ خوهم، رفضت ومازلت أرفض، الوجوه والأردية تخفي الكثير من أوجاعنا، هل صدقت أن الوجع يشعر بالوجع ويناديه ، لم أخبرك باسمى، أنا ( تحية أبو السعود بكر), ترملت وأنا كنت بالحادية والعشرين من العمر، كان هذا من ثلاث سنوات، ما يصبرني هو محبة الناس لى، أرضي أشرف على زراعتها، والحمد لله ربنا مبارك لي بها، وأنا حريصة على حق الله فيما تنتجه. لكل منا وجعه الخاص، تكررت مرات الجلوس معها، بدأت العيون تنظر إلينا كثيرا وهذا أمر أزعجني كثيرا، بداخلي نداءات لها، جذبتني بمكانتها ومحبة الناس لها، وفى يوم قررت أن أصلى صلاة استخارة مرات ومرات، في كل مرة كنت أجد ترحيبا من الله مما أنتويه، بعد شهور منذ جلستنا الأولى، ذهبت إليها ألقيت التحية عليها، وبلا مقدمات تكلمت.
* ست ( تحية) لدي عرض لك وأتمنى قرارك بصراحة.
* أي عرض؟
* أجد نفسى مشدودا لك وأفكر بك كثيرا، وقد استخرت الله كثيرا، وقد وجدت ارتياحاً وترحيبا من ربي، بوضوح أود أن أتزوجك.
علت أمارات الدهشة ملامحها وتضرجت وجنتاها، وفتحت عينيها على سعتهما دهشة.
* هل تتكلم جد؟
* بكل الجد.
* بصراحة لا أعرف كيف أرد، فقط امنحني أياما للتفكير, وإن أراد الله فلا راد لأمره.
* يلزمك كم من الوقت؟
* يومان أو ثلاثة.
* على خير بإذن الله.
ونهضت آخذا طريقي للانصراف، لم أنزل القرية لثلاثة أيام، رأيت أن وجودي ربما يكون ضغطا عليها وعلى قرارها، وفي اليوم الرابع، وبساعات اليوم الباكرة أخذت الطريق هذه المرة بلا بضائع، وجدتها تجلس نفس الجلسة فقط هي أيضا مبكرة عن موعدها المعتاد بعض الساعات، وقفت قبالتها صامتاً مجرد عينان ترسل لها نظرات متسائلة، النسوة اللاتي كن يجلسن معها غادروا وكأنهم فهموا أن هناك أمرا خاصاً، لم أتفوه بلفظ، هي أيضا لم تتكلم مجرد إشارة من يدها إلي بالجلوس، جلست ونظراتي تتوسل إليها بالحديث، بعد دقائق مرت كأنها ساعات نطقت.
* ( محمد ) أخي ينتظرك.
* أخيك لم تحدثيني عنه من قبل.
* لم تكن هناك فرصة الحديث عنه، هو أخي الوحيد، يكبرني بثلاثة سنوات، موظف ربنا يعينه على كوم اللحم، لديه خمسة أولاد، أنا لا أبخل عليه بشيء، كلمته عنك وهو ينتظرك، عليك أنت أن تختار الوقت وأنا أخبره.
* أذهب له بالغد بأمر الله بعد العشاء، فقط سؤالي ما جوابك أنت؟
* سوف تعرف من أخي كل شيء، لا تتعجل.
أومأت لها بالرأس وطلبت أن تأذن لي بالمغادرة، غادرت وأنا أكاد أصرخ لكل المارة، أني سوف أتزوج ( تحية بكر), أخذت الطريق إلى القاهرة ومن فوري إلى الحاج ( محفوظ العربي) الذى لم أنقطع عنه مطلقا، هو عندي أب روحي، استشعر أن هناك أمرا ما يشغل بالي، كان يجالسه البعض، طلب منهم أن يتركوه لبعض الوقت، جلست إليه حكيت له عن ( تحية) استمع بكل حواسه إلي ثم قال.
* على بركة الله، ربنا يجعلها زيجة خير لكما.
شكرته وأخبرته أنه سيكون معي غدا لزيارة أخيها، وافق على الفور، غادرته إلى سكنى الذي اخترته بعد أن تركت العمل لديه، ألقيت بنفسي على الفراش وذهبت بالنوم العميق، صحوت غاية بالنشاط، عند العاشرة صباحاً أخذت طريقي إلى الحاج ( محفوظ) الذي ما إن ،رأني حتى علت ضحكاته.
* أنت متعجل، هناك أمر فاتك، أنه لابد من حضور الوالدة حتى تفرح بك وتخرج من حالة الحزن التي تعيشها منذ وفاة أبيك، سوف أجعل سائق يذهب بك إلى قريتك، ويعود بك والوالدة بأمر الله قبل العصر، بعدها نتحرك إلى ( كفر منصور) هيا لا تضيع الوقت.
نادى على أحد السائقين طالبا منه أن يذهب معي إلى قريتي، شكرته لأنه تذكر أمرا تاه عن خاطري، دخلت بيتنا ناديت على أمي، سمعت صوتها الواهن يرد علي، عرفت أنها بحجرتها، دخلت عليها، فتحت ذراعيها على سعتهما، ألقيت نفسى داخل حضنها، وجدت دموعاً تنهمر من عينيها، بللت صدري، ضغطت علي بقوة وكأنها تعتصرني، أخذت تقبلني، خرجت الكلمات من شفتيها متقطعة.
* تعرف اليوم توقعت حضورك، لأنى رأيتك بالحلم تدخل علي هاشا باشا، ومن تلمسي لوجهك الآن، مؤكدا هناك خبر سار ربما يزيح بعض الوجع الذي عشناه الفترات الأخيرة.
أطلقتني من حضنها، جلست مجاورا لها على فراشها، أخذت يديها أقبلها مرات متتالية.
* بالفعل يا أمي أحمل لك خبرا ربما يسعدك.
وضعت يدها على فمي، وصاحت بصوت عفي.
* دعني أخمن ما هو؟, أنت قررت الزواج، والله والله والله هذا ما تخيلته على مدار الأيام الماضية.
أخذتها بحضني أقبل كل ماأصل إليه من جسدها.
