الحوار.. وثيقة حياة – ألف ياء
عن حوار اسكندر حبش مع وديع سعادة في كتاب(نثرُ حياةٍ بين ضفتين)
دخل الحوار مساحة السيرة الذاتية، وراح يأخذ استراتيجية الكشف عن مشغّلات ودوافع ومؤثرات فاعلة، في تجربة الكتاب والشعراء، لا سيما في مراحل تكونهم ونشأتهم وتقييمهم لتلك الفترات، حتى ليمكننا أن نضيف صنفاً مقترحاً لتنويعات السيرة الذاتية المباشرة والصريحة، نسميه الحوار السيري. هنا يكون المحاوِر هو كاشف تلك اللحظات والمحطات والمراحل، التي يتوخى القارئ معرفتها لدى المبدع خارج نصه. وأرى أنها لا تتعارض مع النصيّة المطلوبة نقدياً وفي فعل القراءة، بعيداً عن أية عوامل خارجية تنمط النص، بناء على معلومات وأخبار وأحداث لا نصية.
والخطاب الشعري من جهته، يغتني بفاعلية الحوار، وإمكان اندراجه ضمن مفردات الخطاب. وهو مناسبة طيبة ونادرة للتحقق من توافقات النص مع آفاق قراءته وتأويله. ذلك ما يحسه قارئ محاورة الشاعر (إسكندر حبش)، مع الشاعر و(ديع سعادة)، التي ضمها كتاب بعنوان (وديع سعادة- نثر حياة بين ضفتين)، قدم له (إسكندر حبش) بمقدمة تعزز الوجهة السيرذاتية للحوار، فهو يبين تاريخ تعرفه إلى مواطنه وديع سعادة، وهو تعارف غير عادي، لأنه يتم بين شاعرين في أوج تفتح شاعريتهما، ونهم الحياة الثقافية التي تعج بها بيروت تلك الفترة، منتصف الثمانينيات، وسياق الحرب الأهلية اللبنانية تلقي بظلالها على سرد واقعة تعرّف الشاعرين هاتفياً إلى بعضهما لمناسبة ديوان لوديع، كان إسكندر يطلبه منه ليقرأه.
بأسلوب شاعري مؤثر؛ يسوق (إسكندر) وقائع تلك الفترة، ثم اللقاء المتأخر بعد سنوات بينهما. ويضيء لنا جوانب من سايكولوجية وديع وطباعه، ويمر بإصداراته كلها بأسلوب استعاري تدخل بسبب براعته في متن الحكي عن وديع الشاعر والإنسان.
وهنا تتأكد مرة أخرى سمة الكتابة السيرية في (مشروع) الحوار، كما يسميه إسكندر حبش.. بدءاً من العنوان الذي اختاره المؤلف ( نثر حياة بين ضفتين) يحيل إلى عمل شعري لسعادة هو (محاولة وصل ضفتين بصوت) الصادر عام (1997م). وثمة تورية مقصودة في كلمة (نثر) التي تكون وصفاً لقصائد الديوان، وكلها قصائد نثر، وتحمل معنى آخر تفيده كلمة نثر، أي الانتثار والتشظي كحالة عاشها (سعادة) بين ضفتين في بحر الحياة، أو نثرها كما يقول نص العنوان.
لقد أدّت المقدمة دور موجّه قرائي مميز، مهّد للدخول إلى الحوار الذي، برغم قصره، جاب في أرجاء حياة سعادة، ودوماً بمرافقة شعره، وكثيراً بهدف كشف ما سمّيناه مشغّلات تجربته، وخلاصة أفكاره عن الشعر والجمال والحياة والمنفى والوطن والآخر والمدينة.
يتضح الطابع الكفاحي للشاعر، حين يأخذه صانع الأسئلة ذات الفخاخ والكمائن، إلى طفولة قضاها الشاعر في قرية (شبطين) اللبنانية الشمالية؛ أسرة كبيرة العدد، ضئيلة الدخل، شظف العيش لا يدع للشاعر أن يتذكر أية جماليات، فيقول:
(وُلــدتُ في بيــت قــروي فقـيـر، ســطحه تــراب وأرضــه تــراب ومــا حولـه تـراب.. وكان هـذا التـراب هـو أول مـا علـق في ذاكـرتي.. أقعـد عــلى الـتـراب كي آكل، وأقعــد علــى الـتـراب كي أدرس عـلـى ضــوء قنديــل كاز، وأنــام عـلـى التراب… ربـمـا لذلــك لايــزال الـتـراب إلى اليــوم صديقــي، ويرافقنــي في كلّ شــعري).
من تراب القرية وشظف العيش، يلخص (سعادة) حياته تلك الفترة بالقول: (يخيل لي الآن أني كنت بلا طفولة). انعدام الطفولة كما يقول، يلازمه الموت والعجز.
سيحق لنا عند هذه النقطة أن نتساءل: كيف وجد الشعر طريقه إلى الشاعر؟ بل كيف وجد الشاعر طريقه إلى الشعر، وسط انعدام الطفولة والفقر والموت والعجز.
