حوار مع الكاتبة التونسية “بنت البحر” حفيظة قاره بيبان

شارك مع أصدقائك

Loading

 

 

أحمد طايل

   مصر

أعمالها تتحدث عنها وعن تميزها وتفردها بكتابتها وثقافتها المستمدة من قراءات متعددة المصادر ومن خلال متابعة للشأن الثقافي بكل زواياه، كتاباتها الإبداعية والفكرية تحدث صدى كبيرا تجاوز القطر الشقيق، تونس الخضراء.

 

 
 

 

 

==============

* إذا أردنا أن نفتح الابواب والنوافذ على مصراعيها للحديث عن زواياك الإنسانية والعملية والفكرية والابداعية، ماذا لديك؟

ماذا عن المناخ العائلى والأسرى والمجتمع الذى وضع اللبنات الأولى لتشكيل فكركم؟

البحر، النار، الكتاب،

كلمات ثلاث  تشع  من ذاكرة الطفولة، لتظل تسكنني على مدى العمر،تلخص معانيها العميقة  الضاجة، ذات  الكاتبة التي أصبحت تعرف ببنت البحر. كاتبة قادمة من أعلى نقطة  في البلاد التونسية من  مدينة يلفها البحر من جهات ثلاث، مدينة الشهداء بنزرت، المدينة التي كم استقبلت من لاجئين   أعقاب الحروب، من الصرب والسوفيات  والإسبان، المدينة التي استقبلت  ، في يوم لا ينسى،  الفلسطينيين  المهجرين  بعد حرب بيروت،  صائفة 1982.  حوالي ألف فدائي فلسطيني قدموا ذاك الصباح 28 أوت  في باخرة التهجير اليونانية إلى ميناء  مدينة بنزرت.

على شواطئ هذه المدينة ، أجمل المدن التونسية  وأكثرها ظلما من الحكام، كتبت حروفي الأولى. كان البحر ملجأ البصر والروح وملعب الصبا، مهرب الجسد الفار من أقفاص البيت وجدران المدينة. في امتداده اللامتناهي ، في آفاقه الرحيبة تشع الحرية التي كانت  مطلب الروح الدائم.

* هل كان يمكن ألا يكون شغفي الأول الحرف والكتابة، طريقي إلى الحرية، لولا انفتاح بيتنا الصغير المحافظ  على  عوالم الدهشة والمغامرة والحكايا، في الكتب التي  كانت تتناثر حولي وتحيط بي  والتي كان أبي  حسن قاره بيبان يجمعها في مكتبتنا الغنية، مع مئات المجلات الأدبية العريقة، القديمة والجديدة، و التي كانت تأتينا من مصر ولبنان، مثل مجلات ” الرسالة” و”الثقافة” و”الآداب”،  إضافة  إلى الجرائد والمجلات  التونسية، والتي كنت أراه دوما ، بهدوئه ورصانته، غارقا فيها، وهو المدرس  والأديب والشاعر والمسرحي- وإن لم يترك  كتابا منشورا ، ولكن  نصوصه ظلت في  نشريات تونسية متفرقة،كما وثقت موسوعة البابطين  للشعراء العرب بعض أشعاره-

تلك الكتب والمجلات خاصة، كانت تغريني وأنا طفلة  لم أتجاوز  السنة السادسة ابتدائي، بتصفحها والبحث عن القصص والأشعار فيها،فأسافر من خلالها إلى عوالم أخرى   أكتشفها  وأستمتع  بالطيران فيها ، بعيدا عن  الجدران والأسوار التي تحيط بي.

* وهل كان يمكن  ألا تجد الطفلة طريقها إلى دروب الفن والكتابة، لولا تلك البذرة التي تسكنها  من السلالة،  ولولا ذلك العشق الغامض القاهر للجمال يسكنها منذ الطفولة ، حتى لو كان جمال النار؟

كم كنت أرحل مع لهيب النار ، يشع ويتلون ويتلوى في ظلام الليل، أكاد ألقيني فيه، وأنا أتعلق به صاعدا  من طابونة الفخار -الموقد التقليدي- ،  من الأعشاب الجافة المحترقة فيها،  أين تنضج أمي، بعد هدوء النار، أقراص الخبز،  في بستاننا بالكرنيش فصل الصيف..كنت أهيم مع اللهب المتراقص، وأرحل إلى سماوات  تتألق فيها النجوم وتضيء عوالم جديدة.

