حاورته: جنى فواز الحسن
يتوغّل وديع سعادة إلى داخل القصيدة كي يحرّك بها القارئ، فيشعر بأن الشاعر على تماس مع مزاجه وتناقضاته، تلك التناقضات البشرية التي لا ينجو منها أحد.
ليس هذا السبب الوحيد الذي يجعل سعادة قريباً من الناس، بل لأنّه بقي محافظاً على ذاك النسيج الإنساني المرهف، والمتواضع. ربما بسبب تواضعه واعتراضه على طريقة تعامل دور النشر مع الكتّاب، لم يحصل على “الاحتفالات” التي حصدها شعراء آخرون أقلّ جدارة. وربّما التساؤل الأول الذي يخطر على بال القارئ لديوانه الأخير الذي اختار ان ينشره إلكترونياً، هو ألم يكن أجدر بدور النشر أن تحافظ على دواوينه، وقيمتها الأدبية، كي لا يصل الحال إلى هذا الحد من الجفاء في قلبه؟
ربما لا يحتاج الشاعر أو الكاتب إلى كيلٍ من المهنّئين، ولكنّ الشعر صرخة، وهذه الصرخة تحتاج الى أن تصل إلى أبعد الأقاصي، وأن تبقى موجودة في ديوان يحفظ صوتها ودويّها. وربّما تكون إجابات سعادة المقتضبة خير دليل على شخصيته غير “الاستعراضية”، وعدم رغبته بالثرثرة، ليترك للقصيدة حق التعبير عنه.
تفيض من قصيدته الأسئلة، أو حتى تلك العبارات التي تحرّض على الأسئلة، مثلاً في قوله “إنه هناك، في الدخان الذي يراه في البعيد. ولا شكَّ معه أيضاً ناسٌ هناك. فالناس ليسوا هنا وهو ليس هنا. فأين يكون وأين يكونون إنْ لم يكن هناك؟ ولكنْ، أين الهناك؟”، و”إنْ أردتَ رفيقاً، فأيُّ رفيق أعزُّ من وحدتك؟”. كما يدخل في متاهة الوجود والذات والبحث عنها في قوله، “ابحثْ في التراب حبَّةً حبَّة، قد تجد نفسك، أو على الأقلّ قطعةً منك. قد تجد قطعة من أجدادك، ومن أحفادك الذين لم يولدوا بعد”… وديع سعادة، شاعر المنفى والهجرة والأسئلة، كان لنا معه الحوار الآتي:
* ديوانك الأخير “قل للعابر أن يعود، نسي هنا ظلّه” يعكس إحساساً من التيه والتشرّد، كيف تناجي الذاتُ الخارجة من نفسها ذاتها الأخرى؟
– كما يناجي العابر ظلَّه المنسي في مكانٍ عبَره. فالظل ذاتٌ منسيَّة. ذاتٌ عُبرت ويحاول صاحبها أن يعود إليها، أن يجدها من جديد… ولكن في النهاية لا عودة، بل هو التيه.
* في أحد أبياتك تقول “لا ترمِ شيئاً، قد يكون ما ترميه قلبك”، ألا تشكّل بعض الأشياء عبئاً علينا مع الوقت، فيتوجب علينا رميها؟
– ليس هكذا ببساطة يمكن إحالة هذا المقطع الشعري إلى هذا المعنى. لا شك في أن ما يشكل عبئاً علينا يتوجب رميه إن استطعنا ذلك. لكن كل شيء في النهاية هو عبء، فهل يمكن رمي كل الأشياء؟ قد يعني مقطعي الشعري هذا عدم رمي أي شيء بل احتضان كل الأشياء بمحبةٍ تحمل معنى الإنسانية الحقيقية. فإن رمينا أي شيء، قد نكون نرمي معه قلبنا أيضاً. وأعتقد أننا لسنا ذاتنا فقط بل نحن كل هذه الأشياء أيضاً.
* وماذا يبقى حين نفقد الأشياء؟ الذكريات أم الفراغ؟
– بالتأكيد لا يبقى إلا الفراغ. والذكريات شيء من الفراغ أيضاً.
* الشاعر لا يسكن في وطن، بل في الوهم. ما هو الوهم الذي تتحدث عنه؟
– الشاعر يسكن في الشعر، الذي هو وطن وهميّ. الشاعر يسكن في وهم وطن يخترعه وهو ليس موجوداً ولن يوجد. لكن هذا الوطن الوهمي جميل، بل هو الجميل الأوحد. ولاستحالة وجوده، يخلق الشعراء وهمهم ويسكنون فيه.
* تكتب عن ذاتك، حتى يبدو إلى القارئ أنّك تكتب عنه، عن لوعته هو، عن خيبته هو، إلى أي حدّ نحن البشر متشابهون؟
– نحن متشابهون في كل شيء تقريباً، وحين أكتب عن ذاتي أكون أكتب عن كل الذين يشبهونني وهم كثر. البشر متشابهون، والاعتقاد عكس ذلك هو سبب كل الفتن.
* تبدو الحياة في كتاباتك واثقة من الموت، أين هاجس الموت في حياة وديع سعادة؟
– الموت صديق حميم، هذا ما درَّبت عليه نفسي لسنوات كي أقــــابل الموت بلا خوف بل كصديق.
* هاجرتَ العام 1988 من جحيم الحرب إلى استراليا، هل كانت هجرة مكان فحسب، أم هجرة داخلية أيضاً؟ وبين الوطن و”المنفى”، إلى ماذا يشتاق وديع سعادة اليوم؟
– الهجرة الداخلية قد تكون وأنت في وطنك، فهي لا تحتاج إلى هجرة جغرافية كي تكون. أما هجرتي فكانت الهجرتين معاً، الهجرة الجغرافية والهجرة الداخلية. وأنا اليوم لا أشتاق إلى وطن ولا إلى منفى. فالوطن في قلبي، والمنفى أيضاً.
* قرّرتَ ان تلجأ إلى النشر الالكتروني كاحتجاج على الواقع الحالي لدور النشر، كيف تقيّم هذه التجربة؟ وكيف تقيّم المشهد العربي الشعري عامّةً؟
– لجأت إلى النشر الإلكتروني كموقف مبدئي من دور النشر العربية التي تهضم حقوق الشاعر. وأرى أن النشر الإلكتروني أكثر انتشاراً ويصل إلى القارئ أينما كان ومجاناً. أما المشهد الشعري العربي فلا يمكنني إبداء رأي فيه لأن بعدي الجغرافي يحول بيني وبين متابعته، وما أقرأه مما ينشر في الصحف لا يكفي لإبداء رأي.
* ذاكرتك المثقوبة تنزف بآلامنا جميعاً، هل من أمل؟
– أتمنى… لكنني أعتقد أن تاريخ الناس يمكن اختصاره بكلمة واحدة: آلامهم.
*-صحيفة “الرأي” الكويتية في 4/10/2012