* سبحان الله، صدقت يا أمي، أنت قريبة من الله لذا قلبك صادق، هيا انهضي لترتدي ثيابك وتأتي معي للذهاب إلى العروس، أنتظرك وسوف أذهب أخبر إخوتي أنك معي ليومين أو ثلاثة وحتى أجعلهم يفرحون.
خرجت إلى السيارة، طلبت من السائق أن يسرع بي إلى طريق الحقل الذى حددت له مساره، عشر دقائق كنا نتوقف أمام الحقل، إخوتي منهمكين بالعمل، لم يلفت نظرهم السيارة التي توقفت، نزلت صحت بهم، أسرعوا إلي كل منهم يحتضني، أخبرتهم أنى ذاهب أنا والأم لخطبة من أريدها، هللوا فرحا، غادرتهم وصيحات الفرح تصاحبني، حتى زغاريد نسائهن ، عدت مسرعا إلى البيت، وجدت أمي على أهبة الاستعداد، نظرت إليها مندهشا، ليست هي أمي التي غادرتها من لحظات، عادت كأنها لم تعرف الكهولة، تناولت يدها، وأجلستها بالمقعد الخلفي، طوال الطريق أجدها تربت على ظهرى، التفت إليها لأجد وجهها مشرقا كأن الشمس متعامدة عليه، ولكنها بين اللحظة واللحظة كانت تتمتم همسا كأنها تكلم نفسها.
* آه وآه يا (عيسوي), كم تمنيت أن تعيش اللحظة، مؤكدا روحك معنا. ومؤكد أنت سعيد الآن لفرح ابنك.
بعد حوالي الساعة أو يزيد وصلنا إلى المحل الكبير، وجدت الحاج قد ارتدى بذلة غاية بالأناقة، وهى من المرات النادرة التي رأيته يرتدى البذلة، استقبل أمي بترحاب شديد، صرف السائق. وهو يطلب منه أن يأتي بالسيارة الخاصة به، أصر على أن يقود السيارة بنفسه، طوال الطريق يرحب بالأم ويبارك لي، كاسيت الردايو يذيع أغاني أفراح، توقفت السيارة بمدخل ( كفر منصور)، للسؤال عن منزل( محمد بكر) شقيقها، قادنا أحد الرجال إلى بيته، نزلت أنا أولا أطرق الباب، فتح لي الباب صاحب البيت الذي أسرع بالترحيب بنا، نزل الحاج والأم، دخلنا إلى حيث أشار إلينا، إلى حجرة الصالون، الترحاب بنا كان فوق المعتاد، لكزت الحاج ( الحاج محفوظ) ليبادر بالكلام.
* يا حاج ( محمد) جئنا نطلب يد الست ( تحية) لتكون زوجة لابننا ( محمد).
* يا عم الحاج مما عرفته من أختي عن ( محمد) يجعلني أكون مطمئنا له لأني سمعت عنه الكثير من أهل القرية، وهذا أمر نادر هذه الأيام، ولكن لابد من معرفة رأي ( تحية) فهذه حياتها وهي أدرى بمصلحتها, وسوف أدعوها لتقول رأيها، هي بالداخل سوف أناديها.
نهض واقترب من الباب ونادى عليها وعاد لمكان جلوسه ثانية، بعد دقائق دخلت وجلست مجاورة لأخيها الذي أخبرها بطلب الحاج، ردت بلا تردد.
* أوافق فقط لي شرط أو طلب، وهو أن يترك مهنة البائع المتجول، ويفتح محلا لبيع الأقمشة وأنا لدي بالبيت محل كبير.
قلت على الفور وبلا تفكير.
* أوافق مقابل طلب، هو أن أدفع الإيجار لها، تم التوافق على هذا، وطلب الحاج قراءة الفاتحة، وبعدها أشارت إليها الأم تدعوها للجلوس مجاورة لها، لبت دعوتها، احتضنتها الأم وقبلتها، وقالت بصوت مسموع جيدا.
* أرى بك زوجة تفهم الحياة، وأتمنى أن تكوني وجه خير لكما معا. ما سأقوله ليس به مبالغة، أراك للمرة الأولى ولكن القلوب تقول دوما أن هذا قريب من القلب وذاك لا يفتح له القلب، وأنا اقول إن قلبي ارتاح لك بصدق، وأقول لكما أنتما الاثنين أن تتجاهلا الأمس كأنه لم يكن، كأنكما تولدان من جديد، أن تحيا حياتكما بمحبة ربنا يكتب لكما السعادة.
ثم عاودت احتضانها من جديد وأمطرتها بسيل من القبلات.
تم الإتفاق على كل شيء بمنتهى الأريحية والتفاهم، تم الاتفاق على الزفاف بخلال شهر، اتفقا على أن يقيم ببيتها دون غضاضة، وأصر هو على تجهيز البيت بكل ما يلزمه من الأثاث الجديد، حاولت معه أن لا داعى لهذا، البيت به كل شيء، أصر وقال لنبدأ الحياة وكل ما حولنا جديد، أخذ موافقتها بعد جهد كبير على إقامة حفل زفاف يليق بها, كان يتوسل للأيام أن تسرع، كل وقته كان لتجهيزات كل شيء، بعد مرور الشهر، أقيم سرادق أمام بيتها، وصدعت أغاني الأفراح، ورقص الجميع على عزف المزمار، الحاج ( محفوظ) فاجأهم بتقديم سلسلة ذهبية هدية لها، دخلا إلى البيت بعد الليلة الصاخبة فرحا، قاما بالصلاة للشكر لله على اقترانهما والدعاء بأن يمن عليهما ببركته، كان لديهما ظن أنهما لن ينجبا، هي تزوجت لسنوات وهو تزوج لسنوات ولم ينعما بالذرية، بداخلهما يقين أنهما تزوجا للأنس والأمان، مضت الأيام سعيدة، افتتح المحل وزوده الحاج ببضاعة كبيرة، كان المحل فاتحة خير عليه، بخلال شهور قليلة ذاع صيته، والإقبال عليه يزداد كل يوم، الأيام تمضى هانئة، لا تغيير بنمطها سوى كل أسبوعين يذهبان لقريته ليوم أو يومين، حتى كان يوم أحست بآلام حادة، أسرع بها إلى أقرب مستشفى، تم الكشف عليها وهو بالخارج لا يستقر على حال، حتى خرج الطبيب بوجهه المشرق المبتسم، اقترب منه ووضع يده على كتفه قائلا له
* مبارك، الست حامل.