*مع ذلك، عالم الجمال الذي كان يدعوني، كانت تقف في وجهه الأسوار  عالية إذ نعود إلى المدينة  مع بداية السنة الدراسية، فتزداد صرامة أمي  مع البنات، مذكرة أننا  في مجتمع عربي محافظ، تسجنه تقاليده وازدواجيته ونظرته  الأبوية   الدائمة   إلى المرأة.

وأنا أتخطى طفولتي وأواجه المحرمات التي لا ترفع في وجه أخي، بدأإحساسي يكبر بشروخ الجدران التي تحيط بي وظلمة الأسوار التي  تعلو أمامي و بالمظالم تسلط على الإنسان  بسبب جنسه.  وكان  القلم في يدي، فبدأت أكتب ..كتبت طفلة ويافعة يومياتي، وواصلت  في المعهد، أكتب  قصصي وأشعاري، باحثة عن حريتي، عن عالم أجمل يبدعه الفن فوق عالمي الأرضي المتردي.

إحساسي بالمظالم اتسعوتعمق ، مع تجاوز البدايات واتساع التجربة، لتصبح الكتابة لدي ، قصة أو رواية أو  مقالا، مقاومة،  بالفن والإبداع،  وأصبحت  عبارة  الشاعر الهندي الحكيم طاغور” بالفن أكون”، آيتي، فبالفن نكون ، نقاوم  النسيان  وبؤس الواقع.

مقاومة،  من خلال  الكتابة الإبداعية، تحتال بالرمز وبشتى الحيل الفنية، لفضح الواقع العربي  وإدانته،كالتعبير عنه تحت  لافتة زمن آخر، مثل ما كان في روايتي “دروب الفرار” التي كتبتها  عن  فترة حكم الرئيس بن علي  الفار من تونس مع اندلاع الثورة، ولكني أوهمت القارئ أن أحداثها  كانت   في فترة حكم بورقيبة.

*أنا  إنسانة، عربية، أحمل  جرحي العربي النازف، جرح فلسطين الغائر. أنا التونسية ، هنا في قرطاج  التي، رغم البعد عن المشرق العربي ، أصابتها قنابل  العدوان ، في غارة إسرائيلية تطارد كل أمل   وكل نبض مقاوم للفلسطيننين اللاجئين   إلينا، في حمام الشط.  وكان آخر جرائم محتلي فلسطين في قرطاج، اغتيال العالم التونسي محمد الزواري في 2016، العالم المطور لطائرات  بدون طيار  المدافعة  عن غزة … هذا الاغتيال صار محور روايتي القادمة  قريبا” نساء هيبو وليال عشر”. كما كان اغتيال أبو جهاد سابقا عام 1988  في تونس،  ضمن أحداث روايتي “العراء” التي كتبت عن السرطان بكل رموزه يجتاح جسد  امرأة تونسية ، كما يجتاح السرطان الإسرائيلي  أرض فلسطين ويمد أصابعه الأخطبوطية  حولها.

 

*مع ذلك، في روايتك دروب الفرار، كانت فلسطين  حاضرة أيضا، في بعض الفصول، مما جعل نصا منها يتم اختياره  في  كتاب مدرسي تحت عنوان “صديقة من فلسطين” .وقد اعتبرت هذه الرواية نبوءة لما حدث في تونس بعد 2011 -لوتحدثينا  عنها؟

 

-“رواية دروب الفرار صدرت عام 2004 بتونس وأعيد طبعها  في دمشق   عن دار كنعان  في 2006

كما تحصلت  على  جائزة كومار الذهبي  وجائزة الكريديف، وتم تناولها في عديد الأطروحات الجامعية.

هي حكاية امرأة   عاشقة للنغم ، تحلم بعزف نغم يوقظ المدينة النائمة، تؤمن بأن الحب يفتح كل الدروب  .  ولكنها تجد نفسها  أمام التيار الظلامي الصاعد  محرم النغم ،  والقمع السياسي الذي  غيب شقيقها الطالب الثائر أمير، وأحداث تدهور  الوطن الكبير، تنتهي  إلى دروب الفرار وإلى مستشفى الأمراض العقلية  بعد جريمة قتل. قالعن هذه الرواية د. فيصل دراج في تقديم الطبعة السورية”تتميزهذه الرواية باللغة والبصيرة وإضاءة التفاصيل اليومية وتتميز أولا بشجاعة عارفة، غير مألوفة  كثيرا. هي شهادة على عالم عربي يسير مغتبطا إلى الموت، وتشهد أن الكتابة فعل مقاوم وحالم معا “.

