حوار مع المبدعة العراقية ديزي الأمير

شارك مع أصدقائك

Loading

حاورتها

فاطمة المحسن

* مهاد

لم أكن أدرك معنى ايجابيا لكلمة “انتظار”، مثلما أدركته لحظة نطقتها ديزي الأمير في التلفون. كانت تقول : فرغت حياتي من الانتظار، من المواعيد من اللقاءات، أي طعم لها؟بيتها المطل على البحر ببيروت ذكرّني ببيوت الارستقراطية العراقية، تتشابه أذواقهم أينما حلوا في بغداد أو لندن أو بيروت أو سواها، حتى في طريقة توزيع المقاعد واللوحات وتنظيم الطاولات. لم تجب وأنا أحتضن جسدها الصغير سوى بكلمات قليلة: لست على مايرام مادام العراق مريضاً.

كنت أعبر معها الأزمنة في عودة وأياب، فذاكرتها تومض في مشاهد بعيدة، وتنطفي عندما تحسب السنوات.أتمعن في وجهها الهاديء، وأتذكر صورة لها في احدى المجلات الأدبية في السبعينات، مثل أميرة يبرق جبينها بالضوء.

تعيدني إلى بغداد كلما حاولت إبعادها عنها، حنين غريب لمن عاش فترة طويلة متنقلا بين بلدين،بل مجموعة من البلدان، ربما هو حنين الشيخوخة. تحاول إقناعي بأن العراق وأهله أفضل ما خلق الرب على هذه البسيطة، وأحاول إقناعها وأنا الجاحدة بالبلدان كلها، ليس هناك من وطن يرغب بنا أو بكل هذه التباريح.  لهجتها البغدادية تمازجها كلمات موصلية. كانت تقول: أي نعم أبي أصله موصلي،درس الطب في الجامعة الأميركية ببيروت وتزوج  أمي التي تنحدر عائلتها من ضهور الشوير.

ديزي الأمير القاصة التي كتبت مجاميعها القصصية المعروفة ” البلد البعيد الذي نحب” و”ثم تعود الموجة” و” وعود للبيع” و”البيت العربي السعيد” وعشرات القصص  التي نشرتها في الصحف والمجلات الأدبية. يختلف نصها عن نصوص النساء في الخمسينات والستينات وحتى السبعينات من القرن المنصرم،فهي لم تحاول أن تلفت الأنظار أو تثير صخباً أدبياً، وكانت بعض قصصها المرتبطة بالمرأة وقضاياها، تنطوي على سخرية خفية من نمطين من النساء : المستعرضات أجسادهن وعواطفهن، والمنشغلات بأمور السياسة.  كتبت زمانها الذي نأت عن  أوهامه،وربما سبقته في التخلص من كليشات الموجات الأدبية، تركت بصماتها الرقيقة وصوت عزلتها ووحدتها يرنان بعيداً، في كواليس المسرح الأدبي لا في واجهاته .

قال عنها سعيد عقل في الستينات  ” كلمات ديزي الأمير كصوت فيروز، شيء من الغيب يُحَب.ساحرة الهنيهات السعيدات، وماهمّ أنهن أحياناً مثقلات بالكآبة. من أين تجيء بهذا البث الناعم الفني في عصر القصة المواء والقراء الذين يحبون الصدم والقضم؟. ”

الوحيدة التي أسمتها نازك الملائكة في مذكراتها ” صديقتي” : هل كنت صديقتها حقا؟ كنت أسألها  فتقول :   ” لست صديقتها بهذا المعنى، بل صديقة أختها الأصغر، فهي أكبر مني سناً، وأكثر ثقافة ونضجاً. كنتُ في الصف الأول من دار المعلمين العالية، وكانت هي في الصف المنتهي، ولكني لن أنسى جلساتها وأحاديثها ورسائلها. امرأة صريحة، ونظرتها إلى الحياة عميقة، تشعرك دائما أنها الرئيسة،لها سلطة خفية وساحرة علينا وعلى كل الصديقات. كنت أتطلّع إليها كمثال،والتقيها كثيراً،فقد ربطتنا صداقة عائلية، نتزاور بحكم هذا التقارب،ولكنها رحلت الى القاهرة، ولم تعد.”

