تأليف سالومي روني
ترجمة مي مصطفى
بعد ثلاثةِ أسابيعَ (فبراير 2011)
تجلس أمام تسريحتها، وتنظر إلى وجهها في المرآة، يفتقد بعضًا من نَضَارته حول خدَّيها وفَمِها. يبدو كما لو كان شيئًا تكنولوجيًّا، وعيناها كما لو كانتا مُؤشرين يُومضان، أو أنَّها تذكِرةٌ بالقمر مُنعكس على شيءٍ ما مائلٍ ومتقلبٍ. إنه يُعبِّر عن كل شيءٍ دفعةً واحدةً، وفي الوقت نفسه لا يُعبِّر عن أيِّ شيءٍ بالمرَّة. أن تضع مكياجًا لمُناسبة كهذه أمرٌ –كما ارتأت- مُحرجٌ. ومن دون أن تنقطع عن مُراقبة وجهها في المرآة غمست إصبعها في مُرطِّبِ الشِّفاه المفتوح، ووضعت منه على شفتيها. بأسفل السُّلَّم، وبينما كانت تأخذ معطفها من على الحامل، خرج أخوها ألان من الصَّالة قائلًا:
– إلى أين تذهبين؟
– إلى الخارج.
– في أي مكان بالخارج؟
وضعت ذراعيها في كُمَّي المعطف، وعدلت الياقة.. بدأت تشعر بالتَّوتُّر الآن، آملةً أن يصل إليه صمتُها كإهانةٍ أكثر منه شكًّا.
– في الخارج للتَّنزُّه.
تحرَّك ألان ليقف أمام الباب.
– حسنًا.. أعرف أنكِ لستِ ذاهبةً لمقابلة أصدقائكِ، فليس لديكِ أيُّ أصدقاء.. أليس كذلك؟
– لا … ليس لديَّ.
تبتسم ببساطةٍ، آملةً في جعله يهدأ ليبتعد عن الباب، لكنه بدلًا من ذلك، قال:
– من أجل أيِّ شيءٍ تفعلين ذلك؟
– أفعل ماذا؟
تلك الابتسامة الغريبة.
ثم قلَّد ابتسامتها، ولوى وجهه، كاشفًا عن أسنانه، وعلى الرغم من تقليده هذه الابتسامة العريضة، فإنه بَدَا غاضبًا.
– هل أنتِ سعيدةٌ أنه ليس لديكِ أصدقاء؟
– لا.
ما زالت تبتسم، غير أنها تراجعت خطوتين للوراء، ثم استدارت، ومشت باتِّجاه المطبخ، حيث باب الفناء الخلفي المُطل على الحديقة. مشى ألان وراءها، وشدَّها من كتفها، وسحبها إلى الدَّاخل.. شعرت بتقلُّص في فكِّها، بينما كانت أصابعه تضغط على ذراعيها على الرغم من أنها ترتدي الجاكيت.
– ستبكين لأُمِّكِ.. أليس كذلك؟
– لا.. سأذهب لأتنزَّه بالخارج الآن.. شُكرًا لك.
تركها، فاندفعت خارجةً من باب الفناء، وأغلقته وراءها. في الخارج بدأت تشعر بالهواء البارد، فاصطكَّت أسنانها، ومشت بجانب البيت، ووصلت إلى الشَّارع عبر المَمَرِّ، ما زال هناك نبضٌ في ذراعها منذ أن شدَّها منه. أخرجت تليفونها من الجيب، وكتبت رسالةً. أخطأت المرَّة تلو الأُخرى في كتابة الحرف بشكلٍ صحيحٍ، تمسح وتُعيد الكتابة، وأخيرًا أرسلتها: «أنا في طريقي». جاءها الرد قبل أن تضع التليفون في مكانه: «حسنًا، أنا في انتظارك».
____________________________
في نهاية الفصل الدِّراسيِّ الأخيرِ، وصل فريق كرة القدم بالمدرسة إلى نهائي المُنافسة، وسيُعفى كُلُّ شخصٍ هذا العام من الحصص الثَّلاث الأخيرة لمُشاهدة المُباراة. لم تشهدهم ماريان وهم يلعبون من قبل، فهي ليس لديها أيُّ اهتمامٍ بالرِّياضة، وكان ينتابها قلقٌ في حصص التَّربية البدنيَّة.