 

* هل من وجه آخر للمقاومة خارج الكتابة؟

-هشاشة الكاتب  تتحول إلى  قوة  جارفة عندما  يرفع سلاحه الوحيد ، القلم ، ويبدع نصه  الحامل لقيمه الأصيلة ،  المعبر عن الوجدان الإنساني، أذكر قولة الفيلسوف  جيل دولوز” الفن هو ما يقاوم”.

لذلك ، أحاول أن أنجو ، دوما ، برفع سلاحي،قلمي،لأقاوم  السقوط، بالكتابة.

ولكني ، أصبحت  أقاوم أيضا من خلال العمل الثقافي، عله يغير بعضا من واقع فرض علينا لضعفنا وعجزنا. عمل تطوعي  يتجاوز الذات إلى الآخر. لذلك كان سعيي لتأسيس  رابطة الكتاب الأحرار ببنزرت  في 2014 وتأسيس الملتقى الدولي للرواية العربية في 2015، هذا الملتقى الذي  نظمت دورته الخامسة  أخيرا. والذي يهدف إضافة إلى أعماله وبحوثه العلميةو إصدارها في كتب   حول الرواية العربية الحديثة، يهدف إلى غاية أسمى يعبر عنها شعارنا،”إنقاذ البلاد بالثقافة.”وذلك باستقطاب الشباب وترغيبه  في الكتاب والرواية، في زمن  التراجع الكبير للقراءة، زمن يستلب  فيه الشباب  بشتى الوسائل ، فيكون ذلك من خلال أنشطة  متعددة،موازية ، توفر المتعة والمعرفة، فيكون الرسم والعرض المسرحي والموسيقى انطلاقا من الرواية العربية.

 

*رحلتك التعليمية بكل مراحلها، مدى مساهمتها فى تشكيل وجدانك الفكرى؟

-أكيد أن اختياري لشعبة الآداب في تعليمي الثانوي والأدب العربي في تعليمي العالي كان  له دور في تشكيل وجداني الفكري، وتعميق حبي  للأدب العربي من خلال قراءة تاريخه  ودراسة أعلامه ، ولكن، كنت دوما   أرى أن  طريق الأدب والكتابة يتجاوز الشهادات العلمية  التي لا تصنع مبدعا.

 

* ما هو الكتاب أو المجلة الأولى التى قرأتها وكانت سببا هاما لجذبك لعالم القراءة ومن ثم عالم الابداع ؟

–  كتب كثيرة  شدتني وأسرتني منذ الطفولة،  ولكن أهم ما أذكر مما أذكى  ولعي  بعالم القراءة وأنا  لا أزال طفلة، هي المجلات الأدبية، كالآداب والرسالة والثقافة، لتنوع محتوياتها،  والتي كان  يجمعها أبي ويحافظ على أقدم الأعداد فيها، فكنت   أسرع  إلى  القصص فيها والأشعار،  أنهل منها ، قبل أن تغريني  في بعضها المعارك الأدبية فيها.

 

*الكتابة الأولى ببدايات العمر، ما هي؟ ومن قرأها أولا؟ وما رد الفعل عنها؟

-كنت أخفي دوما كتاباتي عن العيون، وأنا تلميذة بالمعهد الثانوي، إلى أن صادف قدوم أستاذ جديد، أعرفه ككاتب  قصة ، هو حمودة الشريف. وجدتني يوما، أنقاد لإلحاح صديقة تدرس عنده،  ، لأقدم له  قصة  كتبتها ومعرفة رأيه فيها.  فاجأني يومها، وأنا أقف أمام مكتبه في القسم

-هذه قصة طلائعية. سآخذها لتقرأ في نادي القصة  بتونس.:فترة الاستراحة، بقوله

لا تسل عن فرحتي يومها، فقد كان نادي القصة بتونس، أهم النوادي وأقدمها  حتى عربيا،  ويجمع جل كتاب القصة المهمين في تونس،  كما يصدر مجلة مختصة، هي مجلة قصص. تلك القصة التي أخذها  الأستاذ حمودة الشريف، كانت أول قصة  تصدر لي  في المجلة.

* *عملك الأول الذى ظهر للنور صحفيا، كيف كان وردة الفعل من العائلة، من المثقفين، من النقاد؟

-أول نص  منشور لي  في الصحافة، كان بجريدة الصباح في صفحة الشباب التي كان يشرف عليها  الصحفي محمد بن رجب.  كان النص بإمضاء “بنت البحر” ، اسم يحقق لي  حريتي في الكتابة ، بعيدا عن القوانين والموانع   التي ترفع دوما في وجه الخارجين  عن السبيل.إيماني كان دوما “الكتابة حرية أو لا تكون “.