أجلستني ديزي الأمير في الغرفة الصغيرة التي تحوي مكتبتها والتلفزيون. وأول ما واجهتني المجموعة الكاملة لعلي محمود طه، شاعر نازك المفضل. كل الكتب طبعاتها قديمة، بهت لون بعضها وتحول إلى الأصفر، عدد منها لكتّاب لم يبق منهم أثر في الذاكرة الأدبية.

تخبرني عندما أسألها عن أعمال نازك الكاملة : أحتفظ برسائلها، فقد كانت تهوى المراسلات خلاف عاداتي أنا، تكتب عن كل شيء يصادفها.

-هل كنت تطلعينها على نتاجك القصصي؟

نعم وعندما أطلب منها  نصيحة، تقول : دعي عملك كما هو، إنْ غيرّت فيه لن يعود لك.أنت تكتبين للمستقبل.*-

ـ ماذا تتذكرين من بدر السياب؟

-*- الكثير، كان أبرز شاعر في جامعتنا، ولديه قصائد في كل جميلات الكلية.

ـــ كتبَ لك قصيدة كما أتذكر؟

*- نعم (ضحكت) كما كتب للكل.

-هل كنتِ ونازك تلتقيان به، أو بعبد الوهاب البياتي؟

*-كان السياب يقود لجنة طلابية لرعاية الأدب في الجامعة، وأعتقد انني ونازك كنا فيها، ذاكرتي الآن تخونني. في كل الأحوال لم أكن وقتها أنشر نصوصي، ولكني كنت أهتم بالأدب، كنا نلتقي، نعم كنا نلتقي كذلك بالبياتي.

ـ خليل من بلد أمي وجيران بيتهم الكبير الذي كنت أقصده كل صيف،وربما كنا على قرابة، وهناك التقيت به. وعندما سكنت بيروت، كنت أراه في كل مكان أمامي. لم أكن أشعر بما يشعر، ولكن مكانته الأدبية وثقافته تقربه مني كصديق، رغم اختلاف أمزجتنا. كان يحضر إلى بيت خالتي التي تحب الشعر وتحفظه، وكنا نجلس نشرب القهوة في بيتها أو في المقاهي. يدعوني إلى محاضراته في الجامعة،وكنت أستشيره في الشؤون الأدبية. كانت حاجتي إليه كأديب أكبر من قضية الحب أو العلاقة العاطفية. أتذكر انه كان يردد دائما أنت عراقية، ولهذا أراك دائما متحفظة.

عندما رجعت إلى بغداد كان يكلمني بالتلفون من بيروت باستمرار،و أعتقد أنه على حق، فقد كنت متحفظة بسبب تربيتي العراقية.  خطبني، ولم أوافق لأنه عصبي وغير مستقر.

ـ ومن أي بلد بعث رسائله؟

*-أتصور من انكلترا عندما سافر هناك،ربما من أميركا، وأنا احتفظ بما لم يُنشر من الرسائل

ـ لماذا لم تراودك فكرة نشرها، فهي الآن في ذمة التاريخ الأدبي؟

*- هي أسراره الشخصية وأحترمها لهذا السبب.

ـ لنعد إلى بيروت، كنت تكتبين في وقت ظهور رواية “أيام معه” لليلى بعلبكي، وإنتشار روايات غادة السمان، هل تعرّفت عليهن، وما هو الاختلاف بين أدبك وأدبهن؟

*- ليلى بعلبكي لم أكن أعرفها شخصيا، وغادة ربطتني بها صداقة أعتز بها، غادة  ذكية ورائعة وصريحة ومثقفة. حذرني منها الأصدقاء ولم أمتنع عنها، فقد قالوا انها ستفضحني في قصصها، قلت أنا لا أملك أسراراً لتُفضح.