أمسك بذراع الطبيب بقوة, طالبا أن يكرر ما قال، كرر الطبيب قوله مرات، احتضن الطبيب بقوة وأخذ يقبله بل كاد أن يراقصه, هرول إلى حجرة الكشف، مال عليها قبلها من جبينها مرات، هو وهى لفهما الصمت لم ينطقا بأي كلمة، اكتفيا بحديث العيون، وعدها حين استقرار الحمل سينحر ذبائح ويقيم ليلة إنشاد دينىي، طالبها بالراحة التامة وأحضر لها سيدة من أبناء القرية لخدمتها، حينما أرسل رسالة إلى أمه وإخوته يبشرهم بالخبر، جاءت الأم بصحبة بعض الإخوة، الأم لا تفارق الزوجة أيام تواجدها، تصلى وتدعو بصوت مسموع والدعاء يخرج مصحوبا بدموعها الساخنة فرحا بأنها سترى لابنها أبناء، الأيام تمر، بعد تأكده من استقرار الحمل وأنها بصحة جيدة، نحر الذبائح وجاء بمنشدين ولاعبي التنورة، ليلة طال حكى القرية عنها، كانا يعدان الأيام والليالي لتكتحل أعينهم بحلم ظناه مستحيلا ولكنه سيتحقق بأمر الله، بالأسبوع الأخير من الحمل جاءت الأم رغم كهولتها وتعرضها لبعض أمراض الشيخوخة مصرة أن تستقبل المولود الأول لابنها، الوقت يمر ثقيلا وهو يزرع الصالة ذهابا و مجيئا ويرتل سور القرآن بصوت عال، سمع صوت بكاء طفل، رقص داخله فرحا، انتظر فتح الغرفة ومناداته ليرى طفله وليؤذن بأذنيه، طال انتظاره والقلق ينهش أحشاءه، وصدره يعلو ويهبط بصوت مسموع أشبه باللهاث، فتح الباب عن أمه ووجهها ملئ فرحا ومضاء، صرخت به.
* مبروووك يا ولدى ربنا رزقك ببنت وولد، بسم الله ما شاء الله.
لم يستوعب كلام أمه، اندفع داخلا، وجد ( تحية) كأنها لم تكن بلحظة مخاض صعبة ، محياها ينطق فرحا، وإن كان ممتلئا بقطرات العرق، أشارت إلى قطعتي اللحم الصغيرتين، حملهما واحدا تلو الآخر قبلهما أخذ يؤذن بصوت خفيض داخل آذانهم، كان يود أن يحتضنهما ولكنه خاف عليهما من حنينه، وضعهما بهدوء، مال عليها قبل جبينها مرددا.
* حمدا لله على السلامة يا وجه السعد، ربت عليها بكل الحنان، مدت يدها وأمسكت بيده، همست له بوهن.
* سوف أسميهما أنا هذه المرة وإن أراد الله غيرها لك أن تسميهم.
* هذا حقك، سميهما كما تريدين، ليس لدي أي مانع.
* سوف أسمى البنت ( بثينة) ولا تندهش، أنا تعلقت بك بسبب حبك لها، وسوف أسمى الولد ( عيسوي) على اسم أبيك الذى لم أره ولكنى عرفته من حكاياتك عنه
مال ثانية على جبينها مقبلا لها، أخذ عهدا على نفسه أن يقيم عقيقة تليق بفرحته التي لولا الحياء لكان قد رقص، الأم أصرت على القيام بخدمة زوجة ابنها والتوأم حتى تستطيع أن تقف على قدميها وتعود إلى كامل صحتها، بل إنها أشعرت الجميع أنها ألقت من على كاهلها عشرات السنين، أغلبية وقته صار مخصصا للجلوس بالبيت يضع أحد الأبناء على ساقه ويكلمه كأنه يفهم، ترك التجارة لأخ له كان قد أصر على وجوده معه عندما أيقن عدم ترحابه بعالم الزراعة، أتى به وابتنى له بيتا قريبا من بيته، تفتحت أبواب الرزق بشكل غير متخيل، راجت تجارته وأصبحت مطلبا لأبناء القرية والقرى المجاورة، عند مضى أربعين يوما من الولادة، نحر الذبائح بلا عدد وأقام الموائد واستضاف الكثيرين من قريته ومن التجار وكان على رأسهم الحاج ( محفوظ العربي)، الذى شاركه الفرحة كأنه ابن من أبنائه، أخذت الأيام بالتسارع، وكلما مر يوم تزداد تجارته، أيقن أن الوقت حان لفتح محلات أخرى بالقرى المجاورة أو حتى لمدينة (طوخ)، ذهب إلى الحاج وجالسه طالبا مشورته، لم يبخل عليه بالنصح، بدأ بمحلين بقريتين مجاورتين، من نصائح الحاج أن يأخذ الأمور تدريجياً حتى تتضح الأمور، الأولاد يكبرون أمام عينيه، تحول إلى طفل باللعب معهما رغم عدم إدراكهما، بعد مرور ثلاثة سنوات على الولادة حملت ثانية، لم يصدقا أنفسهما، كانا يظنان أنهما أرض بوار غير قابلة للإنجاب ولكن الله يرسل عليهما منحه الكثيرة، وهذه المرة توأم أيضا، تمت تسميتهما ( سعيد) اشتقاقا من اسم والدها ( أبو السعود), ( محفوظ) على اسم الحاج الذى كان سببا سببه رب العالمين لما هو فيه الآن, الجدة كانت تأتى على فترات لترى أحفادها منه، ولكنه بالزيارة الأخيرة أصر على إقامتها إقامة دائمة معه، جادلت كثيرا وقالت له مرارا.
* لا أستطيع أن أبتعد عن مكان به أبوك.