في الحافلة، إبان طريقهما إلى المُباراة، كانت تستمع فقط إلى سمَّاعة الرَّأس، ولم يتكلَّم أحدٌ معها. وفي خارج النَّافذة مَواشٍ سوداءُ، ومُروجٌ خضراءُ، ومنازلُ بيضاءُ بأسطُحٍ بلاطُها بُنِّي. كان فريق كُرة القدم جالسًا في الجُزء العُلويِّ من الحافلة يشربون ويصفع بعضُهم البعضَ الآخَرَ على الأكتاف لرفع الرُّوح المعنويَّة.
تشعر ماريان كما لو كانت حياتها الحقيقيَّة تحدث في مكان ما بعيدٍ جدًّا عنها، تحدث من دونها وهي لا تعلم متى ستجدها، ومتى يمكنها أن تُصبح جُزءًا منها، دائمًا ما يأتيها هذا الشُّعور في المدرسة، لكن هذا الشُّعور لا يُصاحبه أيُّ تصوُّراتٍ مُحدَّدةٍ عن ماهيَّة هذه الحياة، أو كيف تبدو؟ كل ما تعرفه أنَّ هذه الحياة لمَّا بدأت لم تعُد بحاجة إلى تخيُّلها بعدُ.
ظلَّتِ الأرضُ جافَّةً ومُهيَّأةً للمُباراة، جاؤوا جميعًا بغرض الوقوف على جوانب الملعب يُشجِّعون. كانت ماريان قريبةً من العارضة مع كارين وبعض الفتيات الأُخريات. كل الأشخاص، ما عدا ماريان، بَدَوا يحفظون أناشيدَ المدرسة عن ظهر قلب بطريقةٍ أو بأُخرى بكلماتٍ لم تسمع عنها ماريان من قبل. مرَّ الشَّوط الأوَّل من دون أن يُحرز أيٌّ من الفريقين أهدافًا، قامت الآنسة كيني، ووزَّعت عليهم علب عصير، وألواحَ الطَّاقة. في الشَّوط الثَّاني تغيَّرت النَّهايات، فريق المدرسة كان يلعب بالقُرب من المكان الذي تقف فيه ماريان. كونيل والدرون كان لاعبَ خطِّ الوسط المُهاجم. تستطيع أن ترى ماريان كونيل واقفًا بزيِّه، الشُّورت الأبيض النَّاصع، وقميص فريق المدرسة، ورقم 9 على ظهره، هيئته في الملعب جيدة جدًّا عن أيِّ لاعبٍ آخرَ، شكله يُشبه خطًّا أنيقًا مرسومًا بفُرشاةٍ. حينما تتحرَّك الكُرة تجاه خطِّ التَّماس يميل بجسده ويجري تجاههم، وقد يُشير بيده في الهواء، ثم يعود ليتمركز في مكانه. كانت مُتعةً كبيرةً لماريان أن تشاهده، لم تعتقد أنه يعرف أو يهتمُّ بمكان وقوفها.
في أحد الأيام، وبعد المدرسة، أخبرته أنها شاهدته، وضحك، وسمَّاها غريبةً. في الدَّقيقة السَّبعين مرَّر إيدان كيندي كُرةً من الجانب الأيسر إلى كونيل الذي تسلَّمها على طرف منطقة الجزاء ووجَّهها قويَّةً من فوق رُؤوس المُدافعين، لتستقرَّ في الشِّباك. صرخ الجميع، حتى ماريان، ومدَّت كارين ذراعيها حول وسط ماريان، واعتصرته. كان الجميع يهتف معًا كما لو كان شيءٌ سحريٌّ قد أذاب كُلَّ الفوارق الاجتماعيَّة بينهم. كانت الآنسة كيني تُصفِّر وتُدبدب بقدميها. على الخطِّ كان كونيل وإيدان يحتضن أحدهما الآخر كما لو كانا أَخَان التقيا بعد غياب. كان كونيل جميلًا جدًّا، حتى إنَّ خاطرًا برق لماريان؛ ماذا لو شاهدته يُمارس الجنس الآن مع شخص ما، ليس بالضَّرورة أن تكون هي، قد يكون أيَّ شخصٍ، سيكون من الجميل أن تراه فقط. هي تعرف أنَّ أفكارًا من هذا النَّوع تجعلها مُختلفةً عن أيِّ شخصٍ آخرَ في المدرسة، وأكثر غرابةً.
