د. حاتم الصكر
يلخص عنوان المقالة جوهر قراءتي لدواوين الشاعر البَصْري (كريم جخيور).. وهو وصف كذلك لنوع من الكتابة الشعرية، التي تتبسط غير متنازلة عن أهدافها وخططها النصّية وإجراءاتها الشعرية، هي لا تبتغي العمق السطحي الذي تلتف خيوط اللغة حوله، والبلاغات المفرطة والرغبة في الإدهاش.
يمكن التعرف إلى وعي الشاعر وعقيدته الشعرية في نص له، أعدُّه من الكتابات فوق النصية أو الميتاشعرية.. أي تلك النصوص التي تستخدم اللغة الواصفة لعملها أثناء الكتابة، ليحتل النص الوصفي محل المضمون الذي تتوقعه آفاق القراءة. وهذا الاشتغال موضع درس وتحليل وتأويل من النقاد اليوم، لكونه مصارحة من الشاعر حول ما يعتريه خلال الكتابة أو التوجه لإنجاز القصيدة، وما يتداعى من إفصاح عن علاقته بنصه، وربما بتوسيع يمس العلاقة بالشعر ذاته.
وقد برزت بعض الدراسات حول الميتاشعرية، تحاول ملاحقة تكلّم القصيدة عن نفسها، أو التنظيرات المسبقة للشعراء عن الشعر. لكن المقصود في قراءتي للميتاشعر في قصائد كريم جخيور، هو تعقب تفوهاته داخل القصيدة عن القصيدة ذاتها، أو كلامه عن الشعر في مواجهة مع نصه، أو في الحديث عنه بصفة وصايا لمن يكتبه، أو من يقرأ نصوصه.
ولا يمكن لنا وصف هذا النوع من الأعمال تنظيراً للشعر، بل هو سوانح وخطرات وتداعيات يؤطرها الشعر نفسه، ككائن مجسد يواجهه الشاعر أثناء الكتابة، أو يدفع عن نفسه مواجهته ليضعه في حقل القراءة، فيسدي نصائحه وتعاليمه التي يشوبها أحياناً التعالي على القارئ، أو محاولة إبراز هوية القصيدة بتوجيه القارئ نحو رؤية الشاعر عنها.
يوسع الشاعر كريم جخيور أفق النص الموازي، أو الواصف، ليجعله مخاطبةً للشاعر كآخر، فيمرر رسالته المتضمنة وعيه بالشعر إلى مناداة شاعر غير مرئي، ربما يكتب قصيدته الآن، أو يُعد نفسه ليكون شاعراً، وكلاهما: الشاعر المتكوّن، أو الذي في طور التكوين، أصبحا متلقيين. لكنّ إطار القصيدة التي تتحدث عن الشعر وتغفل رسالتها الأساسية، هو فضاء الشعر نفسه، وجزئياته المكونة له موضوعاً ومفردات.
البساطة أسلوب كريم، الذي لا أريد وصفه بالسهل الممتنع؛ لأنه لا يتوخى ذلك حين يحفر عميقاً في الدلالات، لكن وددتُ أن أصف بساطته بالخلّاقة.. فمن حيث تفارق اللغزي والمعقد والمركب، تقودنا إلى الوصف الثاني المقترَح، وهو (الخلّاقة)، حيث تبني شغبها الدائم عبر المفارقة والكنايات المتوسعة، والإحالات التي لا تخلو من شعبوية أحياناً، ليعود وينتشلها من وضعها ذاك، ويدرجها في سيرورة دلالية، تسرد ولكن بالحفاظ على مناطق الشعر حتى وهو يقوم بالسرد.
ولمناسبة يوم الشعر العالمي، يكتب كريم جخيور قصيدة بعنوان (فن الشعر). وهو لا يريد أن يجلس في مقاعد المنظّرين، برغم أن العنوان يأخذ القراءة إلى افتراض وجود علاقة تناص، مع عنوان أقدم الكتب المؤلفة في العنوان نفسه، وهو كتاب أرسطو طاليس كما قدمته الترجمات العربية..
(في الشعر/ أنا لا أريدكَ أن تصف لي سقوط المطر/ دعني أتبلل به/ هذا ما قاله إدوارد غاليانو/ وعن الرسم/ تقول الحكاية إن الإمبراطور الصيني/ طلب من الرسام أن يلغي الشلالات/ من رسوم القصر/ خريرها لا يجعله ينام/ وإن العمال كانوا كثيراً/ ما يتأخرون عن العمل/ لأنهم ينشغلون بحَمامات فائق حسن/ وقد أخبرني قبطان سفينة/ أنه كان يسمح للبحارة ان يتجمعوا على سطحها/ ليؤدوا التحية إلى تمثال السياب/ وعن العطر كلما كتبت اسمك/ صار وردة ياسمين/ وعن الشعر أيضاً/ كلما كتبتكِ/ أظل خائفاً أن تعرفك أمك/ حين تقرأ قصيدتي/ وحتى لا تتحول حروف قصيدتي/ إلى أشجار قطوفها دانية/ وسطورها أنهار عسل/ فيعرفني الناس/ ويحسدني عليك الشعراء).
