فوز حمزة
هذا المساء أكملت أربعًا وعشرين عامًا، مضت سنتان وعدة شهور على فراقنا، من يومها لم أستطع الإبقاء على روحي وجسدي معًا، لأنني معك فقط، أتماثل في الحب والهوى!.
تخرجتُ من الجامعة، تأخرت في دراستي بسبب الظروف التي تعرفينها، وهي ذاتها التي رفضوني أهلكِ بسببها، كل شيء في حفل التخرج جميل ومرتب، لم ينقصه شيء، عدا أنك لم تكوني في الصورة إلى جانبي، أصبح لقبي العلمي الدكتور، كنت أفضل لقب دكتور السعادة، كما كنتِ تحبين مناداتي.
بعد مضي ست سنوات على فراقنا، اشتريت سيارة حمراء، فرشها داكن اللون ولها فتحة في السقف كما كنتِ ترغبين، علقت فيها القلادة التي أهديتني إياها في عيد ميلادي .. أغاني فيروز التي تفضلينها أستمع إليها في الصباح، كل شيء فيها رائع إلا إنكِ لن تركبيها!.
اليوم أكملت عقدي الثالث، وهو اليوم الذي دفعت فيه مقدم شقة أحلامنا،غرفتان للنوم، مشمستان، صالة كبيرة، أثاثها بسيط، وألوانه فاتحة، شرفتها تطل على النهر لأنكِ تعشقين رؤية الزوارق وهي تتهادى على صفحة الماء، بينما صوت النوارس يحلق بِنا عاليًا، حرصت على أن تقع في الحي الذي أعجبكِ، لم أنسَ لوحة الطفل التي رأيتها في إحدى المحال، علقتها عند المدخل كما طلبتِ، لا ينقص الشقة شيء سوى أنكِ لن تسكنين فيها، لهذا لم أسكنها أنا أيضًا، فقمت بإيجارها لأناس آخرين.
أخبرتني صديقة لكِ أن عمر ابنكِ الآن أصبح سبع سنين، لقد كن سبع عجاف لم يتركن لي شيئًا سوى ألم الفراق أقتات عليه.
اختارت لي أمي فتاة من أقربائنا، لم تثر فيّ سوى الحزن، تزوجتها دون إبداء أي رأي لاقتناعى بقول صديقي في أن أتزوج بمن تحبني وأكف عن البحث عن شبيهتكِ، يظن أن لكِ شبيهة، فمضيت بهدوء إلى الحزن الكامن فيّ.
العرس كان رائعًا ومثاليًا إلا إنكِ لم تكوني العروس.
بدأت أطيل الصمت وأنا في البيت بعد أن أخطأت مرات في مناداة زوجتي باسمكِ، الحق أنها امرأة طيبة، تغاضت عن كل شيء لإرضائي، لكنها لم تسعد روحي كما كنت تفعلين، لم تستطع منحي شيئًا أنسى به ذاتي.
في ذكرى زواجنا الأولى، اقتنت لي ساعة يد غالية الثمن، تمنيت لو أنها منكِ.
مضى على فراقنا ثمانية آلاف وثلاثمائة وخمسة وتسعين يوم، وهو اليوم الذي بلغ فيه ابني البكر الرابعة عشرة، اخترت له الاسم الذي تحبين، يهوى الرسم مثلك، إلا إنكِ لم تكوني أمه.
عمري في هذه اللحظة ستة وخمسين سنة، مضى على فراقنا اثنان وثلاثون عامًا.
اليوم عرس ابنتي، أسميتها باسمكِ ليتسنى لي تدليعها كما فعلتُ معكِ.
أصبح العرس حديث الناس، شعرت كأنني في قارب ممزق الشراع، لا يأتي ولا يذهب، يتأرجح الوقت معه، فرحتي لم تكن مكتملة لأنكِ لم تكوني أم العروس.
حملت حقيبتي، وأدوية الضغط، والسكر، وحفنة من الذكريات، سافرت معها إلى مدينة البندقية، التي لطالما حلمتِ برؤيتها، زرتُ أماكن كثيرة فيها، إلا إنكِ لم تكوني رفيقتي.
البارحة أتممت عقدي السابع، بدأ الليل يسترق السمع لحديثي مع النجوم.
هل لكِ تخيل حجم فرحي حين علمت أن عروس ابني هي ابنتكِ؟ تشبهكِ بكل التفاصيل، ابني كذلك كان فريدًا في حبه لها.
في ليلة عرسهما، كل شيء يبعث على البهجة، كأنها ليلة من ألف ليلة وليلة، إلا إنكِ لستِ حاضرة فيها،
لقد أخبروني بوفاتكِ منذ خمسة أعوام بمرض السرطان.
مضى على فراقنا عمر توقفتُ فيه عن كتابة القصائد، لأنكِ لن تقرئيها، لم أعد أطرب لسماع موسيقى لن تشاركيني الرقص على أنغامها، لم أعد أفهم أغاني الطيور، لأنكِ لستِ هنا لتترجمي لي ما تقول.
منذ عشر أو عشرين، أو ربما ثلاثين سنة، أدركت أنني لم أعد من هناك، حيث لم أكن هنا أبدًا، أحتسي بغيابكِ وحدتي دفعة واحدة.
مضيتِ في طريقكِ اللانهائي، وتركتِ الكوابيس تباغتني كل ليلة.
كتبت هذه الرسائل بخطِ يدي واحتفظت بها في الصندوق الذي أهديتني إياه مع الكتب الثلاثة وقلمكِ
السحري المعطر و ولاعة السجائر المحفور عليها حروف اسمكِ.
فوز