زُملاء ماريان في الصَّفِّ يُحبُّون المدرسة كثيرًا، ويجدونها شيئًا عاديًّا أن ترتدي الزَّيَّ نفسه كُلَّ يومٍ، أن تُطيع قواعدَ تعسُّفيَّة طوال الوقت، أن تخضع للفحص الدَّقيق والمُراقبة في حالة سُوءِ السُّلوك، يجدون كُلَّ هذه الأشياءَ عاديَّةً. ليس لديهم شعور تجاه المدرسة بأنَّها بيئةٌ مُتعسِّفةٌ.
اصطدمت ماريان العام الماضي مع مُدرِّس التَّاريخ السيِّد كيريجان؛ لأنَّه وجدها تنظر من النَّافذة في أثناء الحصَّة، ولا أحد من الفصل انحاز إلى موقفها. ترى أنه شيءٌ يقودُها إلى الجنون أن يتوجَّب عليها ارتداءُ زيٍّ كُلَّ صباحٍ، وتكون تحت سقف هذا المبنى الكبير طوال اليوم، وألَّا يكون مسموحًا لها بأن تُحرِّك عينيها أينما تُريد، حتى تحريك عينيها يقع تحت صلاحيَّة قواعدِ المدرسة.
– لن تتعلَّمي أيَّ شيءٍ ما دُمتِ تُحدِّقين في النَّافذة مُستغرقةً في أحلام اليقظة.
قال ذلك السيِّد كيريجان لماريان التي فقدت أعصابها، ثم عادت وردَّت عليه بهدوءٍ:
– لا تُوهم نفسك، فأنا لا أتعلَّم أيَّ شيءٍ منكَ.
قال كونيل أخيرًا إنه تذكَّر هذه الواقعة، وإنه في هذا الوقت شعر بأن ماريان قاسية مع السيِّد كيريجان، وهو في الحقيقة من أكثر المدرسين حكمةً. ثم أضاف كونيل:
– لكنَّني أفهم ما تقولينه بخصوص شعورنا بأننا سُجناء في المدرسة، أرى ذلك بالفعل، كان ينبغي له أن يتركَكِ تنظرين من النَّافذة.. أنا أُوافقكِ على ذلك، فأنتِ لم تُحدِثي أيَّ ضررٍ.
بعد أن تحدَّثا في المطبخ، وأخبرته بحُبِّها له، بدأ كونيل يتردَّد كثيرًا على المنزل. يصلُ مُبكِّرًا ليأخذ أُمَّه من العمل، ويظلُّ مُتسكِّعًا في الصَّالة من دون أن يقول أيَّ شيءٍ، أو يقف بجوار المدفأة ويداه في جيبيه. لم تسأل ماريان عن سبب مجيئه مُبكِّرًا.. يتحدَّثان قليلًا، أو تتحدَّث هي، بينما هو يُومئ برأسه فقط. أخبرها أن عليها قراءةَ «البيان الشُّيوعيِّ»، فهو يرى أنَّه سيُعجبها، وعرض عليها أن يكتب لها العنوان حتى لا تنساه. قالت:
– أعرف «البيان الشُّيوعي».
هزَّ كتفيه، وقال:
– حسنًا.
وبعد دقيقة أضاف مُبتسمًا:
– تحاولين أن تُبدينَ بأنَّكِ تعرفين كُلَّ شيءٍ، لكنَّ الواضح أنَّكِ لم تقرئيهِ بعدُ.
ضحكت، فضحك بدوره؛ لأنها فعلت ذلك. لم ينظر أحدهما إلى الآخَر وهما يضحكان، بل كانا ينظران إلى زوايا الحُجرة، أو إلى أقدامهما.
بدا كونيل مُتفهِّمًا شُعور ماريان تجاه المدرسة، وقال إنَّ آراءها تُعجبه.. قالت:
– لقد سمعت ما يكفي منها.
– هذه حقيقة، تتصرَّفين في الصَّفِّ بشكلٍ مُختلفٍ على الرغم من أنَّكِ لستِ هكذا في الحقيقة.
يُفكِّر في أنَّ ماريان تستطيع أن تتمثَّل شخصيَّاتٍ مُختلفةً، وتتحوَّل من شخصيَّةٍ إلى أُخرى بكُلِّ سُهولةٍ، وهذا بدوره أدهشَ ماريان، فهي التي غالبًا ما تشعر بأنَّها مُقيَّدةٌ داخل شخصيَّةٍ واحدةٍ، الشَّخصيَّة نفسها في كلامها، أو تصرُّفاتها. حاولت أن تكون مُختلفةً من قبل كنوعٍ من التَّجربة، لكنَّها لم تنجح في ذلك. ولو كانت مُختلفةً مع كونيل، فهذا الاختلاف لم يحدث بداخلها، في شخصيَّتها نفسها، بل دائمًا ما يحدث إبان التَّفاعُل بينهما فقط.