وعدها أنه سيأخذها كل فترة إلى هناك، وبالإلحاح لانت، الأيام تسرع بما أراده الله لها، وتجارته تزداد رواجا، كان كل شهر يعد كشفا عن حسابات المحلات، وعندما يتحدد مقدار الأرباح، يسارع بتجنيب نسبة محددة، هى حق الله، يقوم بتوزيعه بنفسه على أهل القرية وأهل قريته، أو يساعد لإعمار مساجد أو مدارس، تزداد أواصر علاقاته بأهل القرية، حتى إنهم أصبحوا يقصدونه لأخذ مشورته بأمور كثيرة منها ما هو عام ومنها ماهو خاص، وكان لا يبخل بالنصيحة على أحد، جاء الحمل الثالث بعد أكثر من أربعة أعوام، وكان مرهقا لها على غير المرتين السابقتين، حتى عند الولادة تعذبت كثيرا، بل إن الموت اقترب منها أثناء الولادة، وكان أيضا توأما، حمد الله على سلامتها، وأخذ قرارا أن لا حمل آخر، يكفى ما عانته بولادتها الأخيرة، التجارة تزداد نموا، وكان يقوم بشراء أراض زراعية كلما سنحت له الفرصة، بعد مضى العشر سنوات الأولى كان قد اقترب من أهل القرية، صار واحدا منهم بل إن الأمر أنه أصبح خبيرا بالكثير من شئونها، وكان يدعى للمجالس التي تنظر في شكايات أهلها، بل أصبح الملجأ والملاذ للكثيرين بأتون إليه يشكون من أمورهم الحياتية، يهون الأمر عليهم ويعطيهم النصيحة أو يساهم بالحل إن كانت شأنا ماليا، كان أحيانا يجلس لحاله ويشرد ويستعيد الأمس، يبتسم عندما يجد نفسه شبيها لوالده بالكثير من الطقوس، وكان الأب قبل رحيله ترك له عباءته ليرتديها هو بديلا عنه، بمرور الأعوام كان قد أتى بأولاد إخوته للعمل معه، وهذا لم يمنعه أيضا أن يذهب لقريته على فترات، وأيضا قام بشراء الأراضي الزراعية وكلف إخوته بزراعتها، وأقام مسجدا كبيرا بقريته باسم والده رحمه الله، الأيام تسرع به والرزق يزداد مع هرولتها، عندما يبلغ أحد من أبنائه سن الخامسة من العمر يأتي له بمحفظ القرآن الكريم، لم ينغص حياته إلا عندما عاد أحد أبناء القرية من غربة طالت لأكثر من ثلاثين عاما، لم يسمع به من قبل، منذ حضوره وكلما أراد شراء أرض زراعية معروضة للبيع يجده يزايد عليه ويرفع السعر، وكأنه أتى من غربته خصيصا ليزاحمه، سأل عنه، قال الكثيرون إنه ابن وحيد لوالديه الذين رحلا من سنوات بعيدة ولم يحضر جنازة أي منهما، وليس له أي أقارب بالقرية ولم يشاهدوا لهم أقارب، كان كثير المشاغبات والمشاحنات، كثيرا ما كان الأهالي يذهبون للشكوى لوالده الذى كان يعمل( قبانيا) يزن الغلال والقطن والأرز وغيرها لحساب الجمعية الزراعية والأهالي والشركات، كان يكتف بتطييب خاطرهم خاتما هذا بجمله اشتهر بها، طفل والأطفال دوما يجلبون المتاعب لأهاليهم، سامحوه، الاسم ( خالد نعمان مطاوع), بالكاد حصل على شهادة الصنائع، من يومه وهو متمرد، كان تحصيله التعليمي قليلا وبمشقة وكان يقوم كل عام بتعديل درجات شهادته بمعاونة بعض زملائه، عندما انتهى من التعليم الصناعي، قرر الذهاب الى أوروبا، وبيوم صحا الأب والأم لم يجداه، قالا ربما كعادته خرج، ولكنه لم يعد وطال انتظارهما، لم تلفت نظرهما هذه القصاصة الورقية الملقاة على فراشه، بعد مرور عدة أيام وبعد أن تقرحت عيون الأم، وزادت كهولة الأب كثيرا، الأم دخلت إلى حجرة الابن لإعادة ترتيبها، وقعت عيناها على القصاصة، فتحت قرأت.
* أنا سأسافر إلى أوروبا، ربما أعوض خيبتي التي تأبى إلا مرافقتي، سامحوني غادرت بلا وداع، أنا ما صدقت وجدت صديقا لى يصحبني معه برحلة السفر رغم يساره المالي، والده رجل صاحب سلطة، ومؤكد له معارف بالدولة الأوربية التي سنذهب إليها، سامحوني و ادعوا لي، رحلت لأغير من نفسى ومن نظرة الناس إلي، الناس الذين يحرضون أبناءهم على عدم الاقتراب مني، فأصبحت منبوذا، سأعود مؤكدا وأنا إنسان آخر، دعواتكم.
لم يكن أمامهما إلا البكاء المصحوب بالدعاء، وكان رحيله سببا في مرض الأب والأم فقد ازدادت أعمارهما على غير الحقيقة، كان الابن الوحيد، كان يرسل إليهما رسائل مقتضبة السلام وطمأنهم عليه وليس أكثر من هذا، أحيانا كان يرسل حوالات بمبالغ قليلة، عرفوا من رسائله وحوالاته أنه بألمانيا، على مدار أكثر من عشرة أعوام لم يفكر بزيارة القرية وأهله، كل يوم كان يمر كانت الكهولة تمسك بتلابيب الأب والأم، فكر بالنزول إلى القرية بعد أكثر من خمسة عشر عاما، وعندما نزل فوجيء أن هناك جنازة حاشدة بالقرية بأكملها وراء الجثمان، سأل أحدهم من الذى مات، رد عليه ( الحاج نعمان مطاوع), كان الذهول قد تملكه، بكى كثيراً، بعض الأهالي عرفوه رغم تغير هيئته، واسوه، أصر على عمل سرادق عزاء، دخل على أمه، لايصدق ما يرى، لقد أصبحت ضامرة الجسد، بكى بين يديها وهى اكتفت بالرد عليه قائلة.
* أبوك كان ينتظرك وعندما مل من الانتظار ذهب إلى خالقه.
