الروائي المصري
أحمد طايل
-١-
…( مكى سكة)…
اليوم من أيام ديسمبر، الشمس أعلنت الرحيل قبل موعدها، الرياح الشديدة التى تتلاعب بكل شئ، بالبشر العائدين من حقولهم ومعهم ماشيتهم يتطوحون يميناً ويساراً من شدتها وكل سقوف بيوت القرية من قش الأرز وحطب القطن والذرة تتراقص فوق البيوت رقصا أشبه برقص المخمورين بلا تناسق برقصاتهم، حتى الأبواب والنوافذ شاركت وتركت نفسها لكل هذا للتلاعب بها، والغيوم المعتمة ألقت بكل أنواع عباءتها على كل شيء، ضاع الخيط الأبيض بين الخيوط السوداء، الظلام الحالك يسود كل الأرجاء إلا بعض الأضواء لمصابيح مضاءة ولكنها أيضا ترتعش، تتوهج إضاءتها وتخفت حسب قوة هبات الريح التي تخترق كل البيوت دون أي إذن، محطة القطار بمحطة ( طوخ بالقليوبية), مجرد رصيف بطول لا يتجاوز العشرة أمتار من كل جانب، وآرائك خشبية متهالكة لو تم الجلوس عليها ببعض القوة ربما تسقط بالجالس عليها، حجرة ناظر المحطة حجرة صغيرة يعمل بها موظف يحضر بالثامنة صباحاً ويغادر بالسابعة مساءا، ويتناوب مع آخر يأتي بالسابعة مساءاً ويغادر بالسابعة صباحا، يقوم كلاهما بكل الأعمال، صرف تذاكر، استقبال إشارات القطارات الآتية من الجانبين من اتجاه ( بنها) أو من اتجاه (القاهرة), أيضا المرور على عمال المزلقان بشكل منتظم لضمان عدم حدوث ما يؤدي إلى بعض الحوادث، ( مكي بهلول) أو ( مكي سكة) كما يطلق عليه كل المسافرين ولكن ذات اللقب لا يطلق على زميله ( محسب بحيري), ولا يدري سببا في عدم إطلاق لقب ( سكة ) عليه هو الآخر، لم يتوصل إلى إجابة، ولكنه أحال الأمر إلى أنه ليس من أبناء مكان عمله لذا نال هذا اللقب الذى أصبح مرافقا له حتى أنه نس لقب عائلته ( بهلول)، هكذا أهل الأماكن دوما يميزون الغرباء بكنيات معينة، هو الذى يعمل بهذا العمل من قرابة الخمسة عشر عاما، عندما فشل بإكمال تعليمه، وصل إلى الصف الثالث الاعدادي بطلوع الروح، ولكنه لم يستطع المرور منها مطلقا لعامين متتالين، أخرجه الأب الذي كان يعمل بالسرايا الوحيدة ( بكفر منصور) والمملوكة لسليل العائلة التي تتولى زمام القرية من زمن لا يعي أحد من أبناء القرية تاريخ هذا تحديدا، العمودية تنتقل بين أبنائها بكل سلاسة، لم يحدث يوماً أن تجرأ أحد لمحاولة اقتناصها، ( حامد باشا الطحاوي)، ولده الذى كان يتبوأ موقعا سياديا هاما، توسط الأب عنده ليحصل ولده على وظيفة، وفر له العمل بمصلحة السكك الحديدية، بدأ عاملا عاديا ممن يمرون على القضبان للتأكد من صلاحيتها وإزاحة تراكم الزلط أو بعض الأشياء الأخرى، وبالحاح دائم من أبيه إلى الباشا الصغير ( حافظ الطحاوي) تم إلحاقه بهذه الوظيفة من حوالي سته أعوام، وكان يتمنى أن يستمر تواجد البشوات الكبير والصغير ليدفعا به إلى الأبعد من هذا، ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، مات الباشا الكبير، والصغير تم تولى حقيبة سفير بإحدى الدول الكبرى، ولم يعد إلى القرية إلا مرات قليلة كل عدة أعوام، وأصبح الوصول إليه أيضا صعبا، سلم