ليلى بعلبكي وداعاً

شارك مع أصدقائك

Loading

فاطمة المحسن

 

خمسون مضت و ليلى بعلبكي تحيا مع الريادة

رحلت البارحة عن عالمنا ليلى بعلبكي رائدة الرواية النسوية الجديدة . شاهدتها مرة واحدة في معرض الكتاب ببيروت حين اشترت نسختين من كتابي “تمثلات النهضة” فسألت خالد المعالي من هذه قال : ليلى بعلبكي. خرجت مسرعة دون سلام أو كلام.
هذه المادة سبق أن نشرتها بعد مضي خمسين عاما من صدور روايتها الرائدة ” أنا أحيا”.
من بين النصوص الروائية العربية، تكتسب رواية ليلى بعلبكي ” أنا احيا” 1958 مكانة خاصة، فهي ليست فقط الرواية الأولى في الأدب العربي التي بدأت بعدها النساء العربيات يكتبن ما يمكن تسميته رواية البوح أو ما يشبه أدب الاعتراف، بل تكاد تكون الأولى التي قلّدها الرجال أيضا، وكان يحدث العكس.
أعمال ليلى بعلبكي “أنا أحيا” و”الآلهة الممسوخة” ومجموعتها القصصية “سفينة حنان إلى القمر” التي أعادت إصدارها دار الآداب ،كانت حدثا ثقافيا في معرض الكتاب ببيروت.وبحضور المؤلفة حققت دار النشر كسباً معنوياً ومالياً،فقد غابت بعلبكي عن الأجواء الثقافية بعد رحيلها عن بلدها وانقطاعها عن الكتابة طوال تلك العقود.أرادت الآداب أن تعيد إلى الزمن الماضي نكهته الخاصة، فتضمن غلاف المجموعة القصصية صورة المؤلفة في قاعة المحكمة وهي واجمة بعد أن وجهت إليها تهمة إثارة الغرائز، لكن القاضي أصدر قرار البراءة بعد مرافعات كانت مادة الصحافة في العالم العربي. لن نقول جديداً إن تحدثنا عن ملابسات تلك القضية، فالمجموعة القصصية خرجت شكلاً ومحتوى وقضية من معطف الرواية الأولى الرائدة، ولكن التهمة مثل الجوائز الأدبية تصيب بأثر رجعي.
” أنا أحيا ” التي كُتب عنها الكثير، تلخص خطاب الحداثة اللبنانية في الستينات، فهي على كونها رواية تقترب من أدب فرانسوا ساغان الذي شاع في العالم وقتذاك، كانت أصيلة في مضمونها التثاقفي، فلم تكن مجرد تقليد لأساليب الكتابة الفرنسية،وأفكار الكاتبات النسويات، بل كانت تتلامس مع فكرة الإحلال والإبدال بين الثورة والتقليد،وقلة من الروايات في زمنها ترقى إلى مستواها في التلازم العضوي بين الشكل والمضمون. أعادت هذه الرواية تصنيف النص النسوي، باعتباره تلخيصاً لأنا الكاتبة، لا الأنا الاجتماعية وحدها، فليس المهم أن يكتب الكاتب أدبا يتجاوز المتعارفات ويتحدى القوانين والمحرمات، بل كيف يقول أناه الإبداعي على نحو مختلف.
بنية الرواية تعتمد القول المتشظي، تشظي العواطف الجامحة لطالبة جامعية لم تغادر بعد سنوات المراهقة.هذا التشظي في القول بدا في جانب منه وكأنه انتساب إلى فكرة الوجود العبثي، أو اللاجدوى التي تدور في فلكها الساردة، وتصرّح بها في أكثر من موقع في الرواية، وكانت تلك الفلسفة أو النزعة الفكرية من بين الموجات التي ولع بها قراء كامو العرب والمتابعون نصوص المسرح الطليعي الفرنسي. ولكن بطلة ليلى بعلبكي كانت تمثّل نفسها، فهي لا تفلسف حياتها أو تبدو على اهتمام بالأفكار، بل على العكس ترفض وتسخر من درس الفلسفة، وتبنيها المواقف السياسية المشاكسة محض سلوك طبيعي لمن تسكنه فكرة التمرد. ولعل اللافت في الرواية لغتها، فالمؤلفة لم تستخدم المحكية اللبنانية، ربما لأن العامية غير مشاعة وقت تأليفها، ولكن لغتها لم تكن مجرد حامل أفكار وانطباعات، بل هي الأساس الفاعل في تحديد معالم الرواية. فسرديات الفتاة تشكل صورة تمردها ونزقها، أو هي ترسم تخطيطات لشخصيتها ورؤيتها الجديدة.