السرادق كان لا يفرغ من المعزين، الرجل كان محبوبا من الجميع، مكث بالقرية عشرة أيام، وأعلن الرحيل بعد أن جلب لأمه سيدة ترعاها أثناء غيابه، ومنحها راتب عام بالكامل مخبرا لها أنه سيرسل لها كل عام ما يعادل راتبها، الأم عاودت البكاء، حاولت معه أن يستقر معها، أخبرها أنه لم يعد وحيدا، هناك أسرة تنتظره، أخبرها أنه تزوج وله طفلان، رجته كثيرا أن لا يطيل الغياب ويحضر مع أولاده وزوجته لتراهم قبل اللحاق بأبيه، وعدها أن يفعل، سافر وطال سفره لسنوات لا يعرف أحد عددها، الأم تزداد مرضا وكهولة، لم يفكر بالزيارة ولو للحظة، كان شغله الشاغل هو جمع المال بشراهة، كان قد تزوج بعد وجوده بألمانيا بعامين، من سيدة تكبره لأكثر من خمسة أعوام، أرملة ثرية جدا، لم تنجب من زوجها، جذبها بوسامته وبلغته التي يعبر بها، تزوجها مؤكدا ليس حبا لها بل الحب الأول لثرائها، أنجب منها بنتا وولدين، كل يوم يمر عليه تزداد تخمته الثرائية من مال وعقارات، والقدر تصاريفه العجيبة، مشهد تشييع جثمان أبيه وتواجده صدفة يتكرر ، حدث نفس المشهد بحذافيره مرة أخرى ووجوده مصادفة أثناء تشييع جنازتها، انقطع الخيط الأخير الذى يربطه بالقرية، ولكنه لم يفرط بالبيت المبنى على مساحة كبيرة والمكان مميز وأغلقه، طال غيابه هذه المرة لأكثر من عشرين عاما، وكان حضوره مفاجئا، جاء بصحبة أولاد ه، ثار تساؤل من أهل القرية عن زوجته، لم يجدوا إجابة باللحظة والتو، جاءت إليهم بعد أسابيع وعن طريق مجموعته التي لا تتركه للنوم وان كانوا يتمنون أن يظلوا جاثمين على أنفاسه طوال الوقت بأن الزوجة ماتت من سنوات، أوكل تجهيز البيت على شكل مغاير لما هو متواجد بالقرية وربما بالمركز، أقام خلال التجهيزات بأحد فنادق القاهرة، يأتي وحده لمتابعة الأعمال، أولاده وزوجاتهم وزوج الابنة انشغلوا بالرحلات والحفلات بالمدينة، لم تستهويهم الإقامة بالريف، بظرف شهور كان البيت قد تحول إلى قصر، ارتفع بالبناء لأدوار عدة، جهزه بالأثاث الراقي، كان أهل القرية يمرون أمامه وهم بحالة ذهول، المبنى شديد الفخامة لم يروه من قبل, عاد إليه ومعه الأولاد للإقامة به رغم بعض الامتعاض من أولاده ولكنه تغلب على هذا بتوفير كل أنواع التكنولوجيا من شاشات تليفزيونية وشاشات عرض، وغيرها مما تفرزه الأيام من تكنولوجيا، التف حوله مجموعة ممن لا عمل لهم ولا حياة لهم إلا التسول ومجالسة من يرحب بهم، يتملقونه ويثنون عليه وهو سعيد تنتفخ مسامعه ويتلون وجهه فرحا، أدخل أحدهم برأسه أن يشترى أراضي، الأرض أسعارها بتزايد، وافق، يدلونه على قطع الأراضي المعروضة للبيع، يتفقون مع البائع على سعر مغالى به نظير حصولهم على. جزء من السعر، تابعوا تحركات ( محمد البرنس), كلما علموا أنه بطريق شراء أرض يسرعون إلى البائع يخبرونه أنهم سيأتون له بسعر أعلى، البرنس لم يهتم، كعادته يقول، الرزق رزق الله ومن له نصيب بشيء جاء إليه، استمر الأمر لسنوات، ( خالد) تزداد أعداد المنتفعين من حوله، مأكل ومشرب وسهرات وأموال تهبط عليهم بلا طلب وبلا عدد، علاقته بأهل القرية ليست جيدة، يرون به غرورا وتعاليا، حتى جاء يوم وكان قد أفرط بالشراب، خرج للجلوس أمام القصر، يضع ساقا فوق ساق، مرتديا بدلة شديدة الفخامة، يتبادل الحديث مع مريديه الذين على استعداد لعمل عجين الفلاحة حتى تستمر منافعهم، فجأة صرخ بصوت عال دهش له الجميع.
* المال يشترى كل شيء حتى الناس، وأنا أملك أموالا بلا إحصاء، إذا أستطيع شراء كل الناس. أستطيع شراء الذمم والضمائر، كررها مرات ومرات.
وعلت قهقهاته، كان هناك من يمر أمامهم، سمعوا هذا القول، أصابهم بكرامتهم، القول انتقل سريعا حتى علمت به القرية، ذهب إليه البعض من رجالات القرية، سألوه عن صحة ما قال، لم يهتم بسؤالهم، قال نعم قلت وسأقول بالمال تستطيع أن تشترى كل شيء، حتى البشر، احتدوا عليه وصاحوا بوجهه.
