الألبسة في “ملحمة جلجامش”..  سعيد الغانمي 

شارك مع أصدقائك

Loading

الألبسة في “ملحمة جلجامش”
 سعيد الغانمي
في كتابي “جلجامش واختلاس لغز الزَّمن”، أشرتُ إلى الثُّنائيَّة التي تنطوي عليها “ملحمة جلجامش” منذ بدايتها في تفريقها بين داخل أسوار أوروك وخارجها: “منذ السُّطور الافتتاحيَّة الأولى من الملحمة، تطالعُنا ثنائيَّة خفيَّة لا يكادُ يلحظُها أحد بين كلمتي “دورو” (dûru) و”صحرو” (Şeru). وهما كلمتانِ تحتاجانِ إلى بعض الشَّرح. فـ”دورو” هي الكلمة التي تدلُّ على الأسوار والجدار والمدينة وحائط القصب والقلعة والحصن. ولعلَّها مشتقَّة من دوران السُّور حول الأحياء السَّكنيَّة في المدينة. وهكذا تمثِّل هذه الكلمة روح المدينة وجوهرها، وكلَّ ما يقع فيها، ويشكِّل خلاصة قوانينها وأحيائها. وبالتالي فإنَّ “دورو” هي الأسوار التي تحيط بالمدينة وتستوعبُها، لكنَّها أيضاً روح المدينة وجوهرُها وقوامُ وجودِها وخلاصة القوانين السائدة فيها. خارج أسوار المدينة، تمتدُّ “صحرو” أو “صيرو”، وهي الكلمة التي رجَّحنا أنَّها كانت تُنطَق بالحاء، وإن لم تُكتَبْ بالكتابة المسماريَّة. ولا شكَّ أنَّها تدلُّ على الصَّحراء والبرِّيَّة والأرض القفراء الجرداء، أي باختصار على كلِّ ما يمتدُّ خارج أسوار المدينة، ويمثِّل النَّقيض المباشر لها في كلِّ شيءٍ” .
داخل الأسوار (دورو) يوجد البناء والحضارة، وخارج الأسوار تمتدُّ الطَّبيعة والعراء. في (دورو)، أي المدينة التي تضمُّها الأسوار، تمتدُّ الطُّرق المرصوفة، وترتفع الصُّروح والمباني والمعابد المبنيَّة من الآجرِّ المفخور، وربَّما كان بعضها مطليّاً بالنُّحاس اللَّمّاع. وعلى النَّقيض من ذلك، تمثِّل (صحرو) البرِّيَّة القفراء الشاسعة خارج الأسوار، حيث لا يوجد شيءٌ يدلُّ على الحضارة، بل تتقافز الحيوانات بالقرب من مساقي الماء، ولا وجود لما يدلُّ على الثَّقافة التي صنعها الإنسان. وبالتالي فالبرِّيَّة أو الصَّحراء هي الأرض القاحلة التي تشير إلى البربريَّة والوحشيَّة، وتشكِّل النَّقيض المباشر للمدينة (دورو).
بعد أن ضجَّ أهالي أوروك بالشَّكوى من جور جلجامش، قرَّرت الآلهة خلقَ نظيرٍ له، ترميه في البرِّيَّة المترامية، فيظلُّ يعيش مع الوحش، يرِدُ من مساقي الماء مع الحيوانات، ويأكل مثلها من نبات الأرض، عارياً إلا ما يتدثَّر به من شَعْرٍ منحتْه إيّاه الطَّبيعة، حتى يتهيَّأ له مَن يقوده إلى حمى أوروك. ذات يومٍ، كان هناك صيّاد ينصب شباكه لاصطياد الحيوانات، فأبصره مرَّةً وأخرى. لكنَّه لم يستطع إخفاءَ هلعِهِ منه. عاد الصَّيّاد إلى المدينة، وأخبر أباه بما رآه. فاقترح عليه أبوه أن يذهب إلى أوروك، لإخبار جلجامش، وأن يصطحب معه بغيّاً مومساً تكشف لذلك المخلوق، الذي صار اسمه أنكيدو (أي من خلقه إنكي)، عن مفاتن جسدها، وحينئذٍ يجري ترويضُهُ واستئناسُهُ وربَّما استدراجه إلى داخل أسوار أوروك.