قصصي تتميز عن سواها من الكتابات النسائية، بطريقتي التي لا تحوي غرابة  ولا تثير العجب. كل شيء في حياتي وكتابتي طبيعي، لم أكتب كي أجعل الرجال يغرمون بي،وربما كنت محافظة بسبب تربيتي العراقية، لا أسير مع رجل وحدي إلا وأتلفت، أمر مضحك أليس كذلك؟.

ـ تحدثت عن بيتكم وبيت نازك الملائكة، كنتم تقيمون الحفلات المختلطة، ووالدتك اللبنانية سافرة، ووالدة نازك شاعرة ومثقفة وكانت كذلك لا ترتدي العباءة، لماذا كل ذلك الانكماش والعزلة التي عشتيها ونازك،خصوصاً أنت التي نشأت في عائلة مسيحية، لماذا الخوف من الرجال؟.

–*- نعم، كانت والدتي، رغم حبها الأدب وانفتاحها، تردد أمامي : الرجال ذئاب، وكلهم يكذبون في الحب. عندما ماتت، ذهب والدي وتزوج  في فترة لم نكن نتخيلها. كادت زوجته تطردنا  من البيت أنا وأخي وأختي.ذهب أخي الى أميركا، وعشت في البصرة مع أختي التي تزوجت هناك، وأصبح أطفالها أطفالي، ودخلت مجتمع المدينة عبر طالباتي، بعد أن إشتغلت مدرّسة في مدرسة ثانوية للبنات. ربطتني بأهل البصرة عشرة عمر ومحبة مازالت تسكن أعماقي، صداقات لم أجدها في مكان آخر، ولكني لم أفكر بالزواج او الارتباط ، فكلمات أمي أثّرَت بي.

ـ عشت في لبنان سنوات الستينات والسبعينات،يوم كان مجتمع بيروت الأدبي يضج بالأفكار الرديكالية سياسياً واجتماعيا، لماذا لم تجرفك موجة الانتماء إلى التيارات الحزبية،أو بريق الحرية الذي شغل الأديبات والأدباء؟

*- رحلت إلى لبنان بعد أن كتبت له مجموعتي “البلد البعيد الذي نحب”، كان بلد أمي، ولهذا لم أبارحه حتى في الحرب الأهلية،ولكن طبيعتي التي تفضّل العزلة والهدوء وتربيتي العراقية، أبعداني عن الإنغمار في مجتمعه الأدبي تماماً. بالطبع كانت لي صداقات مع الأدباء، وكنا نلتقي في المقاهي وفي المؤسسات والصحف والحفلات، ولكني فضّلت العيش لوحدي.

ـ كتبت عن الحب،ولكن معظم بطلات قصصك وحيدات أو محبطات أو يعانين من سوء تفاهم عاطفي، على عكس ماكنت عليه من صفات : جميلة وأديبة معروفة ولا تعانين من مشاكل تبعدك عن سعادة الحب.

*- لم أتصور الحب يوما إلاّ على نحو يرتبط بالضياع والقلق والمشاكل، ولهذا بقيت دون زواج، ولا أشعر بالندم لقراري هذا ، حتى بعد أن بلغت هذا العمر دون ولد أو إبنة ترعاني.

ـ أين تعود بك ذكرياتك، الى أي مكان وزمان؟

*- الى بغداد الأربعينات والخمسينات، لأنها كانت الفترة السعيدة في عمر العراق، وفي عمري أيضا، ولكنها إنتهت، وأعرف أنها لن تعود

…………

*- هذا اللقاء مع ديزي الأمير كان ببيروت العام  ٢٠٠٨.  كانت ديزي لا تشبه غيرها من النساء، شخصية هادئة موشكة على الرحيل عن هذا العالم لا بمعنى الموت بل بضياع كنت أراه في عينيها .

غادرتنا ديزي في ٢٠١٨ ولكنها بقيت كما كانت شبه منسية .

ديزي الأمير والبلد البعيد الذي تحب.

 

شارك مع أصدقائك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *