ما أهمل من أحاديث العامة وأهل الرأي

شارك مع أصدقائك

Loading

فاطمة المحسن

فن الصحافة وليد حضارة غدت اليوم تعتمد أفضل ما انتجته تكنولوجيا الاتصالات، وكان انبثاق عهدها إيذاناً بتسارع حركة نقل المعلومة التي تعدّ ثورة في تداول الأفكار وانتشارها. والصحافة من الفنون التي عرفها العرب بعد اتصالهم بالغرب، ولكن من الصعب الجزم بأن الفن الصحافي لم يكن متداولاً قديماً. فالصحيفة وهي القرطاس المكتوب لا يقرأها الخاصة فقط , بل كانت في أحيان كثيرة تُعلّق في الأماكن العامة ليطلع عليها الناس. ومن هنا اشتقت كلمة “صحفي”، وعد استعمالها من الأخطاء الشائعة في تسمية المشتغل في الصحافة ، والصحيح “صحافي” ولعل في الخوف من الخطأ مفارقة تعبّر عن تزمت وتمسك بالأصول.
فكلمة “صحفي” تعني في القديم من أخطأ القراءة أو حرّف المعنى، ومرد ذلك أن الصحفي هو من أخذ عن الصحيفة المكتوبة لا عن معلّم أو شيخ، وكانت الكتابة العربية بدون ضبط وتنقيط فيسهل تحريفها.
العرب الذين عاشوا في عوالم الصحارى المترامية كانت لهم صحافتهم وإن خضعت إلى عامل الوقت ووسيلة الاتصال. ومن بين المعلومات التي تداولتها الثقافة المدونة التي تقول ان الشعر كان هو ناقل إخباريات العرب، وهذه المعلومة تحتاج إلى توثيق آركويولوجي، وهو الغائب عن موطن اللغة أي الجزيرة العربية. وفي الظن كانت أخبار العرب ومسامراتهم وقصصهم يحتويها النثر الذي استثني أكثره من النقل في عهد التدوين، ويأتي الشعر مكملاً له. جمال لغة الشعر وموسيقاها وراء ذلك التشبث بأفضليته، ولم يجد الشعر منافساً حقيقياً إلا بعد غلبة الحياة العقلية على الخيال عند العرب.
وعندما قطع النثر شوطه الأهم في الحواضر الإسلامية الرئيسية خلال القرنين الثالث والرابع الهجري، استحدثت أجناساً من الكتابة لم تكن معروفة في السابق أو لم تكن سوى على هيئة بسيطة، ومنها مرويات أقرب إلى فن الصحافة المعاصر. ويبرز بين المؤلفات القيمة بهذا الصدد كتاب “نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة” للقاضي أبي علي المحُسّن بن علي التّنوخي وهو من بين أفضل الكتب التي تشير إلى أمرين: أولهما استقلال لغة الكتابة النثرية عن الشعر الذي بقيت بنية تفكيره ومنطقه الداخلي شديد التأثير على أفضل النتاج النثري، والثاني اتساع حقول الاهتمام بفن القول أي بالحكي اليومي والأخبار القصيرة التي تصلح أن تكون أهم مصدر من مصادر الدرس الاجتماعي.
لعل كتاب ( نشوار المحاضرة) من بين الكتب القليلة التي وصلتنا من القرن الرابع الهجري وهي خلو من الصياغات البلاغية الشعرية ونبر الشعر من سجع ومرادفة ومزاوجة ولعب على الإيقاع. في حين لم يتمكن النثر العربي على يد أفضل مطورية: الجاحظ والتوحيدي التخلص من هيمنة اللغة الشعرية. السر يكمن كما نتخيل، بما لم يطمح إليه التنوخي ذاته وهو ان يكون أدبياً، فهو يعتز بمهنته القضاء التي توارثها عن أبيه وجده. وكانت بعض مروياته مستلة من مجريات المحاكم، غير ان كتابه يتقصى اخباريات الناس وأحاديثهم وقصصهم، والمدهش فيه بعض حواراته باللغة العامية التي مازالت إلى اليوم قيد التداول في العراق الأمر الذي يضاعف قيمته سوسيولوجياً وأدبياً.
التنوخي المتوفي سنة 384هجرية بصريّ عاش جزءاً من شبابه ببغداد، وأصبح فيها من خاصة القوم والطبقة المثقفة ونديماً لعضد الدولة. غادر العراق مجبراً ثم عاد إلى بغداد قبيل أفول نجمها، فوجدها كما يقول قد تغيرت ملامحها وانفضّت عنها مجالس السمر وتداول الحكايات وخَلَتْ من كثر من شيوخها، فقضى التنوخي عشرين عاماً في تأليف كتابه الذي وضعه في أحد عشر مجلداً ليحفظ لبغداد ما كانت توشك ان تفقده.