تمَّ الاتِّفاق مع شمخة على استدراج الوحش أنكيدو بأن تخلع ثيابها (لُبوشي) أمامه، وتكشف له عن مفاتن جسدها. وفعلاً نجحت الخطَّة. ذهبت البغيُّ شمخة إلى حيث يوجد أنكيدو في البرِّيَّة، ورفعتْ ثيابها عن مفاتنها، فأُغرِيَ بها أنكيدو، وبقيَ يضاجعها عدَّة أيام. حتى إذا أراد أن يعود إلى البرِّيَّة أنكرته الحيوانات التي كانت تعيش معه، ونفرتْ منه. حينئذٍ عاد أنكيدو إلى البغي، التي صارحته قائلةً: “صرتَ تحوز على الحكمة يا أنكيدو، وأصبحتَ مثل إله. فعلامَ تجول في الصَّحراء مع الحيوان؟” .
تمثِّل الثِّياب أو الملابس (لُبوشو) الوسيلة الأولى في استدراج أنكيدو وترويضه، أو إذا شئنا الدِّقَّة، يمثِّل نَزْعُ الثِّياب، لأنَّ شمخة لم تستطعْ استدراجه إلا بإظهار قوامها الطَّبيعيِّ، بعد التَّخلِّي عمّا يغطِّيه ويستره من ثياب. وأنكيدو نفسه عارٍ عن الملابس، لأنَّه ينتمي إلى البرِّيَّة. أمّا شمخة القادمة من المدينة فهي ترتدي الملابس، وتغطِّي جسدها، لأنَّ المدينة، على عكس الصَّحراء، لا تسمح بالعري في داخلها. وهكذا كان على شمخة أن تتخلَّى عن مدنيَّتِها، وتنزع ملابسها، لكي يرى أنكيدو، ابن البرِّيَّة والطَّبيعة العارية، مفاتنها. تخلَّت شمخة مؤقَّتاً عن انتمائها إلى المدينة ريثما تستطيع إغراءه بمفاتنها. وبعد أن تخلَّت الحيوانات عن أنكيدو سيكون لها موقف آخر.
بعد أن رأتْ شمخة أنَّ أنكيدو أنكرتْهُ الحيوانات، ورفضه العالم الطَّبيعيُّ الذي ينتمي له، اقترحتْ عليه الخطَّة التي أضمرتْها وجاءت من أجلها، ألا وهي مشروع حملِهِ إلى أوروك، لكي يكون ندَّ جلجامش. كانت المدينة التي جاءت منها شمخة تختلف اختلافاً كلِّيّاً عن الصَّحراء التي يعيش فيها أنكيدو، ولذلك وصفتها له قائلةً:
أجلْ، تعالَ يا أنكيدو إلى أوروك المحصَّنة،
حيث يلبسُ الناسُ أبهى الحُللِ،
وفي كلِّ يومٍ تُقام الأفراحُ كالعيد .
حسب وصف شمخة لأوروك تمتاز المدينة عن الصَّحراء بشيئين؛ الأوَّل كثرة الأبنية والصُّروح والمعابد، والثاني أنَّ الناس فيها يكتسون بالحلل والملابس. وهذا يعني في المقابل أنَّ الصَّحراء تخلو من هذين الأمرين معاً. وبعد أن أطفأَ أنكيدو ظمأَهُ إلى مفاتن البغيِّ، وبقيَ معها ستَّة أيّامٍ وسبع ليالٍ، أعادتْ عليه شمخة اقتراحها الأوَّل. فوافق أنكيدو هذه المرَّة، وتقبَّل كلامها.
لكنَّ المدينة لن تقبل أنكيدو، ما دام عارياً بلا ملابس. فالملابس هي الموضوعة التي تميِّز المدينة، على عكس العري الذي يميِّز الصَّحراء والبرِّيَّة. فما كان من شمخة إلّا أن نزعتْ ملابسها، وشقَّتْها إلى نصفين؛ احتفظتْ هي بنصفٍ، وألبستْ أنكيدو النِّصف الآخر:
ثمَّ شقَّتْ ثوبها شقَّينِ، ألبستْهُ بواحدٍ منهما،
واكتستْ هي بالثاني.
وأمسكتْ به من يدِهِ، وقادتْهُ كما يُقاد الطِّفل.
أخذتْهُ إلى كوخ الرُّعاة، إلى موضعِ الحظائرِ.
فتجمَّعَ الرُّعاة حولَهُ .
