محمد خضير
تحلّ النهاية كما لو أنّها انعكاس لبدايات برّاقة، ظَلَّ يتردّد في مَدارِها دون أن يغادره. النهاية ختامُ مرحلة، أو زمنُ خطاب، يراجعهما المرء وإنْ بلغَ أل ٨٨ أو أل ٩٩ من العمر. فإذا كان الزمن خدعةّ في رأي بارمينيدس والفلاسفة المثاليّين، فسيتردّد انعكاسُ النهاية أو الخاتمة كبرقٍ تكاد تخنقه السُحُب، مراراً وتكراراّ إلى ما لا نهاية. أمّا نصيب الفرد من هذا الانعكاس فمعلّقٌ هو الآخر بما بين يديه من أجلٍ مكتوب، وأجَلي من تلك الفرصة كتابٌ لا غير، يبرُق ويختفي في نهاية العام، بين اتضاح وغموض. وليست الضرورة أن يكون الكتاب من تأليفي، فقد أحسبُ كتُبَ الآخرين آجالاً تسطع في مَداري، وهاكم آخر ما سأقتنيه لنفسي: سيرة بول أوستر “تقرير من الداخل”، وأجعلُها خاتمة لعامي.
والنهاية التي أعنيها هنا وأعلّقها بأجَلي، خصوصاً والتصاقاً بطبيعتي، ليست فردية قطّ، بل هي فصل من نهايات الثقافة العراقية، وقد أنسِبُ إشارةَ البرق اللامع إليها، باعتبارها سلسلة قطائع غير جازمة لبدايات مشجِّعة. حوادث تتراجع للوراء ولا تخلّف إلا ظلالاً وسُحُباً بارقة. مثال ذلك: معرض الكتاب في البصرة ٢٠٢١ الذي سجّلَ بدايةً منقطعة عن نفسها وعن غيرها. إذ أنّه لمّا عاد بدورة جديدة، عاد بحلّة كالحة. (ومثله سوق الكتُب والمكتبات في محافظات أخرى). والمثال الثاني: إنتاج نُسَخ متوالية من ذكرى وفاة الشاعر بدر شاكر السياب، وكل نسخة تدفع أخراها للوراء، حتى لتكاد صورة الشاعر تبهتُ عاماً بعد عام، من كثرة الإزاحات والتوريثات الرثائية. (ومثل السياب شعراء من رواد الحداثة الادبية).
قياساً على هذا، فالقطيعة الثقافية تتكرّر مع كلّ تغيير عَشْريّ لسنوات التاريخ السياسي العراقي. وأمدُّ ببصَري للعام ٢٠٣١ (مرور عقد واحد على دورة معرض الكتاب الأولى في البصرة، وسبعة عقود على وفاة الشاعر السياب) حيث يُحتمَل أن تترافق التوقّعات مع الوقائع مثل قدَرٍ تاريخيّ لا فكاك من دوريته الحتمية، يستولي على ديمومة البداية البراقة ويحصرها في قبضته. فكأنّما أنت عائد من حفل نهاية العام، وتسير بجانب حاوية قُمامة، مركونة تحت عمود كهرباء، فيقفز شيء في وجهك، قطّة بائسة أو كلب جائع! (وكنتُ قد ألقيتُ بعشرات الكتُب في حاوية مثلها قرب بيتي، في إحدى نوبات التطهير والمراجعات الختامية).
وسّعتُ من فكرة الدورة القدَرية للثقافة، في مقابلة مطوَّلة لي مع مجلة “الاقلام”، نُشِرت بمناسبة مئويّة تأسيس الدولة العراقية. وأظنّ اقتران التقليد الثقافي بالتقليد السياسي سيتكرّر في نسق دائريّ عميق، فلا يُنتِج سوى انعكاسات برقيّة، رسائل من الماضي للحاضر، احتجاج مكتوم على هذا الاقتران المشؤوم، في المسبّبات والنتائج: استيلاء الكتلة القدَرية_الهلاميّة_ على البرعم الجديد (حتى لو كان برعماً حديدياً في نصّ لحسين مردان).
