الهيئة العليا للتصرف بالعطاء .. فاطمة حسن 

شارك مع أصدقائك

Loading

الهيئة العليا للتصرف بالعطاء

فاطمة حسن

 

نسجت من نظرات أمي شالا طويلا من الوهم وهي تراقبني وترتقب ..وأنا اراود مرآتي عن وجهها ..كم هي مخيفة المرايا حين تنوي أن تخلع الوجوه وتخون الضوء …لم يكن يعنيني الأمر قبل بضعة أعوام ..أما الان …لا أعلم ..أنا أرتعد ..ياليتني أهديتها العمر قبل أن يصبح حاجة ماسة ونخشى أضاعة الثواني منه علماً أنني هدرته وأنا أغسل أقدام الوقت وأفلي راسه وأقلم أظافره بضجر ..طفولتي رحلت بين أكداس العرائس وأزقة الحارات الترابية وهاأنا الآن أقف أمام عمري بأغتراب ..سأهدي أمي المتعطشة للشباب مثل أرضٍ جافاها المطر ..عشرة أعوام تعود بها من كهولة العمر لزهو شبابه فهي تبلغ الثامنة والأربعين وبعد أن أقوم بالتبرع ستصبح في الثامنة والثلاثين ..أما أنا فسوف أتحول من فتاة الثامنة عشر إلى سيدة الثامنة والعشرون ..لست أنا الوحيدة، هناك كثر تبرعوا بسنوات عمرهم لآبائهم والكثير كانوا يقومون بهذه المجازفة كي يتأكدوا أن لديهم رصيد كافي من السنوات فيطمئنوا لعشرة أعوام قادمة أن هناك هدنة مع الموت تقيهم خوف النهايات الطارئة …اما اذا كان المتبرع لايمتلك سنوات كافية فستفشل عملية العطاء فيكتشف أنه يملك أقل من عشرة او خمسة أعوام على حسب عدد السنوات المهداة ..ولايحق له التبرع بأكثر من ذلك .. أنتشر في الآونة الأخيرة بيع السنوات عشوائيا ..فتشكلت سوق سوداء وسماسرة وقد وصلت لأرقام كبيرة فمثلا الآن يباع كل عام بمليون ،عشرة اعوام بعشرة ملايين ،فقد وجد الشباب فيها هروب من واقع حياة قاسية فهذه الاموال التي قايضوها بأعمارهم تضمن لهم حياة كريمة فالكثير منهم لايريد أن يضيع سنواته في العمل ولايهوى التعب ..كما أن شريحة كبيرة من الأهالي أجبرو اولادهم على بيع اعمارهم كي يستطيعون ايفاء ديون او شراء منازل ..وتم استغلال المرضى الذين تم أقناعهم أن حياتهم بلا فائدة وأن اهدوها او باعوها ستكون لها قيمة أكبر .. كثيرة هي الأخبار المحزنةوالقصص المخجلة التي تفتضح شراهة البشر في نهب كل ماهو جميل ومتاح لو بغير وجه حق .. اتذكر مارواه لي اخي حدثني عن أب متسلط اجبر بناته على اهدائه سنوات من عمرهن كي يعود شابا في مقتبل العمر فأهدته أبنته الوسطى عشرة أعوام ورحلت بعد شهرين ..اذ لم يكن لديها سوى هذه العشرة اعوام والشهرين التي تمتعتت بالنظر إلى وجه أبيها الشاب ..أغمض عيني كي امحوا هذه الأفكار من مخيلتي ..يجب أن أبدو سعيدة وأنا أهدي أمي الطيبة سنوات عمري ..لكن قلبي يوخزني وأشعر برغبة جارفة بالبكاء ..كيف سيكون شكلي في الثامنة والعشرين ؟كيف سأتابع دراستي في هذا العمر المتقدم ..متى انهيها واتزوج متى أحقق الأمومة ..؟كيف لي أن أجيب عن أسئلة كهذه الآن …صور رمادية لكل ماهو ملون وأصابع لايد لها تخنقني ..بعد ساعتين من الآن سوف أذهب أنا وأمي للمتصرف بالعطاء ..وهو رجل أعلى مكانة من القاضي تعينه الحكومة كي يضبط العطاء ويمنع إي سرقات أو تجاوزات غير قانونية ..وقد سبق مجيئنا اليوم شهرين من العمل وكم هائل من الاوراق الموقعة والمختومة وبعد هذا العناء تحدد الموعد في تاريخ اليوم .. سوف أجلس بجانب أمي في قاعة مليئة بالأجهزة المتطورة تشبه إلى حد ما غرفة العمليات إلا أن الأختلاف هو أن القاعة مزينة ويوجد فيها أيقونات نحاسية ولوحات فنية تشعرك أنك في كنيسة قديمة ..يقومون بتوصيل أجهزة حديثة مختلفة بأجسادنا فهي تعمل على رصد عدد الايام التي تعطى والتي تؤخذ ايضا فتبدو الارقام تصاعدية في العداد المجاور لي بينما العداد الرقمي بجانب أمي أرقامه تنازلية .. فهي تصبح شابة أكثر وتشعر بالحيوية كلما انحدرت ارقام العداد وأنا عكس ذلك ..كيف سيكون شكلي في الثامنة والعشرين ..أجهشت المرايا بنحيب طويل ..اسفر عن تورم في العينين وشحوب حاد في ملامح الوجه .. كيف لي أن أهرب من هذا المصير .قال والدي حين رأى الحزن يطوف في محياي: أعتبري انك سجنت لمدة عشرة أعوام واليوم خرجت من السجن ..الا يحدث ذلك ؟ قلت لا ..لايحدث أن فتاة عمرها ثمانية عشر عاما تدخل السجن لمدة عشرة أعوام بجريمة لم ترتكبها ..وأكملت في سري جريمتي أنني ابنة وعلي طاعة أهلي في استغلال سنوات عمري فقط لانهم هم من أوجدوها فيجب عليهم استثمارها وعلي ان أدفع ضريبة وجودي في هذا الكون لهم .. دخلت أمي وأبي وأخي الأكبر .. كي يتفقدو جاهزيتي لننطلق نحو (دائرة التصرف بالعطاء ) نظرت إليهم بعيون فتاة الثامنة والعشرين وابتسمت بيأس شديد ..هم يسبقونني بخطوات وأنا أسحل قلبي ورائي ..وقدماي تعودان للوراء فأضطر أن اجرهما أمامي ..ثم صغر الكوكب جدا اصبح علبة صغيرة وأنا أدور بها ..حتى وقعت أرضا… حين سمحلو لي في السماء بزياة أرضية قصيرة ولمرة واحدة ضحكت كثيرا ..وأنا أسرتي تلقي اللوم على نفسها في التسبب برحيلي المبكر ..وأنا اقول في سري ياليتني تبرعت بكل سنوات عمري كي أعجل في وجودي هنا حيث العالم غيوم بيضاء وسكينة وفرح ..لاحدود للهناء ولا حدود للعمر .. صعدت مسرعة على متن غيمتي فأنا لاأطيق الحياة الأرضية البته .

شارك مع أصدقائك