*ما هى طقوسك الكتابية؟

– الوحدة والهدوء والباب المغلق وأمامي  دوما النافذة تطل على رحابة سماء مفتوحة لي. أكتب  دوما مع قهوة  مركزة حارقة وبقلم أسود ينساب بسهولة  على بياض الورق.  قد تنساب موسيقى هادئة  من  الزاوية ترافقني لأبحر مع النغم والحرف في عوالم الكتابة.

ومع ذلك، قد أكتب أحيانا  في الطريق إذ تومض فكرة قصة أو خاطرة ما  وأنا  في الحافلة أو في سيارة أجرة، فأستل قلمي من محفظتي يدي وأكتب  على دفتري الصغير الذي أحمل دوما أو على منديل ورقي، أكتب  فيض اللحظة الحارقة، لأعود  فيما بعد إليها، في وحدتي.

 

*ما الأهداف والرؤى التى تحرصين عليها حال الكتابة؟ هل تحققت ؟

-تقديم نص مقنع وممتع، فيه تجديد وإضافة، نص يجمع كل الفنون، هو طموحي الدائم.  هل حققت ذلك؟ وإلى أي مدى؟ .. هذا ما يجيب عنه النقاد والقراء عموما،  وإن كنت لا أنكر ما أجد من استحسان  النقاد ومحبة القراء لمختلف نصوصي سواء في القصة أو الرواية أو اليوميات ، إضافة   إلى عديد الجوائز والأطروحات الجامعية  التي  اهتمت  بكتاباتي السردية. أذكر على سبيل المثال ما جاء في الكتاب الفائز بجائزة الشيخ زايد للناقدة  التونسية د. جليلة طريطر والتي قدمت  فيه دراسة مطولة عن كتابي ” النجمة والكوكوت، يوميات كاتبة وفنان”، تقول فيه

” يوميات النجمة والكوكوت نص محبوك و استثنائي فيبابه. إنه يجدد كتابة اليوميات الخاصة ويجعل منها  نصا حواريا بامتياز.”

 

*لمن تكتبين، عنك أم عن الآخر أم للآخر؟

-أكتب لي أولا ، فالكتابة دائي ودوائي ، ملجئي وسلاحي، بها أقاوم السقوط، وأنجو من الموت.  ولكن ، من خلال ذلك  ، أنا أكتب للآخر، للإنسان  الذي يسكنني، فأعماقنا الإنسانية مشتركة، وجوهرنا واحد  ، يتوق  للحرية والعدل والحب والجمال   مهما اختلفت  الأجناس والأوطان.

*مدى الحلم الإبداعى لديك؟

-الحلم لا حدود له. ولكنه حلم يتغذى دوما من المعاناة  و الجهاد والمكابدة ليحلق بعيدا . لعله وهم ألوهية تسكن المبدع  دوما، ليحقق خلوده من خلال  خلق جديد جميل  يضيء بعض ظلمة الواقع الإنساني.

 

*كيف ترين المشهد الثقافيالتونسى؟

– المشهد زاخر بالطاقات الإبداعية وبالمبادرات الفردية في تونس، في مختلف المجالات، سواء الأدبية أو المسرحية  أو الفنية . الكتاب التونسي أصبح يحقق  ، نجاحات هامة سواء في النقدأو الإبداع أو الترجمة. يكفي أن نذكر  الفائزين  بجوائز عربية هامة  كجائزة الشيخ زايد، كالدكتورة جليلة طريطر والدكتور محمد آيت ميهوب وأخيرا  الدكتور منصف الوهايبي. كذلك في المجال الإبداعي ، خاصة الرواية.

ولكن مع ذلك ، ما يعاني  منه المشهد الثقافي  ، هو التهميش المتواصل للثقافة   وللكتاب خاصة ، سواء من طرف الدولة أو الإعلام المرئي  خاصة.

 

*ما اسباب التباعد الكبير بين الثقافة العربية والغربية؟ وكيف لنا أن نقرب المسافات أو نلغى هذه الفوارق؟

-لكل ثقافة خصوصيتها, وفي هذا تنوع وثراء ، نحتاجه لتتلاقح الثقافات وتغتني. ولكن التباعد يأتي دوما من  الخوف من الآخر أو  النظرة الدونية أو الاستعلاء الذي يجعل ثقافة الأقوى  تقصي ثقافة الأضعف أو  تسعى  لسرقتها والهيمنة عليها .  وذلك من خلال  الاستعمار الظاهر  أو الخفي  واستلاب  عقول الشباب خاصة   عن طريق الإعلام والثقافة .