صدر هذا السِفْر القيم بطبعة معاصرة في جزئين عن دار الهلال، طبع الأول في العام 1903والثاني في 1904ونشرت ثلاثة أجزاء منه بسعي المستشرق مرجليوث: الأول بمصر 1921والثاني بدمشق 1932.ولعل جهد المحامي العراقي عبود الشالجي في جمع مخطوطات الكتاب وتدقيقها ونشرها كاملة مع التعليقات ومقدمة وافية، من بين أهم الجهود البحثية المعاصرة التي صدرت ببغداد عام 1971ميلادية.
كيف لنا الربط بين هذا الكتاب وفن الصحافة اليوم، وهل كانت الصحافة حاجة متداولة مثل حاجة الناس إليها اليوم؟
هناك الكثير من الدلائل التي تدفع إلى الاعتقاد بأن التنوخي في مؤلفه هذا كان أقرب إلى أدب الصحافة منه إلى غيره من أجناس الكتابة، فهو مهتم بالخبر السياسي والاجتماعي والأدبي، كما معني أيضاً بما يمكن تسميته السبق في نقل هذا الخبر، فلم ينقل عن كتاب كما تقول مقدمته، وهو يعرّفه كالتالي : “ألفاظ تلتقطها من أفواه الرجال، وما دار بينهم في المجالس، وأكثرها مما لا يكاد يتجاوز به الحفظ في الضمائر، إلى التخليد في الدفاتر، وأظنها ما سبقت إلى كتب مثله”.
يمكننا تقسيم مادته الغزيرة وفق حقول مختلفة بعضها يندرج في باب أخبار الممالك والدول، وبعضها في شأن الوزراء والأمراء من بني العباس والبويهين، وبعضها حكايا أهل النِحَل والأدباء والقضاة، وبعضها قصص العامة والشطّار والجند والمغنين وقطّاع الطرق وأصحاب الجرائم والعيارين ولعُاّب الشطرنج والنرد والمتعطلين وغيرهم من عامة الناس. وأخباره قصيرة أطولها لا يتجاوز الثلاث صفحات وأكثرها يشمل فقرتين أو فقرة واحدة. وكل خبر يضع له عنواناً يفهم القارئ خلاصته. لا يرتب التنوخي تلك الأخبار حسب تواريخها ولا وفق التسلسل المعروف في المرويات، فالحكاية أو الخبر يشكّل بنية مستقلة عن السياق العام، ويمكن أن نتتبع بعض مصادر ألف ليلة وليلة في قصص هذا الكتاب المشوق.
والحق أن المؤلف يملك عقل كاتب ذكي يعرف قيمة الإمتاع في مادته، محاولاً التنقل بين حالين لبغداد : حياة الثراء والفقر، وعالم الثراء والبذخ الذي يعرض فيه أحوال الطبقة المتنعمة وبينهم التجّار الذين تفوق ثرواتهم ما يملكه الولاة والحكام، فهناك من يفترش مجالسه على دجلة ورداً وذهباً ويتفنن في الحصول على المتع والأطايب والنفائس، وبعض تلك القصص كانت من مصادر الليالي العربية، كما أن هناك أخبار الفقراء والشطّار والعيارين وعوالم الجريمة والمغامرات والطرائف. وبين هذين العالمين يورد أخبار من كان ثرياً فأفقرته الأيام، ومن كان فقيراً وصعدت به الصدفة إلى مصاف الأغنياء. وفي عروضه يتلمس ما يدله على أخبار الأدباء من شعراء وكتّاب، ويلتقي في واحدة من رحلاته بالمتنبي المولود في الكوفة، ويشرح أسباب تسميته بعد أن ادعى النبوة وغموض أصوله. ويتلقى رسالة من المعري فيوردها، ويقص علينا أخبار هارون وغيره من كتّاب عصره وقضاته.
وهو لا يقصر الذكاء والفطنة على المتأدبين وذوي الشأن، بل كان يرى في الغُلمان والجواري والشطّار ما يراه في غيرهم من ذكاء ونباهة ومحبة للأدب.