“علامة أنكيدو الفارقة حين كان في البرِّيَّة أنَّه كان عارياً ينتمي إلى عالم الحيوان، لا إلى عالم الإنسان. ولذلك أغرتْهُ البغيُّ شمخة بانكشافها عاريةً أمامه، أي أغرتْهُ بالتَّجرُّد عن الملابس، التي هي عالم المدينة والحضارة، والانتماء إلى عالم الطَّبيعة الحيوانيَّة والعُرْي. وبعد أن قضى أنكيدو ستَّة أيّام وسبع ليالٍ مع شمخة، أراد أن يعود إلى حياته المألوفة في الصَّحراء. لكنَّه لم يستطعْ، فقد فقدَ البراءة الحيوانيَّة إلى الأبد. في البداية أنكرتْهُ الحيوانات، ثمَّ خذلته ركبتاه عن اللّحاق بها. وحين عاد إلى حيث تقف شمخة، كان من الواضح أنَّ خياره الوحيد صار أن يرافقَها إلى عالمها، وأن يتخلَّى عن عالمه. وهكذا اقترحت عليه شمخة أن تأخذَهُ إلى أسوار أوروك، حيث “يلبسُ الناسُ أبهى الحُلَل”، وحيث “يعيشُ جلجامش الكامل الحول والقوَّة”. صوَّرت له خيلاؤه أنَّه يستطيع الانتصار على جلجامش، لأنَّ مَن “ولدَ في الصَّحراء هو الأشدُّ والأقوى”. اقتنع أنكيدو بفكرة منازلة جلجامش وتحدِّيه. لكنَّ دخول المدينة ليس كالعيش في الصَّحراء. لا بدَّ له أوَّلاً أن يتخلَّى عن قانون العري الذي لازمه هناك. وهكذا أدركت شمخة أنَّه لن يستطيع دخول المدينة عارياً، “فشقَّتْ ثوبها شقَّين، ألبستْهُ بواحدٍ منهما، واكتسَتْ بالثاني”. وبهذه الطَّريقة استدرجتْه وسحبتْه من الانتماء إلى عالم الحيوان، حتّى أفلحَتْ أخيراً في إيصاله إلى أوروك، ولكنْ بعد أن تعلَّم لبس الثِّياب. لأنَّ المدينة لا يمكن أن تقبل إنساناً عارياً، بل سوف تعدُّه “حيواناً” على الفور، ولن تسمح له بالدُّخول” .
(فقرة من فصل “الاستعارة الملبسية” من كتاب “مجمع اللقى البلاغية: الاستعارات الكبرى في الفلسفة
في كتابي “جلجامش واختلاس لغز الزَّمن”، أشرتُ إلى الثُّنائيَّة التي تنطوي عليها “ملحمة جلجامش” منذ بدايتها في تفريقها بين داخل أسوار أوروك وخارجها: “منذ السُّطور الافتتاحيَّة الأولى من الملحمة، تطالعُنا ثنائيَّة خفيَّة لا يكادُ يلحظُها أحد بين كلمتي “دورو” (dûru) و”صحرو” (Şeru). وهما كلمتانِ تحتاجانِ إلى بعض الشَّرح. فـ”دورو” هي الكلمة التي تدلُّ على الأسوار والجدار والمدينة وحائط القصب والقلعة والحصن. ولعلَّها مشتقَّة من دوران السُّور حول الأحياء السَّكنيَّة في المدينة. وهكذا تمثِّل هذه الكلمة روح المدينة وجوهرها، وكلَّ ما يقع فيها، ويشكِّل خلاصة قوانينها وأحيائها. وبالتالي فإنَّ “دورو” هي الأسوار التي تحيط بالمدينة وتستوعبُها، لكنَّها أيضاً روح المدينة وجوهرُها وقوامُ وجودِها وخلاصة القوانين السائدة فيها. خارج أسوار المدينة، تمتدُّ “صحرو” أو “صيرو”، وهي الكلمة التي رجَّحنا أنَّها كانت تُنطَق بالحاء، وإن لم تُكتَبْ بالكتابة المسماريَّة. ولا شكَّ أنَّها تدلُّ على الصَّحراء والبرِّيَّة والأرض القفراء الجرداء، أي باختصار على كلِّ ما يمتدُّ خارج أسوار المدينة، ويمثِّل النَّقيض المباشر لها في كلِّ شيءٍ” .