تقارب الثقافات يكون دوما  من خلال الإيمان بقيمة التعارف “وخلقناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا” يدعونا  الإله  في الآية الكريمة. وذلك ، لا بإلغاء الفوارق، وإنما بالسعي إلى معرفة الآخر، من خلال البحث والترجمة ،  ومشاريع الشراكة والتعاون التي  تجمع الباحثين للتعرف والاستفادة من  مختلف التجارب  والخصوصيات  الثقافية  للآخر.

أهم طريق يحقق ذلك  هو الأدب، إذ  يعبر عن الجوهر- جوهر الإنسان  في كل مكان من الأرض- فيكتب قصة الإنسان ، بضعفه وقوته، بانتصاراته وهزائمه،  في صراعه مع قوى الوجود، بصرف النظر  عن لونه وجنسه وموطنه.

*إلى أى أيدلوجيا أو سيكولوجية كتابية تنتمين؟

-أنا أنتمي لحريتي  وتمردي على  الحدود لفضح المظالم  التي يرزح تحتها الإنسان العربي،  في نص جمالي مبدع.    لذلك أكتفي بتقديم  جواب  بقلم الناقد المغربي د. إبراهيم أزوغ، جاء على غلاف الكتاب الذي خصص لتجرتي في سلسلة “عيون مغربية على تجربة تونسية”، “مرايا الذات والهوية في أعمال حفيظة قاره بيبان الإبداعية”

“شكل الإبداع بالنسبة للمبدعة حفيظة قاره بيبان ، تعبيرا جماليا عن التصور والموقف والرؤية للذات والهوية والمجتمع، وسعياإبداعيا مستمرا يمزج بين التخييلي والتسجيلي في رصد تحولات المجتمع وقياس نبضه، وما تخلفه تناقضاته من أثر على الإنسان العربي”. أضيف ما كتب د. محمد القاضي  في مقدمة روايتي ” دروب الفرار” والتي يمكن   رفعها عنوانا لجل كتاباتي

” هي صرخة إدانة  لمجتمع الذكورة في البيت  والعسف في الحكم والظلامية في الدين”.لعلي بهذا  أؤكد  إيماني بقولة  رولان بارط

” قليل من الإيديولوجيا ، قليل من الذات،  ضروري للنص الإبداعي.”

 

*ما رأيك بمسألة المجايلة الأدبية؟ وهل تعترفين بها؟وما الجيل الذى كنت تتمنين أن تكون من بين أعضائه؟

– أرى أن الفن والإبداع  يتجاوز  هذا التقسيم  الضيق الشكلي . قد يكون مهما فقط في بعض أبحاث دراسية .

كم من كاتب ظلت كتاباته متجاوزة  متمردة على كتابات (جيله) حتى وإن طالت به الأيام  وكم من  كاتب  سار على درب الماضين، دون أي تجديد، وهو في ريعان الشباب.

 

*ما رد فعلك عمن يقسمون الابداع والفكر إلى ذكورى ونسوى؟

–  الإبداع يتجاوز هذه التقسيمات التي لا تعنيني، حتى لوكتبت  عن هموم المرأة العربية، فأنا أكتب قبل كل شيء عن الإنسان العربي- رجلا كان أو امرأة-  الإنسان التائق إلى كسر قيوده وتجاوز إحباطاته وانكساراته، متوغلة  في الأعماق ، باحثة  عن نقطة ضوء من خلال الفن ، تخفف من ظلمة الواقع المتردي.   قد تنسب  لكتابة المرأة  شاعرية ما أو رومنسية   إضافة  إلى الدفاع عن قضايا المرأة،  فتوضع  في خانة الأدب النسائي،أوالنسوي،  ولكن  كم من كاتب رجل، أحببنا  شاعريته و ربما ” شيئا من أنوثة” في كتاباته، دون أن  نقيد نصه  ونصفه بالذكوري أو النسوي.

 

*عملك الأول  المنشور ؟ كلمينا عنه وعن ردود فعل استقباله.

هل كانت هناك محاذير وخطوط حمراء؟

– أول كتاب لي كان مجموعة قصصية بعنوان “الطفلة انتحرت”، صدرت عن الدار العربية للكتاب،  التي كانت  من أكبر دور النشر وقتها ، ومثلت تجربة فريدة في النشر المشترك بين تونس وليبيا.

لاقت هذه المجموعة القصصية الاحتفاء الجيد من الوسط الثقافي التونسي ،  وكتب عنها بعد صدورها   سنة 1984، الكاتب العراقي الكبير عبد الرحمان مجيد الربيعي مقالا مطولا مبشرا “بكاتبة قصة مميزة “. أعلنت فيها ، لأول مرة اسمي الحقيقي  ، ليكون تحت  اسم بنت البحر.

