علي حسن الفواز
الحديث عن تقويض المركزيات، بما فيها مركزيات السلطة والأيديولوجيا، وحتى الفحولة، قد يكون مدخلاً استفزازياً ومُثيرا للحديث عن مواجهة تاريخ الخوف والرعب في ذاكرتنا العربية، إذ لعبت هذه المركزيات دورا فاضحا واستعلائيا في التسويغ السياسي و»الشرعي» للسلطة، وفي تكريس ثنائية مرعبة للعصابي والاجتماعي، ولثنائيات «السيد والعبد» بتوصيف هيغل، والشيخ والمريد بالتوصيف الصوفي، والمستعمر والتابع بتعبير سبيفاك، وهذا ما استدعى أن يكون «الحفر» الثقافي في تابو المركزيات مقاربة إبستمولوجية، تهدف إلى تأطير فعل التقويض، بوصفه قوة ضد معرفية، مثلما هو استئناف لأسئلة يطرحها المقموع في الاجتماع الثقافي، حول كلَ ما له علاقة بالمضمر والمخفي في ذلك الاجتماع، وبتاريخ السلطة، بوصفها علاقات رعب، شوهاء ومعطوبة وطاردة، وأن طرحها يعني وعياً بخطورة ذلك المكبوت والمخفي، والمتواري في متون السير والمرويات وكتب الفقه والمغازي، التي تحمل في نمطها الحاكم تمثلات ما صنعه الفقه المؤسسي و»المثقف» المؤسسي. التاريخ المُضاد، أو تاريخ المخفيات، هو تاريخ تقترحه «التسريبات النسقية» عبر إعادة إنتاج خطاب «المعارضة» أو قراءة المخفي في مدونات الضحايا، وعبر الحكايات التي رواها، أو كتبها معارضون، وعلماء كلام ومتصوفة و»فلاسفة» ومعتزلة وبعض الشخصيات القلقة في الإسلام، إذ وجد هؤلاء في كتابة «النص التاريخي الضدي» أفقا لاستدعاء «المتخيل التاريخي» وعلى نحوٍ استدعى معه كشفاً لبعض خفايا الصراع والقمع والطرد في ذلك التاريخ، بدءا من كتابات أبو حيان التوحيدي وابن عربي وابن الراوندي وأبو عيسى الوراق، وغيرهم، وصولا إلى الحكايات الروائية التي كتبها جورجي زيدان في سيره ومروياته عن أعلام وشخصيات وأحداث ليست بعيدة عما هو مركزي في التاريخ العربي الإسلامي. الروائيون المعاصرون وجدوا في هذا التأسيس «المُستَفِز» حافزا، لمقاربة أكثر تجاوزا، في التعاطي مع التاريخ، ومع سردياته، بوصفها أنساقا مُضمرة، وعبر منح «المتخيّل التاريخي» طاقة تُتيح للسارد استفزاز التابو، والحفر في مدونات وميثولوجيات وأساطير قديمة، كانت تُثير معها الأسئلة التي تخصّ المسكوت عنه، أو المحذوف منه، حدّ أن سردنة ذلك التاريخ، بدت الأكثر تمثيلاً للتاريخ ذاته، إذ أدرك الروائي أنه أمام مدونات وثائق غامرة بالتناقض، كتبتها السلطة، أو الجماعة بالمعنى الفقهي، وأن السرد هو اللعبة الماكرة لتسويغ التقويض، ولكتابة ما يشبه «نص الاختلاف» إزاء ما هو مهيمن أيديولوجيا و»شرعياً» لما يمكن تسميته بالتاريخ الطويل لنص المطابقة، الذي هو نصٌ غير بريء، فهو نص النقل والقوة والسلطة والثروة. هذه الـ»لا براءة» هي العتبة التي باتت تستفز هذا المتخيّل، للمجاهرة بـ»نص التقويض» ولاصطناع مرويات أخرى تخلو من الترف التأليفي، أو ربما تاريخ آخر، هو قناع، أكثر مما هو