* المال ممكن يشترى من يشبهك ممن هو نسى صلة الرحم وباعها من أجل مال زائل، من لا يحترمنا لا بقاء له هنا. حاول إفهامهم أن قوله هذا يقصد به أناس بأعينهم وليس الكل، لم يتجاوبوا مع مبرره، وطلبوا منه المغادرة والعودة إلى ألمانيا، عرضوا عليه أن يبيع البيت وأراضيه، رفض بتاتا وصرخ بهم، لن أبيع شيئا، البيت هو ما بقي لي من ذكرى من فرطت بهم، كل ركن يذكرني بهم ولن أسمح لنفسي أن أخذلهم مرة أخرى، طال الجدال بينهم، بالأخير توصلوا لحل يرضي الجميع، يغادر على أن يحضر كل فترة لمراعاة البيت والأراضي التي اشتراها، وافقوه ورشحوا له أحدهم للإشراف على أرضه، وافقهم على اختيارهم لأنه كان سمع كثيرا عن أمانة ( محمود السني)، والبيت أغلفه بالكثير من ألوان الإغلاق وأخذ منهم عهدا بالحفاظ عليه وتوفير الحماية له من السطو أو الإتلاف، العمدة وكان حاضرا قرر تخصيص أحد الخفراء للمرور بشكل دائم ليلا، أخبروه أيضا أن ريع الأرض سيودع له بحسابه بالبنك الذى يحدده لهم، بعد أيام غادر عائدا إلى ألمانيا، وصار يأتي وحيدا كل فترة يعيش بالبيت لأيام، يلتف به الذين لا عمل لهم إلا التنقل بين الموائد، من هم على استعداد لتزييف مشاعرهم وضمائرهم، كان يعيش بعزلة ولكنه لا يلق بالا لهذا، فقد تعلم من سنوات الغربة ألا يحرك ساكنا، تعلم أن لا يسمح لدمائه أن تثور ، يقضى أيامه التي تمضى سريعا ويغادر، ولكن من به طبع لا يبتعد عنه، حال وجودة بالقرية يتدخل بشكل غير مباشر في الكثير من أمورها، حال اختيار مجالس إدارات لمركز الشباب يسدد قيمة الاشتراكات ليكون منهم جبهة تساعد على نجاح أشخاص بأعينهم، وكذلك الحال بمجالس الآباء بالمدارس، أو الوقوف بجانب مرشح للمجالس النيابية لا يلق قبولا لدى أهل القرية، لا يعنيه إن كان له شعبية أم لا، كل ما يهمه أن يسير عكس التيار يشجعه على هذا جوقة المنتفعين الذين يزدادون كل عودة له، كان دوما يشارك بالجنازات والأفراح بلا أي دعوات توجه له ، كان يحاول أن يجد نفسه واحدا منهم، ولكنهم كانوا ينظرون إليه على أنه نبت شيطاني، من يفرط بأهله من أجل المال يستطيع أن يفرط بأي شئ، يسير وهم خلفه مثل تشريفة رئاسية، وكان ينجح إلى حد ما بماله بالسيطرة على هذه الأمور، هو من الصنف الذى يبحث عن تواجد له لإثبات ذاته حتى لو كان هذا على غير المألوف والمعتاد، رغم من يلتف حوله ورغم يساره المالي إلا أنه كان يعيش غريبا، لا وجود له بين أهل القرية، الغربة قرينة خطواته وحياته، استمر ذهابه ومجيؤه لقرابة العشرة أعوام حتى كان ذات صباح، أتت ثلته المعتادة، جلسوا القرفصاء كعادتهم أمام باب البيت، طال انتظارهم ولم يفتح الباب، طال انتظارهم حتى اقترب أذان الظهر، هم يعلمون أنه بالداخل، انتابهم القلق، هرولوا إلى العمدة وأخبروه بهواجسهم، سارع بالاتصال بالمركز عارضا الأمر والتخوف، نصف ساعة وكانت صوت سيارات النجدة يملأ المكان، الأهالي خرجوا على صوتها، هرولوا وراء السيارات، قام كبير الشرطة بطرق الباب ورجاله مرات، ولاجدوى مما جعله يصدر أمرا بفتح الباب عنوة، أشار بيده طالبا التصدي لأي محاولة من الأهالي للدخول، دخل بصحبة بعض رجاله والعمدة ونائبة، أخذوا ينادون عليه لا رد يأتي إليهم سوى صدى أصواتهم، دخلوا إلى حجرة نومه، مستلقى على سريرة بملابس النوم، تخيلوا أنه غارق بالنوم، هزه العمدة مرارا بطلب من كبير الشرطة، ولا حركة، وضع أذنه على صدرة لا وجود لأنفاس تفيد أنه حي، رفع العمدة نظره قائلا، هو ميت، سارع الضابط بالاتصال بالطبيب الشرعي ليفيد سبب الوفاة، جاء مسرعا، أجرى الكشف الطبي وقال إن الموت طبيعي، هبوط حاد بالدورة الدموية، كتب تقريره وجاءت الموافقة على دفنه حيث لا شبهة جنائية، ساعات وكان الجثمان جاهزا لمواراته الثرى، القرية كلها خرجت تشيعه، الريف بهذه اللحظات ينسى كل شيء، يتذكر الواجب أغلق البيت مع تشديد الحراسة، هم لا يعرفون طريقا كي يخبروا أولاده أسابيع مرت وأتى ابن له ليطمئن عليه، هم حاولوا الاتصال به مرارا ولا طائل، علم بالوفاة لم يمتعض فقط طلب زيارة مقبرته، أمضى أمامها ساعة يتمتم بلغته الأجنبية، عاد بعدها إلى البيت، مكث به أيام، وغادر تاركا البيت تحت حراسة العمدة على وعد بمعاودة الزيارات على فترات متقاربة هو وإخوته ، أتى أحد الأبناء شبيها لأبيه تماما ملامحا وجسدا، فتح البيت وأقام به وكان على خلاف طباع أبيه، تقارب وتباسط مع الجميع، شاركهم كل مناسباتهم، يجلس أمام البيت عصر كل يوم أمامه مائدة مليئة بصنوف عدة من الحلوى، ينادى الأطفال يعطيهم ويمرر يده على رؤوسهم حنانا، لم يستغرق الأمر طويلا حتى وجد نفسه كأنه عاش هنا طوال عمره رغم حديثه المصحوب باللكنة الأجنبية، ذهب مرة واحدة إلى ألمانيا، غاب أسابيع وعاد بصحبة زوجة شاهقة البياض والشعر الأشقر المنسدل حتى ردفيها، عاش وعاشت بين أهل القرية مع مضي الوقت نسوا لكنتهم وانصهروا داخل بوتقة كل شيء بالقرية، والجميل أنه كان حريصا بأن لا يكون له من يلتف حوله من أجل انتفاعات ومصالح، وأصبح كأنه ولد وعاش كل سنواته بالقرية ولم يغادرها، يرتدي الجلباب ويجلس على المصاطب يتناول الشاي أو لقيمات من اللبن الرائب، تدخل البيت تجد بصالته صورة كبيرة للجد وأخرى للجدة، بحث عن حكاياتهم لدى معمري القرية، يسمع طرف من حكايات جده وجدته من هنا وهناك، يحاول لملمة الحكايا ليصنع منها بالنهاية كل الحكاية التي يفهم منها الجد والجد، ولكن لم يعرف فالحكايات التي سمعها متناقضة بها ما لا يستوعبه العقل ولا يصدقه، الحكايات بمجتمعنا تزداد إلى آلاف الحكايات وكثيرا ما تنجرف الى الخيال والتزييف، ولكنه عشق سماع الحكايا عن كل شيء وتحقق أن لكل شيء على وجه الارض له حكاياته، كان دوما يردد هؤلاء جذوري، والإنسان بلا جذور كأنه ريشة فى مهب الريح، تصوف وكان يحضر حلقات الذكر حتى أن البعض أطلق عليه لقب ( الشيخ وحيد),ونسى الجميع سيرة أبيه ورحبوا له كل الترحيب، الأيام تسير مع ( محمد البرنس), هذا اللقب الذى أطلقته عليه ( تحية ) منذ اللقاء الأول ومازالت تناديه به للآن، سارت الأيام كما كان يحلم، البركة بالرزق، وزيادة مساحة العلاقات، وقيامه بزيارة الحاج ( مختار) على فترات، لاشيء ينغص معيشته، الأم أصابتها كل أمراض الشيخوخة، جاب بها على الأطباء، التعافي كان بطيئا، إلى أن كان يوم صحا من نومه على صرخات ألم تصدر من غرفة أمه، هرول إليها وجدها بحالة غياب عن الوعى، تصرخ وتنادى على زوجها:
* ( عيسوي) انتظرني.