أحيانًا تجعله يضحك، لكن في أيَّام أُخرى يكون مُتحفِّظًا وغامضًا، وبعد أن يُغادر تشعر بأنَّها عنيفةٌ ومُنفعلةٌ، ونشيطةٌ ومُنهكةٌ جدًّا في الوقت نفسه.
في الأسبوع الماضي تبعها إلى حُجرة الدِّراسة، بينما كانت تبحث عن نُسخة من كتاب «الحريق المرَّة القادمة»* لتُعيره الكتاب. وقف هناك يتفحَّص أرفُف الكُتُب وزِرُّ قميصه العُلويُّ مفتوح، وربطة عُنقه مفكوكة. وجدت الكتاب، وسلَّمته إيَّاه، فجلس على مقعدٍ بجوار النَّافذة ينظر إلى غُلاف الكتاب الخلفيِّ. جلست بجواره، وسألته إذا كان صديقاه إيرك وروب يعرفان أنه يقرأ كثيرًا خارج المدرسة، فقال:
– لا يهتَّمان بهذه الأشياء.
– هل تقصد أنهما غير مشغولين بما يحدث حولهما في العالم؟
يُعيد كونيل التَّعبير نفسه بوجهه كلما انتقدت صديقيه، ويُكشِّر دون معنى.
– ليسا بهذه الطريقة، فلديهما اهتماماتهما الخاصَّة، لا أظنُّ أن منها كُتبًا عن العُنصريَّة، وما شابه ذلك.
– صحيح هما مُنشغلان بالتباهي بمن يُمارسان الجنس معها.
توقَّف ثانيةً وكأنَّ كلامها قد ثقب أُذنيه، ولكن لم يعرف بالضَّبط كيف يرُدُّ.
– نعم.. هما يفعلان قليلًا من ذلك، لا أدافع عن ذلك، فأنا أعرف أنهما مُزعجان.
– ألا يُضايقك ذلك؟
توقَّف مرَّةً أخرى، ثم قال:
– في الغالب لا.. هما يفعلان أشياءَ تتجاوز الحدَّ، وهذا هو بوضوح ما يُزعجني، لكن في نهاية اليوم هما صديقاي.. تعلمين ذلك، وهو شيء مُختلف بالنِّسبة إليكِ.
نظرت إليه، لكنَّه كان يتفحَّص ظهر الكتاب. قالت:
– لماذا ذلك مُختلف معي؟
هزَّ كتفيه وهو يفتح غُلاف الكتاب ويُغلقه. شعرت بالإحباط، ووجهها ويداها ساخنان.. ظلَّ ينظر في الكتاب على الرغم من أنه انتهى تقريبًا من قراءة النَّصِّ المكتوب على ظهر الغُلاف. حضور جسده هو بالضَّبط ما شعرت به في تلك اللَّحظة، وآنست له كأنَّ أنفاسه العاديَّة كانت قويَّةً بما يكفي لإصابتها بالدُّوَار.
– تعلمين أنَّكِ قُلتِ في ذلك اليوم إنَّكِ تُحبِّينني حينما كُنَّا في المطبخ لمَّا كنَّا نتكلَّم عن المدرسة.
– نعم.
– أتقصدين أنَّكِ تُحبِّينني كصديقٍ، أم ماذا؟
حدَّقت للأسفل في حجرها، كانت ترتدي «جيبة» قُطنيَّة مُضلَّعة بانت في ضوء النَّافذة كما لو كانت أقلامًا من الشَّاش.
قالت:
– لا.. لستَ مُجرَّد صديقٍ.
– حسنًا.. كنتُ أتساءل فقط.
كان جالسًا هناك يُومئ برأسه لنفسه، ثم أضاف:
– أنا في الحقيقة مُضطرب نوعًا ما، ستكون مسألةً مُحرجةً لنا في المدرسة إذا حدث بيننا شيء.
– لن يعرف أحد.