أمره لله راضيا وقانعا، فقد نال ما لم ينله بعض قرنائه من عمل، الوساطات والعلاقات يكون لها نصيب كبير من توجيه دفة الأمور كما تريد وحسب البوصلة التي تريدها، إلا هذا اليوم كان على ( مكى) الاستمرار بالعمل طوال اليوم والليلة نظراً لظروف ألمت بزميلة الذي أرسل ابنته تخبره بهذا، ورغم تأففه إلا أنه لايملك أن يبد رفضاً، تبرم لبعض الوقت ولكنه همس حينها لنفسه، الناس لبعضها، الرصيف خالي من الجانبين إلا من نفر قليل يعد على أصابع اليد الواحدة، تمنى أن تأتي القطارات وتقذف بهم إلى أحشائها، مؤكدا ليس هناك من مجانين يأتون بهذا الحال من (زعابيب) الرياح التي تكنس كل شيء أمامها بالإضافة إلى الظلام الدامس، فالقرية بهذه الفترة تعيش على لمبات نمرة عشرة ونمرة خمسة وبعض (الكلوبات )التي يملتكها بعض الميسورين حالا وأصحاب الكلمة العليا بالقرية، القطارات تمر كل ساعة ذهاباً وإيابا، يمضي الوقت عنده بارتشاف الكثير من أكواب الشاي شديد القتامة ظنا منه مثل الكثيرين أن مثل هذا الشاي يؤدي إلى اليقظة، والجلوس على المقعد الوحيد مستندا بشكل كبير إلى ظهره مادا قدميه، ربما أحيانا تنتابه بعض مداعبات النعاس له، يقوم برفضها بالإسراع بالنهوض فجأة والسير بالغرفة مرات عديدة وكأنه بطابور مدرسي أو طابور عسكري، يتمطى كثيراً ويقذف وجهه ببعض الماء، يفتح النافذة الصغيرة بالغرفة ليتلقى دفقات من الريح لتوقظ خلاياه جميعها من محاولة النوم، أتى قطار من اتجاه ( القاهرة), تلقى من السائق بعض الأشياء وأعطاه لفافة مؤكد تحتوى على بيانات خاصة بالمحطة، أسرع إلى الغرفة هربا من الرياح التي كادت تقذف بجسده الناحل الضئيل إلى القضبان ليأكله القطار، الذى يأبى كل فترة إلا أن يأكل رجلا أو سيدة، شابا أو شا،بة، أو عجائز، حتى الحيوانات لها نصيب من وجبات القطارات، وكأن القطارات تحولت إلى ما يشبه النيل الذى كان يرفض أن يفيض إلا بإلقاء عروس إليه، لم ينتبه للرجل الفارع الطول صاحب البنية القوية وكأنه من عماليق الأزمنة السحيقة، والمرأة التي تصل قامتها بالكاد إلى كتف رجلها، بصحبتهم ولدان وبنتان أعمارهم تتأرجح بين العاشرة والعامين ، إبن صغير محمول على ذراعي أمه، أغلق باب الحجرة عليه مسرعاً لإشعال وابور الجاز لعمل شاي يعوضه عن لحظات البرد التي نالها، لم ينتبه إلى طرقات ونقرات خفيفة على خشب النافذة، الطرقات كانت خافته تاهت وسط صراخ الريح، اضطر الرجل إلى معاودة الطرق بشكل أكبر ارتجف من الطرقات، انتابه الخوف من قدوم أحد الخارجين للاستيلاء على إيراد المحطة، الظلام الدامس والرياح تشجع على هذا، فتح النافذة بعض الشيء، متسائلا برعشة صوته.
* من؟
* يا أستاذ نحن أغراب نسأل عن بلد اسمها ( كفر منصور).
اتسعت حدقتا عينيه إلى أقصى سعة لهما، وفغر فاه، ورسمت الدهشة كل علاماتها على محيط وجهه، تدارك دهشته وسأل ثانية.
* هل لكم أقرباء بها؟
* نريد الذهاب الى الحاج ( عيسوي مفتاح).
* هل تعرفه؟
* معي رسالة أمانة له، والأمانة لابد من إيصالها لصاحبها.