تمثيل لحدث أو سيرة، حيث تتكشف من خلال سردياته شراهة الصراع، وعيوب مركزيات السلطة، والأيديولوجيا، وحتى اعتباطية تداول المفاهيم التي تخص الهوية والنمط والمعنى والحرية، والعلاقة مع الآخر، إذ بات الروائي يكتب هذه الرواية المؤرخنة، وكأنها روايته الشخصية، بوصفها رهاناً على المغايرة، وعلى فعل التقويض والتجاوز، وعلى وعي الكتابة، في جدّتها، وفي حيوية السرد، عبر الجرأة في إنجاع فعل التأليف، وليضع السارد وكأنه شبيهٌ بحكواتي «المُقامة» الذي يُحرك بطلاً ماكراً، ومحتالاً وشاطراً ومخذولاً، تتحول معه الحكاية إلى خطابٍ، يقوم على الفضح، وعلى شراهة التخيّل السردي، وعبر سردنة اللغة، حيث اصطناع الشكل اللغوي الذي يستوعب مجريات الصراع، وللتوسل بالمحكي عبر تكثيف الحكي كما تسميه أسماء الزهراني، ما يعني تكثيف المجاز، وعبر إغواء المسرود له في التعاطي مع تاريخٍ غامض وملتبس، ويحتاج إلى الحفر السردي دائما. الكتابة المضادة وسحر السرد حين يخلط السرديون وظائف البطل والسارد، فإنهم يخلطون بذلك السير الذاتية بالسرد، ويقترحون للقارئ/ المسرود له كتابة مضادة تسوّغ هذا الخلط، وتجعله ضمن تداولية مجالها الاستعاري، الموارب والمُثير في آن، والذي يهدف إلى تسويغ نقض التمركز، واستكناه خطاب المعارضة، عبر كشف الحُجب عن مخفيات «السر» بما فيه المخفي السلطوي، وعلى نحوٍ يجعل هذا الفضح – السياسي والطبقي والاجتماعي – في سياق لعبة ماكرة تواجه الكثير من «التسقيط» الأيديولوجي، والفقهي، لذا كانت تلك الكتابات تهرب إلى جزالة التأويل، وإلى شطارة التسريب النسقي، عبر تمثّلات «المبنى السردي» وعبر ما يتبدّى فيه من العلامات والرموز والاستعارات، كموجّهات خطابية للترويج عن مواقف ضدية، وعن توضيح صورة الراوي والكلامي، وصولا إلى تسويغ ذلك وأنسنته عبر صورة البطل الإشكالي في ثوريته، وفي خذلانه، وفي صعلكته، وطرده، وهو بذلك يكون انعكاساً لـ«براديغما» البطل العربي، في تعاليه، وفي خذلانه الثوري أو الحزبي، أو المنافوي، وحتى الحديث عن أقلمة الرواية في مجالها المحلي لا يعني سوى بحثها عن المختلف، وعن عقد الهوية، ومأزق الوجود، وكأن هناك صورا تتعدد، لكنها تتقارب، لاسيما إزاء رهابات الغربنة، والتعولم والنفي والتهاجر، وهي قضايا خرجت من المقاربة الأنثروبولوجية، لتبدو وكأنها وقائع عربية، عبر ظواهر استشرى فيها العنف والعزل والصراع الديني والطائفي، مقابل تغوّل السلطة العربية، التي أسهمت في مراحل لاحقة في تسويغ الثورات الاحتجاجية، والبحث عن «النقاء الأيديولوجي والعصابي» وصولا إلى بروز الهجرات العربية إلى أوروبا، كظاهرة يتفجّر عبرها العجز والرثاثة و»موت التاريخ». قد تكون بلاغة الحكي هي واجهة للقوة الضدية، والمبررة الدافعة للمجاهرة بكتابة النص الفاضح لذلك المخفي، لكنها ستكون أيضا مجالا للتعبير عن أزمة مركزية التاريخ، من