أهمية هذا الكتاب تتبدى في مادته التي تصلح أن تكون انموذجاً لدراسة النظام الاجتماعي في مرحلة مضطربة من حياة الدولة الإسلامية ومن داخل تكوينها المديني. ولعل توزع مادته على مساحة واسعة من الطيف الاجتماعي يساعد القارئ على تلّمس قيم وأخلاق تلك المرحلة وطبيعة التوتر والتجاذب بين تلك القيم والمؤسسات والشخصيات المعبرة عنها. غير أن المهم في كل تلك المرويات إدراك صاحبها دوافع تأليف كتابه التي تفصح عن رغبة في تحييد المادة المنقولة دون اهمال البعد الاجتماعي لقراءتها، وسيدلنا تتبع العناوين إلى غاية الكتابة، كما تذكرنا بنوع تعاطي الكاتب مع مادته، وهو كما أسفلنا أقرب إلى تعاطي الصحافي معها اليوم. في واحد من عناوينه التي يكرر مضمونها في الكثير من المواقع يكتب: “إذا اختلّ أمر القضاء في دولة اختلّ حالها” أو “عمران المملكة أساس إصلاح الرعية”. لعل طبيعة نقل تلك الأخبار تعبّر عن موقف مُسبق للمؤلف، هو في جانب منه سياسي وإن شئنا الدقة، قانوني، فالقضاة في عصره يشكّلون النخبة المثقفة التي تحرص على حفظ استقلال قراراتها من مطاولة السلطة، في حين يحرص في أخبار أخرى على أن تحمل مضامين مادته موعظة وحكمة. غير أنّ جنس هذا النوع من الكتابة يتصل بفن القص، بل يكاد يكون التعبير عن حاجة تلك المرحلة الأدبية إلى ظهور الاقصوصة. والتنوخي في مجلداته هذا لا يغالب رغبته في أنْ يكون قاصاً، فهو يعتمد التشويق وشدّ انتباه القارئ، فحكايته تتوفر على بداية ووسط وحُسن تخلص، ومع حرصه على أن يضع في مقدمته ثبتاً بالمصادر التي استقى منها مادته، غير ان الخيال يشط به في أحيان حتى يبدو وهو الفطين والمثقف، مؤمناً بالخرافات والخوارق. وهذا بالضبط ما يمكن ان يشكّل تلك المسافة المهملة في عقل القاص، الكامنة بين الحقيقة والوهم. وفي الظن أن المادة الدرامية في هذا الكتاب أحد أسباب تميزه، فمعظم قصصه تحفل بالعنصر الدرامي الذي يدرك الكاتب أهميته منذ أن يصوغ العنوان. الإطلالة على عنوان الحكاية يصبح توطئة لاستثارة فضول القارئ فهناك حشد من العناوين التي تشابه ما تستخدمه الصحافة المعاصرة ومنها على سبيل المثال: (مهاترة بين بصريّ وسيرافي)، (الخليفة القاهر يعذّب أم المقتدر زوجة أبيه ويصلبها مُنكّسة) (هندي يقتل فيلاً بحيلته من غير سلاح) (كلب يكشف عن سر قاتل سيده) (حريق الجمل ببغداد) (المدائني يتماجن على شيخ صوفي) (عاشق تسبب في قتل حبيبته وزوجها) (الوزير بن مقلة يهدي لكاتبه عطراً وشراباً ومالاً) (أنموذج من اسراف الخليفة الراضي).
ولعل إشباع الجانب القصصي في مادته يتبدى في محاولته تقسيم الحوار على الناس حسب مراتبهم، فالعامة وبينهم الجواري والغلمان، تتردد العامية على ألسنتهم، أما الطبقة المثقفة فتتحاور بالفصحى. ومادة استخدام العامية من بين أفضل ما احتواه الكتاب كمصدر من مصادر تواصل اللغة عبر المراحل التاريخية المختلفة. في معرض نقله لحادثة يضع لها العنوان التالي: (يحتال على القواد الأتراك بسر من رأي) ويرد فيه الكلام العامي بالنص: “وجاء التركي، وهو منتش – أي سكران بلهجة أهل العراق – فقال:
“يابا، حصلت تسخر بالأتراك واحد واحد، وتأخذ دراهمهم؟” وهي عبارة يقول مفرداتها الناس في العراق إلى اليوم. وهناك الكثير من الحوارات التي يضع فيها (أيش هذا؟) للسؤال عن الشيء أو الحادثة، ويورد هذه العبارة في الغالب مع أحاديث العامة.
يخيل إلى المرء وهو يقرأ كتاباً مثل (نشوار المحاضرة) للقاضي التنوخي، كأنه حرك صخرة صغيرة في جدار الزمن ليطل منها على شوارع وبيوت ومستراحات وحمامات وملتقيات بغداد والبصرة وهي تموج بحياة سكنت عقارب ساعتها، ولكن حكايات هذا السِفْر القيم حفظتها لنا طازجة إلى اليوم.
May be an image of one or more people, monument and text
شارك مع أصدقائك