أراد أن يسترسل بتساؤلاته، ولكن الإجابات القصيرة والمقتضبة دفعته للسكوت، حدثه.
* الجو صعب كما ترى، والمسافة من هنا إلى ( كفر منصور) ليست بقليلة، أنا منها، من أجل الأولاد وظروف الجو، أستضيفك بهذه الحجرة حتى الصباح وأذهب بك الى بيت ( عيسوي ) بالصباح.
أشار إليهم بالدخول، دخلوا مهرولين هربا من هذه الرياح وهذا الصقيع، بلا أي ترو أخذوا ركنا من أركان الحجرة، وجلسوا مستندين بظهورهم إلى جدرانها، أتى بالغطاء الصوفي الوحيد ووضعه على أجساد الصغار والزوجة، أما عنه وعن الرجل فيمكنهما التحمل، أسرع بإيقاد الوعاء الفخاري المملوء بقطع خشبية صغيرة سكب عليها بعض الجاز وأشعلها لبث التدفئة إلى الأوصال التى بطريقها للتجمد، ووضع الإناء المعدني الذى يصنع به الشاي شديد القتامة والمليء بعدد كبير من ملاعق السكر، إناء كل حوافه محاطة بالسواد جراء الاستخدام الدائم وبلا هوادة ولسنوات طوال لا يعرف عددها، اكتفيا بتبادل النظرات وتجوالها على وجه كل منهما، لم يمنحه الرجل أي حديث يسبر غور ما ينهشه من تساؤلات، المعروف عن ( مكي) لدى كل من يعرفه أنه شديد الفضول، كثير التساؤلات، ما إن يتواجد بأى مجلس حتى ولو على سبيل الصدفة، لابد من طرطقة أذنيه، وفنجلت عينيه، والمقاطعة الدائمة بتساؤل مفاجيء قد يكون له داعى والأغلب أن لا يكون له داعى فتنتاب الحضور وصلة شديدة من الضحك حتى إن البعض قد يستلقي على قفاه، الرجل وضع رأسه بين ساقيه وأطلق نفسه إلى أحضان النعاس، وعلا غطيطه الذى أعطى حياة للمكان، ما كان عليه إلا أن يمد ساقيه أمامه ويحاول تهدئة تفكيره، الجميع غط بالنوم تتصاعد نغمات أنفاسهم بشكل غير متناسق على الإطلاق، هناك ما هو ممطوط وهناك ما هو قصير وهناك الرفيع كأنه سرسعة، وهناك شديد الغلاظة، أصبح هو حارس النائمين، يهرول خارجا حين تأتيه إشارات بقدوم قطارات، ويعود سريعاً بحثا عن دفء عوضاً عن لسعات البرد التى نفذت إلى أوصاله، مر الوقت بطيئا للغاية، أتاه قرآن الفجر من المصلى المقام قرب المزلقان والذى يتلوه أحد شباب جامعة الأزهر القاطن قريبا من المحطة، اقترب من الرجل النائم ربت عليه بهدوء هامسا.
* يا بلدينا، هيا للوضوء وصلاة الفجر.
فتح الرجل عينيه بتثاقل شديد، وجه إليه نظره مؤكداً له استيقاظه، ونهض وتمطى بحثا عن إعادة تنشيط أعضاء جسده وعودتها إلى مضمارها الطبيعي، وضع كل منهما طرف الكوفية التي لم تغادر أعناقهما على فمه، وخرجا، وبلا أي ترتيب سوى الترتيب الذى يأتي من الله، تأبط كل منهما ذراع الآخر وسارا سويا، تم الوضوء والدخول إلى المصلى الذى يوجد به عدد لا يتجاوز عدد أصابع اليدين أو يزيد قليلا، صليا فروض السنة والدخول إلى المصلى، بعدها أخذا مكانهما متجاورين، يتمتمان بالأدعية مثلهم مثل كل المتواجدين، عندما رفع الآذان تجاورا، الكتف ملاصق الكتف والقدم موازية للقدم، أديا الصلاة وخرجا متبأطئي أذرعهما، شتان الفارق بين طوليهما، ( مكي) بالكاد يصل إلى القرب من صدره، لكى يعطيه دفقه تروي ظمأ دهشته مال عليه وقال له أشبه بهمس.