نظر في عينيها مُباشرةً باهتمامٍ بالغٍ. كانت تعرف أنه سيُقبِّلُها، وبالفعل قبَّلها. كانت شفتاه ناعمتين. حرَّك لسانه داخل فمها قليلًا، ثم أنهى قُبلته، وابتعد. تذكَّر أنه يحمل كتابًا، فبدأ ينظر فيه مرَّةً أُخرى.
– كانت لطيفةً.
أومأ برأسه، وابتلع ريقه، ثم نظر إلى الكتاب مرَّةً أُخرى. كان مُرتبكًا وكأنَّه أمرٌ وقحٌ منها أن تُعلِّق على القُبلة؛ لذا بدأت ماريان تضحك، وبدا عليه الارتباك.
– حسنًا.. لماذا تضحكين الآن؟
– لا شيء.
– تتصرَّفين وكأنَّه لم يُقبِّلكِ أحدٌ من قبل.
– حسنًا.. فلم يُقبِّلني أحدٌ.
وضع يديه على وجهه، وضحكت مرَّةً أُخرى، فلم تستطع أن تُوقف نفسها، ثم ضحك هو بدوره أيضًا. احمرَّت أُذناه جدًّا، وكان رأسه يهتزُّ. وقف بعد ثوانٍ قليلةٍ حاملًا الكتاب في يده، وقال:
– لا تُخبري أحدًا في المدرسة بخصوص ذلك.. تمام؟
– وكأنَّني في الأصل أتكلَّم مع أحدٍ في المدرسة.
غادر الحُجرة، فانهارت من مقعدها على الأرض، ورجلاها مُمدَّدتان أمامها كما لو كانت دُميةً. وبينما هي مُستلقيةٌ على الأرض شعرت كأنَّ كونيل كان في زيارتها ليختبرها فقط، وأنها اجتازت الاختبار، وكانت القُبلة تواصُلًا بينهما وعلامةً على اجتياز الاختبار. تُفكِّر في الطَّريقة التي كان يضحك بها حينما أخبرته بأنَّ أحدًا لم يُقبِّلها من قبل. لو كان شخصٌ آخرُ ضحك بهذه الطَّريقة لكان قاسيًا بالفعل، لكنَّها لم تُحرَج من كونيل بتلك الطَّريقة، بل كانا يضحكان معًا، ويتشاركان موقفًا وجدا نفسيهما فيه، لكن كيف نَصِفُ هذا الموقف؟ أو ما المُضحك فيه لم تعرفه ماريان بالضَّبط؟
في الصَّباح التَّالي، وقبل حصَّة اللُّغة الألمانيَّة، جلست ماريان تُشاهد أصدقاءها في الفصل يدفع بعضهُم بعضًا دفعًا عنيفًا على خزَّانات الحرارة.. يصرخون، ويضحكون. حينما بدأتِ الحصَّة بدؤوا يستمعون بهدوء إلى شريطٍ صوتيٍّ لسيِّدةٍ ألمانيَّة تتحدَّث عن حفلةٍ فاتتها (أنا آسفةٌ جدًّا) قالتها بالألمانيَّة.
في الظَّهيرة، بدأ الثَّلج في التَّساقُط، نُدَفٌ رماديَّةٌ كثيفةٌ بانت من النَّافذة تذوب على الحَصى، كُلُّ شيءٍ حميمٌ.. رائحةُ الفُصولِ الرَّطبة.. جرسُ انتهاءِ الحصصِ.. الأشجارُ المُظلمة الكالحة تقف كأشباحٍ حول ملعب كُرة السَّلَّة.. العمل الرُّوتيني البطيء من نُسخ الدُّروس بأقلامٍ ذات ألوانٍ مُختلفةٍ على ورقٍ جديدٍ أسطُرُهُ زرقاءُ وبيضاءُ. كونيل كالمُعتاد لم يتكلَّم مع ماريان في المدرسة، أو حتى ينظر إليها، تراه عبر الفُصول كما لو كان يُصرف أفعالًا، يقضم مُؤخِّرةِ قلمه، وعلى الجانب الآخر في (الكافيتريا) إبانَ وقتِ الغَدَاء يبتسمُ مع أصدقائه على شيءٍ ما يحدث. يملؤها سرُّهم بسعادةٍ غريبةٍ تشعر بها في جسدها تضغط أسفلَ عظامِ حوضها عندما تتحرَّك. لم تَرَه بعد المدرسة ذلك اليوم، ولا اليوم الذي يليه. في ظهيرة يوم الخميس، كانت أُمُّه في العمل مرَّةً أُخرى فجاء إليها مُبكِّرًا ليأخذها. أجابت ماريان الباب لأنَّها كانت بمُفردها في المنزل. كان قد خلع زِيَّه المدرسي ويرتدي بنطلون جينز وبلوزة، عندما رأته كانت توَدُّ أن تجري بعيدًا وتُخبئ وجهها.