لم تكن  لدي، وأنا أقدم كتابي الأول للنشر،  أي خط أحمر للكتابة، لإيماني بأن الكتابة حرية أو لاتكون ، -دون السقوط  في المباشرتية الفجة  أو  الجرأة المزيفة  –  إضافة إلى الإيمان  بأن  الكتابة موقف ومسؤولية  وخلق إبداعي  قبل كل شيء.

مع ذلك ، لا زلت أذكر أن الخط الأحمر واجهتني به دار النشر، قبل أن أطالب بسحب قصة  “من الثلج” من الكتاب ، إذ سألني مديرها وقتها”  ألم تفكري، ماذا لو قرأ القصة  والدك؟” .

ورغم أن  القصة لم تنشر في كتابي الأول، إلا أنها نشرت في مجموعتي القصصية الموالية” في ظلمة النور” الصادرة عن منشورات قصص.كما اختيرت للترجمة، مع قصة أخرى من المجموعة، إلى الصينية ، في مختارات  لكاتبات عربيات من طرف المستشرقة الصينية  لين  تشن.

 

*لكل كاتب اتكاءات يتكئ عليهابكتاباته، ماهىالاتكاءات المميزة لك، وهل انت من أنصار الواقعية السحرية؟

-أنا أغتني من كل القراءات والأشكال الفنية التي تقدم عملا إبداعيا  ممتعا  وعميقا.تستهويني  الكتابة السردية  التي  تنهل من الشعر ، الكتابة التي يتزاوج فيها  التخييلي والموجعي، والتي  تتعمق في ذات الإنسان  فتكشف أغواره ،  قد تكون الرومنسية أو الواقعية السحرية أو مابعد الحداثية أو ما شئت من التسميات التي يضعها النقاد.

 

*ما اسباب عدم التوازن بين ما يترجم من العربية الى اللغات الاخرى، والترجمة من لغات اخرى إلى العربية؟ الأ يحدث هذا عدم تقارب ثقافتنا عن الغرب؟

-أوليس  الضعف العربي الرهيب وانعدام البرامج و المشاريع لدى مؤسساستا الثقافية أو قلتها، لإيصال فكرنا وأدبنا إلى الآخر، على نطاق واسع ، هو أهم الأسباب ، بينما  نحن كثيرا ما نسعى  لترجمة الأدب الغربي مثلا، متخذين منه مثالا للإحتذاء؟.  يظل هذا الانخرام مساهما في ثقافة التبعية التي لا زلنا  نعاني منها.

 

*الهوية الثقافية العربية تتعرض للكثير من العواصف والأنواء لهدمها، من وجهه نظرك كيف يمكننا التصدى لهذا؟

-سؤالك يعيدني إلى كتابي “سارقة النار” وشهادتي فيه عن “الإبداع والهوية” التي تجيب على هذا السؤال

الحارق، كيف نحمي هويتنا من الاندثار،  ؟ الآن، في زمن المشهد العربي الآفل والأوطان المسيجة بالغزاة والاستعمار العالمي العائد من ألف باب وباب، والاختلال الكوني الذي فقدت فيه حتى حبة القمح أصالتها؟.

أمام هذا الجشع الأعمى للقوى المسيطرة على العالم، التي تستبيح  كل تاريخ الأنوار الواعدة بالحرية والعدالة والرخاء للبشر، وتسعى للتحطيم الممنهج للذات، متناسية  قول المسيح الذي تدعي الولاء له “ماذا يفيد الإنسان إذا ربح العالم وخسر نفسه؟

أذكر ذاك اليوم الرهيب، يوم سقوط بغداد تحت أقدام الجنود الأمريكان. كان  المتحف الوطني أول ما استهدف، ليسرق وينهب الإبداع الذي خلد الحضارة في أرض مابين الرافدين.

وأذكر تلك الفرقة الإسرائيلية التي سرقت إحدى أغنيات سيد درويش وقدمتها على أنها من التراث الإسرائيلي.

أمثلة عديدة تفضح سبل التخريب الجديد، الذي يتحول فيها الفن هدفا ووسيلة.فسلطة الزمن الجديد تدرك جيدا خطر الإبداع ودوره في نحت الذات وحفظ الهوية.

لذلك أقول  أن  الفن الصادق الأصيل، بمختلف أنواعه، هو واحد من أهم الأسلحة ضد اللصوص الكبار الجدد.