* أنا ( رشوان جابر الصعيدي).
وقبل أن يمنحه فرصة التساؤل هل الصعيدي لأنه من الصعيد أم أنه لقب عائلته؟، رفع كفه، وأكمل حديثه.
* الصعيدي إسم العائلة.
وعاد إلى صمته الذى يزيد من الدهشة والتساؤلات، عادا إلى الغرفة، أتى بصرة من القماش فتحها بها عدد من (البتاو) والجبن الأبيض وأعواد من الجرحير، طلب منه إيقاظ عائلته لتناول ما هو قليل من الطعام ولكنه المتاح ولا يملك غيره واعدا أنه سيأخذهم قبل الذهاب بهم إلى بيت ( عيسوي) لإكمال افطارهم، اقبل الأولاد والزوجة على ما وجد من الطعام، مدهم بالشاى الساخن ليعيد الدفء إلى أجسادهم، إلتهموا هذا الطعام القليل، لمح بأعينهم عدم الشبع.
* ساعات قليلة ونذهب إلى البيت ونتناول الطعام كما تريدون، فقط يأتي عمكم ( محسب) وبعدها نذهب الى البيت.
عندما أزاح شعاع الشمس الشاحب بعد الغيامات وأعلن بدء يوم جديد جاء ( محسب), نقر الباب بأصابعه مردفا النقر بالنداء، فتح الباب، لم ينتبه باللحظة الأولى لوجودهم بالحجرة، بل دخل صائحا.
* حقك على يا ( مكي)، والله كان غصب عنى، الزوجة وضعت وأضافت إلى طفلا جديد وعبئا جديدا، سماح عامة سوف أعوضك هذا اليوم، لا تأتى إلا غدا بموعدك المسائي، أنا عامل حسابي على هذا، ورفع صرة كبيرة بيده، موحيا أنه أتى بطعام يكفيه لكل هذا الوقت، فجأة توقف عن الحديث واتسعت عيناه وارتفعت أهدابه، أجابه سريعاً بلا انتظار.
* ( رشوان الصعيدي) جاء ليلا يسأل عن ( عيسوي مفتاح) أحد كبار بلدنا، وكان الجو لا يسمح أن يذهبوا إلى القرية، طلبت منهم أن يمضوا الليلة هنا والصباح له عيون.
رحب بهم، سلمه ( مكي) العهدة وأخبره بعض التعليمات، هو أقدم منه بالعمل وله حق أن يمارس عليه سلطته، ألقى السلام وقذف نفسه خارج الحجرة وهم بأعقابه، ساروا بعض الوقت، توقف على مقدمة الطريق، أخذ يشير للسيارات زاعقا ( كفر منصور)، مر وقت ليس بالقليل حتى توقفت أمامهم سيارة نصف نقل مما تنقل الخضروات والماشية إلى الأسواق، صعدوا إلى الصندوق الخلفي للسيارة حسبما أشار إليهم السائق، تكوم ( رشوان) وعائلته بجانب، وهو أخذ الجانب المواجه لهم، ربع ساعة أو أكثر قليلا، توقفت السيارة، نزلوا وقبل أن يمد يده لدفع الأجرة كان ( رشوان) قد قفز ونفح السائق أجرته وسط صيحات الرفض منه، اكتفى بالرد عليه لتهدئته، هامسا.
* كلها حاجات بسيطة، ثم أنت قمت بالواجب وأكثر.