كل شخصية في الرواية تؤدي وظيفة الإشارة إلى دالة محددة في الخطاب : الأب والأم والأخوات والحبيب ورب العمل وزملاء الجامعة والأساتذة، فكلهم يدخلون ضمن علاقات التنافر التي تنشأ بين البطلة ومحيطها، ومن خلالهم تتبع الساردة عالما يحفل بمفارقات كشوفها. ولعل البطلة التي تضمر في لغتها عنفاً وكراهية، تضع نفسها خارج الصورة النمطية للضحية البريئة التي تجابه الظلم وتتحداه بعدالة قضيتها، كما اعتدنا في الروايات الرومانسية. فهي تودّع مرحلة الرومانس، ولكنها لا تلغي براءة الطفولة ونزقها وقلة حيلتها وتشتتها. ومن هنا حققت الكاتبة علاقة تعاقد مع نمط جديد من القراءة والقراء، فنقض القضايا وتسفيهها مهمة من مهمات خطاب البطلة، وكل ما يصادف دربها من الشخصيات يصلح نموذجا لتحقيق ذلك المبدأ. حتى الطالب العراقي الشيوعي الذي تتمنى أن تكون بصحبته، يتحول إلى خطاب تقيس من خلاله طبيعة الاختلاف بين مجتمعين وبيئتين ومسارين في الحياة. فالبطلة هي البوصلة الدالة على انتهاء مرحلة والعبور إلى أخرى، انتهاء الإيمان بأيديولوجيا الخمسينات والدخول إلى عصر اللايقين. ومع أن شخصية العراقي المشغول بقضايا الثورة، ليست غريبة على النموذج اللبناني السائد، غير أن التنميط والنمذجة حولتاه إلى شخصية شبحية تفتقد ملامحها الإنسانية. كذلك شخصية الأب تاجر الحرب الثري، يصبح في استرجاعات الابنة، ممثلاً للطبقة الصاعدة التي لا تكف عن جشعها.أما صاحب وكالة الأخبار التي تحصل على عمل فيها كي تستقل عن سلطة الأب، فهو مجرد “كرسي” كما تصفه، ينفّذ أوامر المخابرات الغربية في معادة الشيوعية. ولا تنجح الأمّ في كسب ودّ البطلة، بل تثير شفقتها واشمئزازها، وهكذا يغدو الجميع في عين الطفلة التي كبرت، مجرد أناس غير مؤهلين للتصالح.
ولا يبدو سلوك الفتاة في الرواية غريباً او متصنعاً، بل أن محاكاة هذا النموذج وتصويره روائيا، هو الذي يشكّل امتياز المؤلفة.
استطاعت ليلى بعلبكي أن ترسم للتمرد ومفهوم الحرية والاستقلال النسائي، صورة تتخطى النموذج العربي الذي درجت عليه روايات الرومانس المصري، فالمرأة الجديدة عند يوسف السباعي وإحسان عبد القدوس، هي أقرب إلى البرجوازية المتبطرة، ومللها وتمردها يُدرج في باب المطالبة بحقوقها وامتيازاتها. ولكن الفتاة عند ليلى بعلبكي تعاني مشكلة الوجود الذي يفتقد إلى المعنى، فهي ساخرة ومتحدية وغير خاضعة إلى مواصفات الجمال النمطي. إنها قطة برية تعشق الشارع والمطر والتشرد وتشمئز من حياة البيت والجامعة والعمل، وسنجد هذا النموذج يتكرر في روايات غادة السمان ويختلف في درجة اقترابه من مفهوم حرية الجسد الذي وضعت مواصفاته رواية ” أنا احيا”.
اختارت ليلى بعلبكي شخصية الطالب العراقي الذي يأسر البطلة لا بأفكاره، فهي تحتقر تلك الأفكار، ولكن بترفعه وزهده واختلافه عن الزملاء الذين يبدون إهتمامهم بها، فهو هارب منها ومن عالمه الذي لا يعرف فيه زمالة المرأة أو حياة الترف والرفاهية. وعندما تتحدث معه عن مفهوم الامتثال والحرية، الامتثال المجتمعي في بلد مثل العراق والحرية الفردية التي يتمتع بها اللبنانيون، تكون قد استكملت درسها الحداثي، الذي لا يخلو من شعور بالتفوق. ومع أن شخصية الفقير القادم من الريف لا تطابق نموذج الدارس العراقي ببيروت الخمسينات، فهولاء في العادة من أبناء العوائل الموسرة والمتحضرة، غير أن التناشز بين بيئتين هو بيت القصيد هنا، وهو الأقرب إلى الواقع.
كل من يقرأ هذه الرواية لا يتخيل انها كُتبت قبل نصف قرن، فهي رواية راهنة وتحتفظ بجاذبية بعض مواضيعها وتماسك أسلوبها، فكانت عصية على التقليد، في حين أضحت راويتها الثانية ومجموعتها القصصية قريبة المنال، وسنجد الكثير من موتيفات العملين في المؤلفات النسائية التي سارت على دربها.
شارك مع أصدقائك