داخل الأسوار (دورو) يوجد البناء والحضارة، وخارج الأسوار تمتدُّ الطَّبيعة والعراء. في (دورو)، أي المدينة التي تضمُّها الأسوار، تمتدُّ الطُّرق المرصوفة، وترتفع الصُّروح والمباني والمعابد المبنيَّة من الآجرِّ المفخور، وربَّما كان بعضها مطليّاً بالنُّحاس اللَّمّاع. وعلى النَّقيض من ذلك، تمثِّل (صحرو) البرِّيَّة القفراء الشاسعة خارج الأسوار، حيث لا يوجد شيءٌ يدلُّ على الحضارة، بل تتقافز الحيوانات بالقرب من مساقي الماء، ولا وجود لما يدلُّ على الثَّقافة التي صنعها الإنسان. وبالتالي فالبرِّيَّة أو الصَّحراء هي الأرض القاحلة التي تشير إلى البربريَّة والوحشيَّة، وتشكِّل النَّقيض المباشر للمدينة (دورو).
بعد أن ضجَّ أهالي أوروك بالشَّكوى من جور جلجامش، قرَّرت الآلهة خلقَ نظيرٍ له، ترميه في البرِّيَّة المترامية، فيظلُّ يعيش مع الوحش، يرِدُ من مساقي الماء مع الحيوانات، ويأكل مثلها من نبات الأرض، عارياً إلا ما يتدثَّر به من شَعْرٍ منحتْه إيّاه الطَّبيعة، حتى يتهيَّأ له مَن يقوده إلى حمى أوروك. ذات يومٍ، كان هناك صيّاد ينصب شباكه لاصطياد الحيوانات، فأبصره مرَّةً وأخرى. لكنَّه لم يستطع إخفاءَ هلعِهِ منه. عاد الصَّيّاد إلى المدينة، وأخبر أباه بما رآه. فاقترح عليه أبوه أن يذهب إلى أوروك، لإخبار جلجامش، وأن يصطحب معه بغيّاً مومساً تكشف لذلك المخلوق، الذي صار اسمه أنكيدو (أي من خلقه إنكي)، عن مفاتن جسدها، وحينئذٍ يجري ترويضُهُ واستئناسُهُ وربَّما استدراجه إلى داخل أسوار أوروك.
تمَّ الاتِّفاق مع شمخة على استدراج الوحش أنكيدو بأن تخلع ثيابها (لُبوشي) أمامه، وتكشف له عن مفاتن جسدها. وفعلاً نجحت الخطَّة. ذهبت البغيُّ شمخة إلى حيث يوجد أنكيدو في البرِّيَّة، ورفعتْ ثيابها عن مفاتنها، فأُغرِيَ بها أنكيدو، وبقيَ يضاجعها عدَّة أيام. حتى إذا أراد أن يعود إلى البرِّيَّة أنكرته الحيوانات التي كانت تعيش معه، ونفرتْ منه. حينئذٍ عاد أنكيدو إلى البغي، التي صارحته قائلةً: “صرتَ تحوز على الحكمة يا أنكيدو، وأصبحتَ مثل إله. فعلامَ تجول في الصَّحراء مع الحيوان؟” .
تمثِّل الثِّياب أو الملابس (لُبوشو) الوسيلة الأولى في استدراج أنكيدو وترويضه، أو إذا شئنا الدِّقَّة، يمثِّل نَزْعُ الثِّياب، لأنَّ شمخة لم تستطعْ استدراجه إلا بإظهار قوامها الطَّبيعيِّ، بعد التَّخلِّي عمّا يغطِّيه ويستره من ثياب. وأنكيدو نفسه عارٍ عن الملابس، لأنَّه ينتمي إلى البرِّيَّة. أمّا شمخة القادمة من المدينة فهي ترتدي الملابس، وتغطِّي جسدها، لأنَّ المدينة، على عكس الصَّحراء، لا تسمح بالعري في داخلها. وهكذا كان على شمخة أن تتخلَّى عن مدنيَّتِها، وتنزع ملابسها، لكي يرى أنكيدو، ابن البرِّيَّة والطَّبيعة العارية، مفاتنها. تخلَّت شمخة مؤقَّتاً عن انتمائها إلى المدينة ريثما تستطيع إغراءه بمفاتنها. وبعد أن تخلَّت الحيوانات عن أنكيدو سيكون لها موقف آخر.