خلال إعطاء السرد زخما في التأليف والتأويل، وبما يجعل من تلك البلاغة، وعياً متعاليا، ضديا، يخصّ متطلبات فعل التخيّل في السرد، مثلما يخص مقتضيات بنائه. في سياق مواجهة هذه الأزمات، لم تعد الجغرافيا مانعة، بل تلبست الكثير من قضاياها بتمثلات سردية، تقوّضت فيها المرويات الكبرى التي صنعها «تاريخ السلطة والجماعة» مقابل التشظي داخل سرديات صغرى، هي أكثر توحشاً في تعبيرها عن عقدة الهوية والوجود، مثل الإرهاب والعنف والكراهية والخواء الوجودي والجنسي. البحث عن الذات المخفية، والمُهربة عبر النسق صار هاجسا، وسؤالا وجوديا لمواجهة محنة التشظي، والسقوط في متاهة الآخر، أو ربما في متاهة «التاريخ الميت» وهو ما نجده في العديد من الروايات المعاصرة، تلك التي تتجوهر حول الذات المأزمة، والباحثة عن وجودها من خلال وعيها للمكان المأزوم، والهوية المأزومة، والجسد المأزوم، فضلا عن أزمتها علاقتها بالآخر عبر تمثلات الحرية والجنس والعنف، كما قرأناه في كتابات الطاهر بن جلون، وأحمد المديني والحبيب السالمي وإبراهيم الكوني، مقابل قراءتنا لكتابات محمد خضير وطالب الرفاعي ومحمد حسن علوان. هذه الكتابات قد تكون شكلا للكتابات الضدية، حيث يتجلى خطاب تلك الذات وهي تبحث عن هويتها في اللغة، أو في الجنس، أو في المنفى، وعبر تقانات يحضر فيها السرد بوصفه قوة نظيرة، أو حتى ماحية، تقترح مجالا مفتوحا للقراءة والتلقي، واستفزازات تتجاوز المسكوت عنه إلى سرديات فاضحة، تُعرّي المضموم، وتكشف عن المحذوف، وتبرر وجود أمكنةٍ عربية، لا تصلح إلّا أن تكون «دوستوبيات» تسوّغ خذلان البطل وثورته، وتدفع «المتخيّل» إلى اجتراح مساحة، أو متاهةٍ، أو سجنٍ أو مشفى، وفق ما يطرحه ميشيل فوكو للايهام بـ»موت الإنسان» كنظير لموت التاريخ، والذي يتبدى من خلال ميتات صاخبة مثل ميتات الثورة والأيديولوجيا والحزب والأمة. بلاغة الحكي قد تكون بلاغة الحكي هي واجهة للقوة الضدية، والمبررة الدافعة للمجاهرة بكتابة النص الفاضح لذلك المخفي، لكنها ستكون أيضا مجالا للتعبير عن أزمة مركزية التاريخ، من خلال إعطاء السرد زخما في التأليف والتأويل، وبما يجعل من تلك البلاغة، وعياً متعاليا، ضديا، يخصّ متطلبات فعل التخيّل في السرد، مثلما يخص مقتضيات بنائه، وتوظيف «المتخيّل السردي» كآلية تُغذّي طاقته، على مستوى التصرّف بلغة السرد وهويته بوصفها خطاباً، أو على مستوى إقناع القارئ بفاعلية الحدث السردي، على حساب الحدث التاريخي، ومقابل ضدي لما هو قارّ في اللاوعي الجمعي.. بلاغة الحكي ستكون هي الواسطة، مثلما هي المجال الذي ينطلق من فكرة «أدبية أو شعرية النص» إذ تتلبّس هذه الشعرية حيوية الخطاب، لكي يستأنف من خلاله المؤلف وعيه المغامر للكتابة، ولجعل المتخيّل لعبة تؤدي وظيفة استدارج القارئ إلى النص المسرود، والى الانفتاح على عالمٍ يؤسس له المؤلف بنية