وعاد إلى صمته مكتفياً بالسير وقبيلته وراءه وقد اتسعت خطواته وكأنه يهرول، بالفعل كان سيره أشبه بالهرولة، اعتاد أن يخرج من عمله إلى الحقل حيث يجد زوجته وبنتاه، وأخيه وزوجته التىي لم تنجب رغم مرور سنوات على الزواج بانتظاره يتناولون الإفطار سويا، ويشارك ببعض الأعمال الفلاحية، ساعة أو ساعتين حسب مقدرته على العمل، ويغادر عائدا إلى البيت، قد تعقبه الزوجة وهذا ما يحدث كثيراً لتنال حظها من رجلها، تذهب معه بداعي أنها ستقوم لإعداد طعام الغذاء وتنظيف البيت، تعلو البسمات شفاه الأخ وزوجته، ويشيعونهم بالسلام الحار والمصاحب أحيانا بالضحكات، سار بهم طويلا بين المزروعات تاركاً عمار القرية، ولم يسأل ( رشوان) أي سؤال، اقترب من حقله، ما إن رأته ابنتاه إلا وأسرعتا إليه، كل منهما تمسك بإحدى ساقيه، هما بعمر الثانية عشرة والعاشرة، مال عليهما وقبل كل منهما، توقف على رأس الحقل وصاح بأخيه.
* يا ( سالم) تعالى سلم على ضيفنا ( رشوان الصعيدي) جاء يسأل عن ( عيسوي مفتاح).
سارع الأخ والزوجتان بالترحيب بهم، طلبت زوجة مكى أن تذهب إلى البيت لإحضار مزيد من الطعام، لم تنتظر الرد، هرولت تاركة الحقل، غابت قرابة النصف ساعة وعادت تحمل على رأسها صينية كبيرة مغطاة ببشكير كبير، وضعت الصينية بمكان ليس به زرع، وكشفت الغطاء عن أطباق من الجبن الأبيض والقديم وطاجن لبن رائب وبعض من الخضار وعدد كبير من (البتاو) وهو خبز لم يكتمل طهيه بالنار، أشارت إليهم بالحضور، إلتف الجميع حول الصينية، مضى الوقت وقد انتهوا تماماً من كل محتويات الصينية ، أسرع ( سالم) بإيقاد نار بين حجرين وقام بصنع الشاي، كل هذا ولم ينطق ( رشوان) إلا بكلمات شكر مقتضبة.
* شكرا لكم ربنا يقدرني وأقدر أرد معروفكم..
طال الوقت بهم انتظاراً لإنهاء عمله ، الأطفال أخذوا باللعب مع البنتين يجرون على حواف المصرف وبين الزراعات وتتعالى ضحكاتهم، وكأنهم على معرفة سابقة. ببعضهم، هكذا الطفولة دوما لا توجد بتصرفاتها أي حواجز كلها عفوية تصدر كما هي دون أي تدخلات لمحاولات تغيير مسارها أو طبيعتها، بعد أكثر من ثلاث ساعات ، خرج ( مكى) من الأرض ، اغتسل من مياه المصرف ، ارتدى جلبابا كانت الزوجة قد أحضرته ، وأشار إليهم بمتابعته، يسيران متجاورين يتبادلان النظرات كل فترة ، والزوجة والأولاد يسيرون خلفهم، يمرون على البعض. سواء بالأراضي أو من يجلسون على العتبات والمصاطب يلقون بالتحية السريعة المقتضبة والتي كثيرا ما تكون. برفع أحد الكفين، طال بهم السير ، وعيون ( رشوان) تتساءل هل مازال الطريق طويلا؟، يهمس له .
* هانت يا بلدينا.
بعد وقت طال مداه إلى ما يقرب من نصف ساعة وجدا أنفسهما أمام بيت. مكون من عدد من الطوابق، مقام على طراز ليس معهودا بالقرى وربما ببعض المدن الصغيرة، محاط به سور مرتفع حوالى المترين تزينه مصابيح ، وأشجار باسقة تلتف حوله إلا من الجهة المقابلة لمدخل البيت، من الواضح أن مساحته كبيرة، السور الخارجي به أكثر من باب من الصاج، الأكبر منهم تعلوه لافتة ( مفتاح وبكر للتجارة), اقترب ( مكى ) من الباب.، طرقه طرقات خفيفة، ثم طرقات أعلى قليلا، فتح الباب قليلا عن رجل ممتلئ الجسد، فارع الطول ، ما إن رآهم حتى سأل .
* خيرا يا ( مكي).