لعل نفور (سعادة) من تلك المعاناة وانكساره لغياب طفولته، سيخلق له أجنحة يطير بها بعيداً. سوف يتبنى قصيدته ويخلص لها، ولا يدع بينهما فاصلاً. وكما التصق تراب القرية به وبقصيدته، فإن الحرية كانت هاجساً لم يتخل عنه في حياته، كما في قصيدته. ها هو يسرد قصته مع الأمكنة.. يسافر معدَماً عبر فرنسا وحدود إسبانيا.. لايجد أحياناً ما يقتات به.. وتجوال أبدي بين اليونان وقبرص وفرنسا مرة أخرى، وأستراليا مرتين، استقر في الأخيرة. دوماً ثمة محرّك وراء طوافه حتى اختار منفاه بنفسه. وحين تطارده أسئلة إسكندر حبش، نبشاً في حقيقة صلته ببيروت وسط هذا التجوال الأبدي، يجيب بصدق دون ادعاء، أو اجترار لمفردات الحنين والشغف بالوطن البعيد، فيقول: (أعتقـد لم يعـد أحـد يمكنـه أن يقـول إن هـذا هو مكاني. إن الأرض كلها صارت في هذا العصر منفى).
عام (1968م)، وعمره عشرون عاماً، كتب ديواناً بخط يده. لا طاقة له بدفع تكاليف الطباعة والنشر. وراح يوزعه على الشعراء والأدباء والأصدقاء بيده أيضاً. وكتب في أولى صفحاته:
(في هذه القرية التي تستيقظ لتشرب المطر، انكسرت في يدي زجاجة العالم). فهل كان العالم نفسه هو القرية المقصودة؟ وهل اختار الحزن واليأس والرعب بديلاً لتعيين ما يؤلم ذاكرته ويؤرقها؟
لقد أخفى مثلاً من شعره حادثة شديدة الوقع، هي موت ولده احتراقاً وهو في الرابعة عشرة.. ولم يكتب كثيراً عن منافيه المتكررة..
لقد غيّب سعادة تلك الكِسَر والمفردات الحياتية المباشرة من شعره، واكتفى بحزنه وألمه، لكونه شاعر حداثة ثانية، ومن رعيل الشعراء الذين طوروا أسلوب الكتابة بقصيدة النثر بعد الجيل الأول، جيل انتقل من الرؤيا إلى الحلم العصي، الذي يقول سعادة إنه لا يتخلى عنه.
وسط تراجعات في الثقافة العربية وأوهام بعض مثقفيها، شاع القول بموت الشعر، والشكوك بجدواه في عالمنا، وإنزاله إلى أدنى المراتب بين الأجناس والأنواع الأخرى، يجيب (سعادة) عن سؤال بصدد ذلك: (الشعر يبقى برغم أنه لا ينقذ العالم الذاهب إلى هاوية). ويكرر: (يموت الشــعر حـيـن تمـوت المشــاعر الإنسانية. هــل ماتــت كل المشـاعر الإنسـانية؟ لا، لاتـزال هنـاك مشـاعر إنسـانية وبهـا يسـتمر الشـعر).
دوماً ثمة انشقاق في الرؤية لدى وديع سعادة؛ ضفتان عليه العبور إليهما: (الوطن والمنفى.. الطفولة والوعي.. الشعر والقصيدة.. المكان وظله.. الذكرى والنسيان). لكن الضفتين الأكثر وضوحاً في قصائده، لا سيما في دواوينه الأخيرة، هما ما مضى من الأمل، وما بقي للحلم ومنه.
يكرر في إجاباته أنه يحلم وأن الحلم حرية، كما الكتابة لحظة حرية. ولعسر مهمة الحلم وحرج الحالم في عالم يتقاطع مع أحلامه، ويرفضها أو يدمرها بالأحرى، لا يجد وديع سعادة من سبيل إلا القول إنه ذاهب إلى الوهم.. ويشدد في إجاباته على أن الوهم ليس بديلاً للواقع والإحباط والدمار، بل استدعاء أو استحضار للجمال. سيشعر القارئ أن الحوار هنا يقصر عن النص ولا يلحق بدلالاته. فالتعبير هنا عائم: (أكتب لاستحضار وهم الجمال. وعليّ أن أحتفظ بوهم الاستدعاء هذا؛ لأن فقدانه هو الخطوة الأخيرة نحو الهاوية).
فما سمات هذا الوهم وظواهره؟ مسيرة حياة لا يصل ماشيها إلا إلى فراغ.. هو الوهم ذاته الذي يستدعيه سعادة مقروناً بالجمال الذي انحسر في هذا العالم، وصار تذكُّره وسيلة ًوحيدة لإنقاذه من النسيان، وعبر التجليات النصية وتجسيداتها الصورية والخيالية.
في نصوص وديع سعادة الملحقة بالحوار، نجد إجابات توضح ذلك:
(أجري بطيئاً مثل آخر قطرة ماء نزلت، وتأخرت عن السيل
أجري بطيئاً زاحفاً للالتحاق بالجريان، وأتبخر رويداً رويداً
لن أصل. بعضي سيسير في الفضاء، وبعضي سيغرق في الأرض
تأخرت عن رفاقي ولن أصل. أزحف لكني لن أصل).
كثيرة هي المسائل التي أثارتها إجابات سعادة المختصرة، لكن الباحثة عن معانٍ عميقة ودالة. كتابته لقصيدة تشبه قصيدة النثر قبل أن يقرأ نموذجاً لها. وصوله إلى بيروت وانخراطه في صحافتها وفي أجواء مجلة (شعر).. مغامراته في الأسفار حتى استقراره في المنفى.. الكتابة والنشر والأسرة والأصدقاء.. لكن ما يصل القارئ دوماً؛ هو حلم الشاعر منكسراً أو مرحّلاً إلى وهم، يطارد الجَمال راعياً مغدوراً ووحيداً، حيث الذئاب تترصد بشياه أحلامه.
عن
مجلة الشارقة الثقافية
العدد الثالث والثمانون
سبتمبر -أيلول, 09- 2023