قالت:
– لورين في المطبخ.
ثم استدارت، وذهبت أعلى السُّلَّم إلى غُرفتها، وأغلقت الباب، ودسَّت وجهها في المَخدَّة، من يكون كونيل هذا على أيِّ حالٍ؟ صحيحٌ هي تشعر بأنَّها تعرفه بشكلٍ حميميٍّ، ولكن ما سبب هذا الشُّعور؟ هل بسبب فقط أنَّه قبَّلها مرَّةً واحدةً من دون أيِّ تفسيرٍ، ثم حذَّرها بألَّا تُخبر أحدًا؟ بعد دقيقةٍ أو دقيقتين، سمعت نقرةً على باب حُجرة نومها، ثم وقفت، وقالت:
– ادخُل.
فتح الباب، ونظر إليها، مُستفهمًا؛ ليتأكَّد إن كان مُرحَّبًا به، ثم دخل الحُجرة، وأغلق الباب خلفه، وقال:
– هل أنتِ غاضبةٌ مِنِّي؟
– كلَّا، لماذا أغضبُ منكَ؟
هزَّ كتفيه، وتجوَّل حول السَّرير مُتكاسلًا، ثم جلس، كانت تجلس القرفصاء مُمسِكَةً بكاحليها، جلسا في هُدوء للحظاتٍ قليلةٍ، ثم اقترب منها، لمس ساقها، فاستلقت بظهرها على المَخدَّة. سألته بجرأةٍ إن كان سيُقبِّلها مرَّةً أُخرى، قال:
– ماذا تظُنِّين؟
هذا بدوره صفعها كما لو قال شيئًا غامضًا ومُعقَّدًا. على أيِّ حالٍ هو بالفعل بدأ في تقبيلها، وأخبرته أنَّها قُبلة لطيفة، وهو لم يقُل شيئًا. شعرت بأنَّه ينبغي عليها أن تفعل أيَّ شيءٍ لتجعله مثلها، وأن يقول بأعلى صوتٍ إنَّه يُحبُّها. وضع يده تحت بلوزتها المدرسيَّة، فقالت في أُذنيه:
– هل يُمكننا أن نخلع ملابسنا؟
فنزل بيديه تحت صدريِّتها، وقال:
– بالتَّأكيد لا، فهذا شيءٌ أحمقُ على أيِّ حالٍ.. لورين تحت السُّلَّم بالضَّبط.
سمَّى أُمَّه باسمها الأوَّل كما هو مُوضَّح، وقالت ماريان:
– هي لم تطلُع للأعلى من قبل.
هزَّ رأسه، وقال:
– لا. لا بُدَّ أن نتوقَّف.
وقف ونظر تِجاهَهَا للأسفل، فقالت:
– أغريتكُ للحظةٍ.
– ليس بالضَّبط.
– أغريتُك.
هزَّ رأسه، وابتسم، وقال:
– أنتِ شخصٌ غريبٌ.
_________________________________________
الآن هي تقف في المَمَرِّ الذي يركن فيه سيَّارته، بعد أن أرسل إليها العنوان في رسالةٍ على الموبايل.. إنَّه في رقم 33: منزل مُلاصق ذو جدران مُبلَّطة بالحصى، ستائُره شبكيَّة، وفناؤه أسمنتيٌّ ضيِّق. رأت ضوءًا يلمعُ في نافذة الطَّابق العُلويِّ، كان من الصَّعب عليها أن تُصدِّق أنَّه يعيش هناك في هذا المنزل الذي لم تدخله من قبل، أو حتى تراه. كانت ترتدي بلوزةً سوداءَ، وتنوُّرةً رماديَّةً، وطاقمًا داخليًّا أسودَ رخيصًا، وساقاها محلوقان بإتقانٍ، وإبطاها ناعمان، ولونها لونُ الطَّباشير من أثر مُزيل العرق، ويسيل أنفُها قليلًا. دقَّت الجرس، وسمعت وقع أقدامه على السُّلَّم. فتح الباب، وقبل أن يدعها تدخل جال بنظره فوق كتفيها ليتأكَّد من عدم انتباه أحدٍ لها.