يكاد النص ينقسم تماماً إلى مقطعين، فقد صنع الشاعر التفاتاً من المخاطب: الشاعر المتخيل، إلى حبيبته، وصار هو الفاعل الدلالي، لا الشاعر الذي طالبه بأن ينفذ خطته هو في الكتابة. إنه يريد ملموسية وتعيّناً هي جزء تكويني مهم لبساطته المقصودة، والتي يديرها بذكاء.. أن يحس وهو يقرأ الشعر، وكأن الخطاب لنفسه.. أن يسمع رنين الكلمات كما سمع الإمبراطور خرير أنهار اللوحة الجدارية في قصره. ومن استعارة محلية يستفيد الشاعر من موقف العمال ينتظرون أرباب أعمالهم، تحت جدارية الفنان فائق حسن في إحدى ساحات بغداد الكبيرة، لكنهم ينشغلون بتأمل الحمامات التي تطير في الجدارية. الفن يعمل هنا في الوعي ليشغل عن اليومي العابر والواجب أحياناً.
لكن الشاعر يستدير ليحتكر هذه الوصايا الثمينة لنفسه. فيقوم بآلية التحويل بدمج الحبيبة في أفق الدلالة. يكون الحديث الآن عن القصيدة لا الشعر، فقد قام كريم بحصر المساحة وتخصيص القصيدة بخطاب الحب، ويتأرجح بين عاطفتين: أن يموّه الحبيبة اتقاءً للممنوع الاجتماعي من جهة، وتجنباً للمباشرة ووضع الدلالات كالثمار القريبة من الأيدي، ويتبدى للقراءة التأويلة مراتب كثيرة للفهم والتفسير. وهي ما يحفز عليها شعر كريم بوحي اختيار ألفاظه وصوره بهذه الطريقة.. إنه يحس بصوت الكلمات ويعثر على دلالاتها ويوصلها بحميمية آسرة.. يؤاخي الصورة والاسم والمعنى، كما سمع الإمبراطور خرير شلالات اللوحة الجدارية.
يقول كريم في قصيدة قصيرة عنوانها (غدر):
(حتى لو كان بلا أنياب/ الذئب المنقوش على الحائط/ لا تأمنه الشياه).
إن خلْق الدلالات هنا يحيلنا إلى مأثورات كثيرة، تجعل المتخيل محسوساً ممتداً خارج النص/الحلم، أو القصيدة. في ألف ليلة وليلة، حيث يرى النائم بعد الحلم أثراً مما رآه في منامه.. تمثّل النزعة الحسيّة اشتهاءً للحياة وتدبيراً للمصائر، فتجعل الاسمَ والصورة والمعنى شيئاً واحداً، كما كان يفعل العقل البدائي، متصوراً أن اسم الشيء هو الشيء نفسه. ويبني على ذلك كل ما يقع تحت سلطة التسمية من طقوس المقدس، حتى إجراءات اليومي. ذلك ما تسلل من وعي الشاعر إلى صورة ذئب القصيدة وشياهها.
تتيح قصيدة النثر للشاعر أن يمارس مناورة الفكرة باللغة، فهي بتوسعها الدلالي وسرديتها وإيقاع الأفكار وتقابلاتها، والانفتاح على شعر يتخفى في ملفوظات وحبكات وأقاويل منسقة فنياً، تجعله ممكنا ويسيراً تناول ما فوق المكتوب مادةً أساسية للكلام الشعري.
في نص بعنوان (القصيدة كلمات) من ديوان (الثعالب لا تقود إلى الورد)، يجسّم كريم جخيور من الكلمات كائنات كالبشر:
(تستيقظ الكلمات/ ترتدي ثيابها/ حمراء/ صفراء/ سوداء/ وشاحبة جداً).
ثم يسترسل في تصنيف الكلمات بحسب ما تذهب إليه بألوانها تلك، والتي خلق منها ما يشير إلى طبائع هي في الحق إسقاطات مستخدميها:
(كلمات.. ستصبح ذات يومٍ بوقاً للشعراء/ كلمات مقتضبة/ لعزل الولاة والاعتراف بهزائم منكرة/ كلمات لم تأسرها الشِّباك/ وأخرى تؤاخي بين الشبهات/ كلمات وكلمات/ أيها السيد مالارميه/ كم نحتاج من القصائد/ لنكتب هذه الكلمات؟؟).
يبدو من النص تشكك (كريم) بنيّات الكلمات التي تتسطر في القصائد. إنها تناور وتستخدم للمنفعة، وتبعد عن دلالاتها الإنسانية. وهو يدينها دون تعليق أو تطويل.. يراسل قارئاً يشبهه.. يلتقط الإحالة ويرتب دلالاتها مع ما وصل إليه، منتظراً ما تنفتح عنه كلية النص. فها هي الخاتمة تذهب مرة إلى ترديد ضجر (هاملت) في المسرحية: كلمات كلمات كلمات. وإلى مالارميه، حيث لاتزال التفسيرات منفتحة لفهم مغزى قصائده. ليقوي نسيج القصيدة بما يتفاعل فيها من إشارات ثقافية وتناصات، لكنها مصوغة دوماً بتلك الطريقة التي يُبقي فيها (كريم جخيور) على تلك البساطة الخلّاقة التي تستفز طاقة التأويل..