* هذا الرجل جاء لمقابلة الحاج (عيسوي) يا ( عبد الهادي)
بلا رد أشار إليهم بالدخول، أغلق الباب. وطلب منهم الإنتظار قليلا حتى يخبر الحاج، أخذ ( رشوان) يدور بعينيه بالمكان،، المكان يوحى بالثراء الفاحش، كل شيء. به يدل بلا أي جدال على هذا، أتى الرجل ملوحا إليهم وهو على درج سلم المدخل بأن يأتوا، عفويا خلعوا نعالهم ، ورفعوا أرديتهم خشية أن يكون عالقا بها بعض الغبار والشوائب ،دخل بهم إلى بهو شديد الاتساع، أمرهم بالجلوس على أحد الصالونات الكثيرة التي تملأ البهو، التحف تحيط بكل جوانب المكان، الإضاءات التي عرف فيما بعد أنها من ماكينة توليد الكهرباء التي يملكها الحاج لإضاءة البيت لطوابقه والمحلات، جلسوا على أطراف المقاعد يتبادلون النظرات الحيرى ، طال الوقت بهم، انتبهوا على وقع خطوات على درج السلم الهابط من حيث توجد الحجرات الخاصة، رفعوا الأعين يبحثون عن مصدر الصوت، رجل صاحب قامة طويلة ، متوسط البنية الجسدية، يرتدى جلبابا كشميريا فخما تعلوه عباءة أكثر فخامة ، يهبط الدرج بتؤدة وهدوء ، لوقع أقدامه نغمات متناغمة ، وجه شديد البياض الشاهق مع بعض الحمرة فتضفى عليه وسامة كبيرة، وقفوا تلقائيا، اقترب من مكان جلوسهم، علا صوته ترحيبا بهم، معروف عنه هذا السخاء الترحيبي، حتى لو كان يلتقى بهم أول مرة.
* أهلا وسهلا بكم، شرفتمونا، تفضلوا بالجلوس.
لم ينصاعوا لطلبه ، كرر الطلب حتى استجابوا ، نظر إليهم مليا ، نظراته متسائلة عما يريدون، فهم ( مكي) وحل طلاسم النظرة ، سارع بالحديث.
* يا حاج ( عيسوي) ، ( رشوان) طلب منى أن أذهب به إليك ، هو من يقول لك السبب.
ووجه بصره إلى ( رشوان) مشيراً إليه بالحديث ، لم يتفوه ولم ينطق بكلمة واحدة ، اكتفى بالنظر بين ( مكي) والحاج، الذى أسرع بفهم المراد، سارع بالإشارة إلى ( مكى) أن يأتي إليه ، نهض مسرعاً إليه ، الحاج أدخل يده بجيب جلبابه ، خرج بها تقبض على بعض النقود، لم يهتم. كم قيمتها ، أمسك بكفى بده ووضعها بها مردفا ولها.
* شكراً يا ( مكى) أتعبناك.
* لا تعب ولاشيء دوما أنتم أصحاب فضل، سلام عليكم.
وأخذ طريقه للانصراف بظهره حتى قارب الباب وكأنه كان يعرف عدد الخطوات، بعدها تكلم الحاج.
* أي أوامر يا بلدينا ، خير. تفضل.
* خيرا يا حاج، أنا معي مكتوب من ( حازم باشا البدوي) رحمة الله عليه ، طلب منى قبل وفاته بشهور أن أذهب به إليكم أنا وأسرتي ولم أسأله عن أي شيء ، وها أنا جئت به .
تمتم الحاج ، رحمة الله عليه ، مد ( رشوان) يده داخل جيبه الصديري الذى يرتديه داخل الجلباب ، وأخرج مظروفا مغلقا ، مد يده به إلى الحاج، تناوله وفتحه على الفور، بضعة أسطر قرأها بصوت عال دون أن يعرف لماذا فعل هذا.
