وديع شامخ
اسطنبول مدينة ساحرة، ساهرة، فاجرة، عفيفة،كاهنة، لعوب، يجري مزاجها بجناحين: أوربي وآسيوي، ويتصالح فيها الأثر التاريخي مع سطوة المدنية الحديثة،الكل فيها يجري الى مستقره.
تستمد ملامح حياتها من الزائرين، وهم يرمقونها بالحبور والحذر، بالنشوة والخيبة، بالجمال والهيبة ومسالك المدن الخلفية المترعة بالمكائد والفخاخ .
اسطنبول مدينة البحر والسواحل المبهرة، مدينة الليل، والعيارين والشطارين والعاهرات، وعمالة الدنيا من الشرق العربي القريب الى سواحل افريقيا وكل نواحي الأرض .
فيها تسمع رنين الألسن وكأن الله ” بلبَلها” بجمال الاختلاف، وليس على طريقة “برج بابل ”
الناس هنا تستخدم الاشارة ولغة الجسد للوصول الى الآخر المختلف لغويا، ربما لان الاتراك لهم عناد بغال الجبل في عدم تعلّم لغة عالمية للتفاهم ..
في زيارتي الأول لها ، كنت مأخوذا في تفحص جغرافيتها التاريخية وآثارها التراثية ومعالمها وسحر عمارتها، ومطبخها، ومشافيها ..ومتاحفها.، وتقصي تاريخها الامبرطوري المتعالي، وأفول الهلال العصملي عن رقابنا وحياتنا عبر ستة قرون من الاحتلال العثماني.
وقد كتبت عن الامبراطورية العثمانية كتابا بعنوان ” الامبراطورية العثمانية من النشوء الى الانهيار ” صدر عام 2005 عن دار نشر ….
اليوم الذي لا أب له في تقويم رحلتي، خرجت بلا وصايا الى نبض المدينة.
اليوم أدرت زاوية مرقابي، وحولت مجرى نهر قاربي، الى الغوص في تفاصيل المدن والحارات، وملاحقة الظوهر الاجتماعية والوقوف على نبض الشارع ..
اسطنبول، وهنا أتوقف اليوم عن حكاية المغنين في الساحات لعامة، وهي ظاهرة شائعة جدا كطريقة لكسب العيش بطريقة جمالية كريمة تنتشر في كل الدول الاوربية واستراليا وبعض الدول الاسيوية.
في أغلب مدن اسطنبول تجد هذه الظاهرة من سوحل مرمرة والبسفور الى مدن اسطنبول الاوربية الى عمقها الاسيوي المترع بالجمال الشعبي والتنوع في الطرب.
في مدينة “أكسري” وتحديدا قبالة محطة ميترو قطارات المدينة، هناك ينتشر المطربون، البعض يعزف على آلة موسيقية أغلبها البزق والعود والكيتار والبعض يرافقه عازف .. رأيت وسمعت الكثير من المطربين والمطربات، ولكنها الساحرة العمياء، وحدها التي صرتُ مدمناً على تعقبها في كل ساحة وميدان، واقربها الى سكني في مدينة ” أكسراي”” ..
عن هذه العمياء البصر، الثاقبة البصيرة، جمالا صوتا وحضورا، المبتسمة وهي تحمل المايكرفون بيد وعصاها البيضاء شارة لفقدان بصرها، ربما كانت تقول في سرها، ان هي الدليل لكم، ايها الذين اتعبكم البحث عن الجمال والسلام في أوطانكم.
عندما يبدأ عازف البزق التمهيد الموسيقي لها ” واظنه قريبها او زوجها ” تمسك هي عصا المكفوفين البيضاء في يدها اليسرى والمايك بيدها اليمنى وتبتسم بحبور ، وكأنها الكلكة التي ستجلو قلوبنا من صدأ الأوطان الكاذبة ، وتحرر مشاعرنا نحو بوصلة العشقوالجمال والتناغم والتماهي
نعم كنّا من ملّل ونحل ، قارات ، ولغات ، ثقافات ومأساة .. كلنا ننصت خاشعين وكأن على رؤسنا الحلم .
تصدح عمياء اسطنبول بطاقات طربية وطبقات عالية بقرارات وجوبات ، واداءرشيق للمقامات والاغاني التركية ، التي أحمل إرثا متواضعا في تذوقها عبر كبار المطربين مثل ” ابراهيم تاتلس مثلا ”
هذه الساحرة أبطلت حاسة الحاجة للآخر أولا ، فكانت تتلوى طربا وتجبرنا على قديم الثناء بكل اللغات ” والعملات” من غير شعور بأنها متسولة ، أو نحن اصحاب فضل عليها .
نذهب الى غلاف البزق المخصص للتبرعات ونحن في غاية الفرح ،نعطي بكل سخاء وفقا لدرجة العشق ومداد الجيوب..
كل يوم اراها وهي تُجدد شبابها وملابسها وفرحها. وعازف البزق ربما هو الذي يبصر ما يجود به الجميع من عطايا، الواقف والعابر ،وحتى الذين يقفون مصورين فيدوات او فوتو وكأن على رؤوسهم الطير ..
لاشك ان عازف البزق ينقل لها هذه المشاعر موسيقيا وهويشاركها الغناء حبورا وفخرا قبل ان يكون تناغما أدائيا بين المطرب والجوقة ..
خلال زمن متابعتي لهذه الموهبة الكبيرة خامرني شعور غريب جدا، وهو ان تبقى هذه الفاتنة تُبلغ رسالتها للناس وعلى الهواء الطلق ولكل الجنسيات واللغات دون ان يحتكرها متتج، ويشتهر من خلالها شعراء وملحنين ..
ان تبقى هذه المبصرة جماليا في إثراء الحياة العامة، وانها ستكون مع زميلاتها وزملائها مشروعا جماليا طربيا لتغيير المفاهيم القارّة عن التسول بصورته المخزية انسانيا ، الى نوع من العطاء المتبادل ..
هو الشموخ ضد الذل ، صوت الجمال قبل حاجة السؤال ..
السمو والعطاء المتبادل ، دون تخاذل في المرتبة ولا دنو في القامات.
شكرا لساحرة اسطنبول وهي تعيد للطرب جماله، شكرا لها ولعازف البزق على هذا الترف الجمالي، الذي يشعرنا بالذنب أن نحن لم نتجاذب أطراف العطاء لتكون سموفينة جمالية وانسانية بهارموني أثير