تمثيلية في الزمن السردي إزاء الزمن التاريخي، وفي المكان السردي إزاء المكان التاريخي، وهذه الثنائيات لا تدخل في سياق سيري، أو في سياق خبري، بل في سياق تأليفي يُحرر «التاريخ» من موته، أو من مركزيته، ووضعه في السرد كمجازٍ قابل للاستعمال، ولاكتساب معانٍ جديدة عبر بلاغة ذلك الحكي، وعبر إثراء «سردية التصريح» بعيدا عن حساسية الإخفاء، إذ باتت الرواية الجديدة قرينة بهذا التصريح، وباشتغالاته المفتوحة على الحرية في توظيف تقانة بلاغة الحكي عبر حُسن تشغيل المجاز والاستعارة والقناع والتورية. ما نقرأه في روايات المتخيّل التاريخي، تضعنا أمام مسؤولية مركبة، أولها نقد التاريخ، وثانيها فضح المسكوت عنه، وثالثها نقد السلطة/ سلطة الإيوان والمخزن والواعظ، ورابعها حيوية الكتابة الضد، إذ تستدعي العناصر الثلاثة، العنصر الرابع بوصفه مادة التقويض، وواسطته في إنجاع فعل التأليف، وفي تحبيك الأحداث، ليس فقط للتخلّص من عبء المرجع التاريخي، بل للنظر للتاريخ بوصفه مجالاً قابلاً للقراءة، وللتأويل، بوصفه يملك كثيرا من «فائض المعنى» كما ذهب إليه بول ريكور. كتابات ضدية ما كتبه محمد حسن علوان، وبن سالم حميش ورضوى عاشور في سرديات التاريخ، يفتح أفقاً لتلمّس المخفي، ولحيوية الروائي في أن يكتب نصه الضدي، وأنْ يقترح منصة أخرى لقراءة التاريخ، عبر مقترحات السرد، أو عبر النص المؤلَف بعد تقويض مرجعياته، وأحسب أن هذه اللعبة الخطيرة، هي رهان على إمكانية قراءة التاريخ في تابواته وفي مركزياته، وفي مرجعياته التي انغلقت على النقل، لاسيما في مراحل تاريخية انغلق فيها الاجتهاد، وأضحت اشتراطات علم الكلام مرهونة بالظاهر النقلي، وبالحماية المؤسسية والفقيه له.. السرد، أو الكتابة الضدية قد تكون خيارا، لكنه خيار محفوف بالخطر، لاسيما وأنّ الخطاب النقلي ما زال مهيمنا، وأنّ الخطاب العقلي لا حماية له، سوى تهويمات ذلك السرد، وهي تتوسل بإنجاز تآليف لا تُعنى بالتقويض بوصفه هدماً، بل بوصفه الريكوري الذي يوسّع مديات البحث عن المعنى، وإرجاء الثابت إلى ما هو متحرك، ومفتوح على مجازات تفصح عن قصدية هذه الكتابة، وعن الوعي بها، بوصفها خروجاً عن «المطابقة» إلى «الاختلاف» أو ربما جعلها وعياً بما هو «حيٌّ» في الماضي، وعزلاّ للنص الذي عتّقته السلطة، وفرضته كنوع من الحاكمية التي لا تقبل المغايرة، وربما التفكير بجعلها تأسيساً لخطاب تنويري يكون جوهره السرد، بوصف هذا السرد يملك حيوية التقويض، ومساءلة الغائب عبر الحاضر، وليس العكس.. أحسب أن التفكير بهذا المعطى، يمكنه جعل بلاغة السرد، هي المدخل للكتابة الضدية، مثلما هي التسويغ المقبول للحديث عن التنوير، وإعادة النظر بـ»تاريخ العقل» أي إعادة النظر بما هو مخفي في تاريخ علم الكلام المعتزلي، والتصوّف، والكثير من السير والمغازي التي تم إقصاؤها من قبل سلطة التاريخ ذاته..