عزيزي الحاج ( عيسوي) ابن الرجل الذى تعرفنا به من سنوات طويلة وكان قريباً منى ومن أبى الباشا الكبير رحمه الله ، حامل هذا الخطاب رجل يحمل كل صفات الأمانة والوفاء وكتوم ، لا يسأل عن أي أمر يكلف به أو لايعينه ، عاش بيننا منذ ميلاده وسبقه أباه وجده الذى. عمل مع جدى رحمة الله عليهم جميعا، أرجو أن يعمل لديكم ويكون ساعدك الأيمن ، ولا تندهش لطلبي ، وتسأل نفسك ، ولماذا لم يستمر مع الأولاد ، الأولاد تعلموا من الصغر بمدارس أجنبية بدول أجنبية ، للأسف وبكل الأسف لم يتعلموا الانتماء لبلدهم ولأرضهم. ولتاريخهم وأعترف أنى شريك بهذا، أنا لم أكن حريصا على زرع هذا داخلهم، تركتهم يعيشون غرباء وتشربوا حياة وطباعا لا تمت لنا بصلة، وأنا واثق حال تلبية نداء الله أن أول شيء سيفعلونه هو بيع كل شيء ويستكملون حياتهم هم وأولادهم كما هى، ومن أجل هذا قمت بعمل وقف خيرى كبير لبعض أراض مملوكة لي بمدينة ( طنطا) وأقمت مسجداً كبيراً يحمل اسمى وألحقته بمعهد ديني ، لعل هذا يكون سبباً في تخفيف وطأة ما حدث، وأرسلت لك (رشوان رجب الصعيدي) ليكمل رحلته معك، وبصدق تام سترى أنه هديتي لك.
كن بخير وتحياتي للأب العظيم.
حازم باشا البدوي
أعاد الخطاب إلى المظروف ورفعه إلى شفتيه وقبله ودمعت عيناه، مسحها بمنديل أخرجه من جيبه ، صمت بعض الوقت وشرد ، ثم استدرك نفسه ، ووجه الحديث إليهم:
* أهلا بك واعتبر نفسك لم تغادر قصر الباشا، وصية الباشا أمانة غالية علينا، رحمة الله كان من أكثر الناس محبة لدينا ومن سنوات، ومعنى أنه يوصى عليك وبك أنك فعلا أهل للثقة، أهلا بك مرة ثانية، اعتبر نفسك ببيتك وبين أهلك ، لست عاملا بل بأمر الله أخا لنا، الكل هنا إخوة.
نادى بصوت عال ( مخيمر يا مخيمر), لم يكد ينتهى من الحرف الأخير حتى وجده أمامه.
* أؤمرني يا حاج.
* تأخذ ( رشوان) إلى الحجرتين بالجهة الغربية، وتتأكد من أن كل شيء جاهز وتمام, وأنت يا ( رشوان)، عليك بالراحة أنت والجماعة وعندما تجد نفسك مستعدا تأتى ونتناقش نرى ما يناسبك وقبلها أعرف منك ، من أنت ولماذا هذه الحظوة الكبيرة لدى الباشا، هيا مع ( مخيمر)، وكن على راحتك ولا تتعامل كأنك غريب.
* يا حاج كلامك أعطاني إحساسا أنى تركت بيتا لي إلى بيت آخر لي لا أشعر بأي غربة، والله والله لا أبالغ ، ربنا يكرمك ويزيدك من عطاءات الله ، أنا مستعد للعمل من الآن إن أذنت ، مثلنا خلق ليعمل بلا تراخى.
* لا تتعجل فالعمل كثير ، وأتمنى أن تكون من عشاق عملنا ، العمل بعشق سبيل للبركة، وواضح أنك ممن يحملون البركة، تفضل وانتظرك بعد أن تنال قسطاً من الراحة ، الوقت أمامنا طويل بأمر الله ، تفضل
سار خلف ( مخيمر) الذى قاده إلى مبنى. مكون من حجرتين متسعتين وملحقاتهما من لوازم المعيشة، أثاث نظيف جدآ وكل شيء يدل على أن هناك اهتماما بالمكان، دلهم على كل شيء ، وفتح الثلاجة وأوضح لهم أن بها طعاماً يكفى أياما ، ثم تركهم وغادر ملقيا السلام، أخذوا بعض الوقت يتجولون بالحجرات مرة وأكثر من مرة، ألقت الزوجة والأولاد لما يحملونه إلى أحد الأركان ، وألقى كل منهم على الفراش وذهبوا جميعاً بسبات عميق.