وهو أهم منقذ لهويتنا  المستهدفة، لأنه صوت الأعماق الإنسانية الأصيلة وحامل خصوصيتها،

هو المنفلت من قيود الأسر، مخترق الجدران والأسوار ومخاتل الزمن.

وهو الذي جعل محمود درويش ينشد، رغم كل الخيبات والمرارات

“هزمتك يا موت الفنون جميعها   وأفلت من براثنك الخلود”

*ما مشروعك الأدبى القادم؟ وما المشروع الخاص لآخرين كنت تتمنين أنت كتابته؟ ولماذا؟

-مشروعي القادم  رواية  ” نساء هيبو وليال عشر”، رواية  شبه بوليسية،  تختلف فنيا  عن أعمالي السابقة ، تتسارع فيها الأحداث ، تنطلق من اغتيال العالم التونسي  محمد الزواري، الذي قتل في تونس،والذي  نقش اسمه أخيرا،على الطائرات بدون طيار  المساهمة في  الدفاع عن غزة. بهذه الرواية تكتمل ثلاثيتي ” دروب الفرار”، “العراء”، وأخيرا” نساء هيبو  وليال عشر”. سيكون إطلاق هذه الرواية -إن شاء الله-قريبا،في  المعرض الدولي للكتاب بتونس.

– قد أعجب بأعمال مختلفة لكتاب آخرين ،مثل ستيفان زفايغ، كازنتزاكيس،غسان كنفاني،  واسيني الأعرج..ولكن  لكل كاتب تجربته التي لن يكتبها أحد غيره . لن  أكتب  تجربة غيري ، كما أن لا أحد يمكن أن يكتب  تجربتي . كل ما أتمناه أن  يظل المشعل الذي يضيء داخلي ، مشتعلا ، لأكتب النص الصادق   الذي يفرض نفسه علي، النص الذي أشتهي.

*مدى تأثيرات السياسة على الثقافة، وتأثيرات الثقافة على السياسة ولأيهم الغلبة لعالمنا العربى؟

-للأسف، سلطة  السياسة هي المؤثرة  غالبا على الثقافة في  عالمنا العربي، سواء  بتهميشها أو   بجعلها  تسير في  ركاب السلطة   لتظل خادمة لها. ومع ذلك،  توجد دوما ثقافة المقاومة  التي  تتخذ مختلف الأشكال، لتعلي  قيمها   وتنشرها  مع توفر  مختلف التقنيات الحديثة وانفتاح العالم الافتراضي   على كل  الإمكانيات.

*الرقابة على الإبداع، ما تأثيراتها على المشهد والرؤية الثقافية؟

-الرقابة ، مهما  سعت  لتقييد  حرية الإبداع، وقمع الفكر،  لتبقى فقط الكتابات الداعمة  للتوجه السياسي الحاكم، أو  المهادنة، المتجنبة   محاذيره، فإن  النص الإبداعي  الحقيقي،  الحر، قادر على  تجاوز ها  بحيله الفنية، ولنا في تاريخنا  خير مثال على ذلك “كليلة ودمنة ” لابن المقفع.

يذكرني سؤالك عن الرقابة بقولة   للروائية الأرجنتينية لويزا فالنسوينا، إذ تجد مزية  للرقابة ،” الرقابة تدفع لابتكار الاستعارات الدقيقة. وأعتقد أن  الكاتب الذي لا يستطيع إيجاد الاستعارات الصحيحة غير جدير باسمه، سواء كان تحت نظام دكتاتوري أو نظام ديمقراطي.”

أضيف أن الرقيب  مهما كانت قوته، غير قادر على قتل النص الجيد  المقاوم أو  الإبداع الفني المعبر عن واقعه، والذي يجد المجال أكثر للطيران والانتشار بسبب المنع، سواء سرا أو حين تسقط قيود الرقابة.

*هل لمهنة الكاتب تأثير مباشر على كتابته؟

-الكاتب إنسان مرهف شديد الحساسية يتأثر بكل ما حوله. و كل تجربة حياتية ، سيكون لها تأثير على ما يكتب سواء تجلى ذلك  أو ظل خفيا.  وهذا ما يلاحظ في عديد الكتابات لكتاب كبار، كهمنغواي  وحنا مينا وغيرهما، ممن تجلت  عوالم ما امتهمنوا في الحياة في كتاباتهم.

*هل للكاتب عمر افتراضي، وجب عليه أن يعتزلها؟

-الكتابة حياة.إذا انتهت الكتابة  وانطفأ لهيبها ، انتهى الكاتب.