تناديه وتنادى أباها وأمها، ليست واعية ، أسرع يستدعى طبيبا، الطبيب بعد مناظرة الحالة صارحه أنها بلحظاتها الأخيرة، ربما يطول بها هذا اللاوعي لأيام أو ساعات الله أعلم، حديث الدكتور أصابه بالهم والقلق، لم يغادر حجرتها، كان صراخها يؤلمه، ويبكى لأنه لا يملك من الأمر شيئا، الشفاء أو عدمه هو قرار من الله، ثلاثة أيام وصراخها ونداؤها على الأموات من أهلها، باللحظات أفاقت من غيبوبتها ومدت يدها احتوت يده ضغطت عليها بقوة شديدة ونظرت إليه وقذفت من فمها الكلمات الأخيرة بحياتها.
* قلبي وربي راضين عليك يا ولدي، أدفن بالقرب من أبيك .
ونطقت الشهادة بصوت واهن وأسلمت الروح إلى بارئها، بهذا اليوم بكى وكأنه لم يبك من قبل، استجمع رباطة جأشه، وطلب من ( تحية) أن تقوم بتنفيذ وصية الأم التى قالت لهم من سنوات أن من يقوم على غسلها هي (تحية), استدعت زوجة أخيها وسيدة أخرى تعمل بغسيل الموتى وتكفينهم، قام بالاتصال بإخوته المقيمين بالقرية، أخبرهم بالوفاة وأن يعدوا المقبرة، ويذيعوا الخبر بالقرية، وأنه سيأتي مع سيارة الإسعاف هو ومن معه من إخوته وأبنائهم، تمت كل الأشياء المقرونة بالوفاة بيسر، بعض رجالات القرية ونسائها أصروا على مصاحبة الجثمان حتى مثواه الأخير، القرية كلها خرجت عن بكرة أبيها لتشييع الجثمان، سرادق كبير للغاية أقيم لاستقبال المعزين، السرادق لا يفرغ مطلقا، المقريء يضطر لقراءة قصار السور حتى يدخل المتواجدين بكثرة خارج السرادق، استمر الأمر على مدار ثلاثة أيام، ثم كان استقبال المعزين بالبيت، على مدار أسبوع كامل، عاد إلى تجارته ولكنه عاد وكأنه قد أصبح بعمر السبعين أو يزيد، غابت عنه الابتسامة التي كانت تزين وجهه، الأم هي اليتم الحقيقي للإنسان، أقبل على تجارته بشيء من الجهود المتناهية محاولة للنسيان، توسعت تجارته وزادت فروعه، الأولاد يكبرون أمام عينيه، كان قد ألحقهم بمدارس خاصة كبرى، أراد أن يرى بهم ما كان يحلم به، الكل كان منكب على التعليم بشكل يبشر بنجاحات وتميز إلا ( عيسوي) كان غير مقبل على التعليم، عشق اللعب والسهر، ما إن حصل على الشهادة الإعدادية إلا وصارح أبيه أن لا رغبة لديه للتعليم وأنه راغب في العمل معه، بعد محاولات مضنية لإثنائه عن هذا التفكير وافقه، الأولاد الآخرون كان بهم شغف للتعلم، وهذا كان يثلج صدره الذي كان به بعض الوجع، لعدم رغبة ابنه البكري بالتعليم، ولكنه في قرارة نفسه قال، لنمنحه الفرصة ربما يكون فعلا مفيدا، وهذا ما أثبتته الأيام، استوعب العمل سريعا، وكان صاحب حنكة بالتعامل مع كل المجريات، أولاده نالوا من التعليم أقصى مدى، وكانوا من المشهود لهم بالنبوغ، لم يكتفوا بالتعليم الجامعي، أصروا على استكمال الدراسة بالخارج، كلهم أخذوا طريق الطب، لكل منهم تخصصه الذى برع فيه, حتى باختيارهم لزوجاتهم وزوج الابنة كان صائبا لحد كبير، رغم أن أولاده الذكور تزوجوا من أجنبيات، ولكنهم كانوا قريبي الشبه بالطباع المصرية، وزوج الابنة كان طبيبا شهيرا، طلب منهم أن يتجمعوا جميعا بالبيت على أوقات متقاربة وأن يتفقوا على مواعيد مناسبة للجميع، وهو ما تم تنفيذه بشكل تام، وأضاف مطلبا كان بكل وقت يجالسهم به أن لا ينزعوا عنهم عباءة مجتمعهم الذي عاشوا به وعاش بهم، طالبهم بالحفاظ على التقاليد والقيم التي هي عنوان الإنسان إن نزعها أصبح مثل ريشة في مهب الريح، يتمرجح يمنة ويسرة دون أن يستطيع الوقوف على أرض صلبة ، كلما مر وقت كان يزداد حيثية ومكانة بالقرية، حتى أيقن أنه وجد لنفسه مكانا قويا مع أهلها، لا يتذكر أنه بيوم من الأيام خرج عن شعوره، منذ قرابة العشر سنوات جاءته رسالة من الحاج ( محفوظ العربي) عن طريق ابن له بضرورة الحضور على وجه السرعة، هرع من فوره إليه، دخل إلى غرفة نومه، وجده قد فقد الكثير من وزنه،وضاعت منه أمارات الحياة إلى حد كبير، انطفأ بريق عينيه الذي كان معروفا به، مال عليه مقبلا رأسه ويديه، أشار إليه بالجلوس بجانبه على الفراش، طلب من الابن أن يستدعي باقي إخوته، أتوا مسرعين أشار لهم بالجلوس قريبين منه، تكلم بصوت شديد الوهن.