ولا جدوى_ كما أظنّ_ من إحصاء النصيب الفردي لكلّ مثقّف، من محصول الثقافة العام_ زهوه وادعائه الشخصي_ إذ لا قيمة لهذا الجزء ما دام السَّهم طائشاً في مرمى القدَر الجماعي، وهدفاً مرصوداً لأعين الذئاب. وليتَ صيحةَ الشاعر محمود البريكان بدّدتها الرياح التاريخية، قبل أن تصبح دليلاً على قدَرهِ الأدبي الفردي: (تخلّيتُ أمام الضِّباع، والوحش عن سهمي، لا مجدَ للمجد، فخُذْ يا ضياعُ حقيقتي واسمي).
غير أنّ هذا الاقتران، بين الاسم والسَّهم، وقد أصبح سِمتَنا للمرور التاريخي بين ثقافات العالم، وعنواناً لمحصولنا الفردي، حفرَ نهايتَنا، كما حفرَ سهمُ “أخيل” محصولَه التراجيدي على سطح درعه. كلُّ شيء نحفره منذ البداية على درع زمنِنا سيُشير إلى نوع نهايتنا المرتقَبة، طالت أم قَصُرت. إنّه نوع من السَّيرورة الذاتية المنيعة على الاندثار والضياع (سُمّي جيلُ أدباء ما بعد ثورة تموز ٥٨ بجيل الضياع، ارتجاعاً لتقليد ما قبل الثورة الراقي، وليس توسيماً لثوريته المزيّفة).
بذلك، ألن يتبدّد التقليد الأدبي، المحفور بقدريّته التاريخية العميقة تلك، هباء؟ ألا يضيع نهائياً وتأكله أنياب الزمن المكرور، أم إنه يتكرّر بحتميته الخاصة، ويؤكّد سيرورته/ تجديد مقاومته للضعف والاندثار؟ لو أنّنا فقدنا الأثرَ العميق لروايات “القربان” و”الرجع البعيد” و”صراخ النوارس” في تقاليدنا الروائية، لاعتبرنا القطيعةَ الحاصلة آخر القرن العشرين “ذئباً” متحفّزاً لالتهام بداياتنا الروائية البرّاقة. لكن التقليد الروائي ظلّ واثقاً من طبيعته العَقدية، على العكس من رؤاه النقدية التي حلّقت فوق مرحلته التدويرية، فبدَت أسرع استجابة للمتغيَّر الحداثيّ، إقليمياً وعالمياً.
ستتوالى التقاليدُ المأكولة، حول قلعتنا المعزولة وسط الحقول المشمِسة للأبد، مع تكاثر “الذئاب” القدَرية، فيما يزداد الانعكاس النقدي وهماً بانفتاح المدى وتنامي المحصول الأدبي.
لكن، هل تلتقي الأنساق الدائرية، أخيراً، في نصّ المراجعة النهائية لمحصول الريح؟ أيستطيع المرصود الأوّل، الذي تكهّنَتْ بضياع سهمهِ ساحراتُ القلعة، الإفلاتَ من قدَره التاريخي، فيتّصل الكاتبُ بالكاتب التالي، ويواصل تقليدَه الواقعي أو الخيالي، مهما كان موقعه: أديباً ريفياً أو مدنياً أرستقراطياً، عبداً أو حرّاً، صغيراً أو كبيراً، عاقلاً أو ممسوساً، مقيماً أو مهاجراً؟
إن الأمر لا يتعلّق بكثرة الألقاب والمواقع والأحوال الشخصية، المزدحمة في نهاية عام؛ بقدر تعلّقه بثبات مشهد الخاتمة الذي لا يلبث أن يتغيّر، فتُسدَل سِتارته بعد حين قصير، بعنفٍ شوارعيّ أو بمخاتلةٍ مسرحيّة في قصر رئاسيّ. نحن ممثِّلون وشُهود في الآن والمكان معاً. وستُمثَّل مسرحيتُنا بأدوار مماثلة بعد حين. الأصوات تتردّد بلا صدى أو حدود. الوقت محسوب حتى المراجعة التالية.. اللقاء بساحرات العصور، عند نهايات الجسور، الأنفاق، المتاهات الزمنية الخادعة!