 

*ماذا عن المشهد النقدى؟ وعن الشللية والدوائر المغلقة بعالم الإبداع عامة؟

– النقد الجاد، عامة، متأخر عما تزخر به  الساحة الثقافية من إصدارات  متنوعة، إلا في حال  ما تبرزه الجوائز   من أعمال أدبية. و مع ذلك  لا يمكن أن ننكر ما تقدمه بعض المجلات الورقية  الباقية، والعديد من المواقع الافتراضية  العربية من قراءات ودراسات   تعرف بالإصدارات  المهمة ،  رغم ما ينتشر في هذه  ا لمواقع  من قراءات متسرعة سطحيةأو تحكمها المجاملات لا الإبداع.

مع هذا، نشهد حركية نقدية لافتة  في المغرب ،   واهتماما بارزا في مختبراته الجامعية، بالإبداع العربي  في مختلف الأقطار  إذ تخصص له  بحوث وندوات  متوالية، آخرها كان من تنظيم مختبر السرديات بجامعة بني مسيك بالدار البيضاء، عن  السرد النسائي المصري.

*هل كثيرا ما تسكبين بعضا من سيرتك الذاتية بكتاباتك؟

-تساءلت يوما في كتابي “سارقة النار”، ضمن شهادتي ” نساء في كتاباتي ،

“هل أكون أنا، دجلة  رواية العراء؟ المرأة المتخلصة من  سجون النساء، لتجد  جسدها المتحرر، في سجون المدن العربية ومستشفياتها؟…” .

في غمار  تجربة الكتابة الإبداعية، تضيع الحدود بين الواقع والخيال، وتصبح التجربة الفنية هي التجربة المتوهجة الموجعة التي تشع حياة على الورق والتي  لفرط صدقها، تجعل القارئ يتساءل ” أليست هذه سيرة ذاتية؟” خاصة إذا كان الكاتب امرأة.

قد تظهر الذات  في لغتي وأسلوبي، في الهموم التي تشغلني، في الأحلام التي تؤرقني وأتقاسمها مع شخوصي. أذكر قولة الكاتب الفرنسي الكبير  فلوبير  ، صاحب رواية” مدام بوفاري”، إذ قال ” مدام بوفاري هي أنا”.

كل كتابة إبداعية تنطلق من الذات،تجارب معينة حارقة  تفرض نفسها علي. ولكن الذات  هي البذرة التي تغتني بالخيال، بالأحلام والقراءات  وتجارب الآخرين، فيكون بذلك الأدب،  خلقا فنيا ينطلق من الذات ، ليشمل العالم.

*هل تذهب الجوائز والتكريمات الأدبية على تعدداتها، إلى مستحقيها؟

مع هذا الزخم الذي أصبحنا نراه من الإصدارات الأدبية ، خاصة في مجال الرواية ، وإغراء الجوائز التي لا يفوز فيها سوى واحد أو ثلاثة، سيظل  هذا السؤال مطروحا، دون جواب  ثابت.

الأجدى أن نسأل كيف تذهب الجوائز إلى مستحقيها ووفق أية معايير؟

من خلال تجربتي  في لجان العديد من ،أعتقد أن  الجوائز مهما كانت عادلة،  فإن الحكم  على العمل الإبداعي ، يظل،في جانب منه،  نسبيا .  لذلك نرى النقاش والجدل  يرتفع بعد الإعلان عن الجوائز، إلى حد الاتهامات المجانية . ولكن الكتاب الجيد، لن يظل طريقه إلى جائزة القراء،حتى لو تأخر ذلك  ولم يسعفه الحظ في الجائزة.

*لو حدث يوما وتوليت الحقيبة الثقافية ببلدك، أولوياتك الأولى ما هى؟

– لا قدر الله.  أنا خارج الحقائب  وحدود السياسة.  أولوياتي هي نصي الصادق  المضيء الوجدان الإنساني.لن أكون غير كاتبة حرة،  تعلي عالمها فوق أسوار  السياسات  العمياء.

*إذا أردنا أن نضع عنوانا رئيسيا عنك، ماذا يكون ولأى سبب اختيارك له؟

-أترك  قرائي يختارون العنوان.

*رسالة موجهه الى عائلتك ومجتمعك؟

:-رسالتي إلى  مجتمعي  العربي،  عبرت عنها في كتاباتي. ومع ذلك أقول للأقربين

شكرا لكل من تحمل هشاشة الكاتبة في ،وصبر عليها. شكرا  لمن سبب ألمي ، فقد أهداني الوجع  فرصة للكتابة والإشراق من جديد..

 

 

شارك مع أصدقائك