* أظن جميعكم تعرفون ( محمد ) جيدا، وتعرفون كم أنا أقدره وأعتبره واحدا منكم، من أول لحظة عرفته وجدت فيه الأصالة والشهامة والأمانة، كل هذا تأكد مع مرور الزمن، وأنا بحالتي الصحية هذا، وشعوري بدنو الأجل، جمعتكم لأقول لكم، حافظوا على ميراث تعبت كثيرا حتى كان مثلما ترونه الآن، أعرف أن الكثير منكم لا يعرف شيئا عن تجارتنا، ولكن ما أقوله أمانة بأعناقكم، حافظوا على ما بنيت, لا يجب أن يغيب اسم ( العربي) من على المحلات أيا كانت المغريات، ( محمد) معكم يعلمكم ويفهمكم، وأنا واثق من أمانته معكم حتى تستطيعوا الوقوف بقوة وصلابة بالسوق، عاهدوني على تنفيذ الوصية،.
تمت المعاهدة، تهللت أساريره، أشار لأولاده بالخروج استبقى( محمدا), أمسك بيده بقوة وقال بصوت أصابته القوة.
* لا تجعلهم يغيبون عن عينيك، تابع شئونهم، حتى تتأكد أنهم أصبحوا على دراية بالسوق، وإن سولت لهم أنفسهم بالبيع، تكون أنت المشترى، فقط لي وصية عندك أنت، أن يظل اسم ( العربي) كما هو على واجهات المحلات، عدني بهذا.
عاهده ومال على يديه ورأ سه وأخذ يقبله كثيرا والدموع تنساب بشدة، من داخله كاد الشعور يقول إن هذا اللقاء يكون الأخير للحاج على وجه الحياة، طلب الإذن بالانصراف، هو إذن للهرب من هذه اللحظة القاسية، خرج يهرول خافيا دموعه، قامعا لصوت بكائه، قدماه تكادان تلتفان حول بعضهما، الرجل ليس مجرد رجل فتح له باب الحياة والعمل، هو عنده الأب والراعي والناصح الأمين، ماكاد يصل إلى قرب الباب حتى تعالى الصراخ، أدرك حينها أن أباه الروحي قد لبى النداء، لم يشعر بنفسه إلا أن الدوار أصابه وكاد يغشى عليه، تساند على الجدار وجلس القرفصاء واضعاً رأسه بين ساقيه، يبكى ويجهش بالبكاء، يمر برأسه شريط معرفته بالحاج، كلما تذكر مشهدا كلما زاد عويله، وكلما سمع الصراخ يزداد بكاءا، تمالك نفسه وأسرع بهرولة واهنة إلى الداخل، وجد الكل يبكى مر البكاء، والنساء يولولون بهستيريا، طلب من الأبناء أن يهدأوا للنظر في الإجراءات، ثم عليهم إرسال الخبر إلى أهل القرية ليستعدوا، طلب منهم تأجيل تشيع الجثمان ليوم حتى يتم تعريف الجميع، الحاج له علاقاته وله محبوه، وافقوه على الرأي وأخذوا بالاتصالات بكل المعارف وأهل القرية، لم تمض ساعات إلا وكان البيت محاطا بالمئات من الناس، السيارات تأتي محملة، حتى أهل القرية لم ينتظروا جاؤوا مهرولين، تم تجهيز كل الإجراءات وتم الاتفاق أنه عند العاشرة من صباح الغد تبدأ رحلة الذهاب للقرية لتشييع جثمانه وإقامة سرادق العزاء، لم يغمض لأحد جفن، الكل يتحدث عن الحاج وأفضاله على الجميع وبعض مواقفه التي لا تنسى، عند الصباح تم تجهيز كل شيء، عربة الإسعاف حملت الجثمان، وقافلة السيارات بكل أنواعها يسير خلفها على مسافات طويلة، وسائل الإعلام أيضا جاءت بكل ألوانها، حتى إن الجميع فوجيء بطائرة تسير بمحاذاة الرحلة وتصور الجنارة، عند الوصول للقرية كانت قد خرجت بالكامل وعن بكرة أبيها وأيضا بعض البلدان المجاورة، العويل والصراخ والبكاء وكل ألوان الحزن والأسى هي السمة الأساسية لكل الوجوه، حتى بعض رجالات الدولة أتوا للمشاركة في مراسم الجنازة، لثلاث أيام وليال، وفود المشيعين لا تنقطع، أذيعت لقطات من الجنازة ببعض القنوات، عاد من مراسم العزاء تملؤه كل ألوان الحزن والكآبة، بل إنه أغلق الباب على نفسه لأيام وعافت نفسه الطعام إلا لقيمات قليلة بعد رجاءات من زوجته، تمر الأيام بحلوها ومرها وهو لا يتوانى عن زيارة أبناء الحاج، ويتابع تجارته التي تتنامى، مرما يقرب من أربعين عاما وهو زوج لم يحدث أن أحس بأي ملل أو تغير، مازالت حريصة على مناداته ( البرنس), مازالت هي من يقوم بعمل الطعام له رغم وجود من يعمل بالبيت، مازالت تمد يدها باللقيمات الأولى وتطعمه بيدها، مازالت تقوم بوضع عباءته عليه، تربت عليه تدعو له، بعد أن ترك الإدارة لولده( عيسوي) أصبح يكتفي بالجلوس أمام المحل، يتابع عن كثب مسيرة العمل، تنفرج أساريره عندما يرى أن دولاب العمل يسير على ذات منهجه، أحيانا قليلة ما يتدخل لإبداء النصح والرأي ببعض الأمور. كثيرا ما يطلب من ابنه أن يصحبه بجوله على أفرع محلاته، يطمئن على سير العمل حسبما وضع أساسه، محلاته يتولى إداراتها أولاد إخوته، يجلس يستمع بما يشبه التقرير عن كل شيء خلال الفترة الماضية وما ينقصهم من بضائع وعن بضائع يوجد طلب شديد عليها وأخرى الطلب شحيح عليها، يعود بعدها منفرج الأسارير وقد علت قسماته كل ألوان السعادة لنجاحاته، يتمتم من يعرف الله الله يكون دائما راعيا له.

 

شارك مع أصدقائك