بعد أن رأتْ شمخة أنَّ أنكيدو أنكرتْهُ الحيوانات، ورفضه العالم الطَّبيعيُّ الذي ينتمي له، اقترحتْ عليه الخطَّة التي أضمرتْها وجاءت من أجلها، ألا وهي مشروع حملِهِ إلى أوروك، لكي يكون ندَّ جلجامش. كانت المدينة التي جاءت منها شمخة تختلف اختلافاً كلِّيّاً عن الصَّحراء التي يعيش فيها أنكيدو، ولذلك وصفتها له قائلةً:
أجلْ، تعالَ يا أنكيدو إلى أوروك المحصَّنة،
حيث يلبسُ الناسُ أبهى الحُللِ،
وفي كلِّ يومٍ تُقام الأفراحُ كالعيد .
حسب وصف شمخة لأوروك تمتاز المدينة عن الصَّحراء بشيئين؛ الأوَّل كثرة الأبنية والصُّروح والمعابد، والثاني أنَّ الناس فيها يكتسون بالحلل والملابس. وهذا يعني في المقابل أنَّ الصَّحراء تخلو من هذين الأمرين معاً. وبعد أن أطفأَ أنكيدو ظمأَهُ إلى مفاتن البغيِّ، وبقيَ معها ستَّة أيّامٍ وسبع ليالٍ، أعادتْ عليه شمخة اقتراحها الأوَّل. فوافق أنكيدو هذه المرَّة، وتقبَّل كلامها.
لكنَّ المدينة لن تقبل أنكيدو، ما دام عارياً بلا ملابس. فالملابس هي الموضوعة التي تميِّز المدينة، على عكس العري الذي يميِّز الصَّحراء والبرِّيَّة. فما كان من شمخة إلّا أن نزعتْ ملابسها، وشقَّتْها إلى نصفين؛ احتفظتْ هي بنصفٍ، وألبستْ أنكيدو النِّصف الآخر:
ثمَّ شقَّتْ ثوبها شقَّينِ، ألبستْهُ بواحدٍ منهما،
واكتستْ هي بالثاني.
وأمسكتْ به من يدِهِ، وقادتْهُ كما يُقاد الطِّفل.
أخذتْهُ إلى كوخ الرُّعاة، إلى موضعِ الحظائرِ.
فتجمَّعَ الرُّعاة حولَهُ .
“علامة أنكيدو الفارقة حين كان في البرِّيَّة أنَّه كان عارياً ينتمي إلى عالم الحيوان، لا إلى عالم الإنسان. ولذلك أغرتْهُ البغيُّ شمخة بانكشافها عاريةً أمامه، أي أغرتْهُ بالتَّجرُّد عن الملابس، التي هي عالم المدينة والحضارة، والانتماء إلى عالم الطَّبيعة الحيوانيَّة والعُرْي. وبعد أن قضى أنكيدو ستَّة أيّام وسبع ليالٍ مع شمخة، أراد أن يعود إلى حياته المألوفة في الصَّحراء. لكنَّه لم يستطعْ، فقد فقدَ البراءة الحيوانيَّة إلى الأبد. في البداية أنكرتْهُ الحيوانات، ثمَّ خذلته ركبتاه عن اللّحاق بها. وحين عاد إلى حيث تقف شمخة، كان من الواضح أنَّ خياره الوحيد صار أن يرافقَها إلى عالمها، وأن يتخلَّى عن عالمه. وهكذا اقترحت عليه شمخة أن تأخذَهُ إلى أسوار أوروك، حيث “يلبسُ الناسُ أبهى الحُلَل”، وحيث “يعيشُ جلجامش الكامل الحول والقوَّة”. صوَّرت له خيلاؤه أنَّه يستطيع الانتصار على جلجامش، لأنَّ مَن “ولدَ في الصَّحراء هو الأشدُّ والأقوى”. اقتنع أنكيدو بفكرة منازلة جلجامش وتحدِّيه. لكنَّ دخول المدينة ليس كالعيش في الصَّحراء. لا بدَّ له أوَّلاً أن يتخلَّى عن قانون العري الذي لازمه هناك. وهكذا أدركت شمخة أنَّه لن يستطيع دخول المدينة عارياً، “فشقَّتْ ثوبها شقَّين، ألبستْهُ بواحدٍ منهما، واكتسَتْ بالثاني”. وبهذه الطَّريقة استدرجتْه وسحبتْه من الانتماء إلى عالم الحيوان، حتّى أفلحَتْ أخيراً في إيصاله إلى أوروك، ولكنْ بعد أن تعلَّم لبس الثِّياب. لأنَّ المدينة لا يمكن أن تقبل إنساناً عارياً، بل سوف تعدُّه “حيواناً” على الفور، ولن تسمح له بالدُّخول” .
(فقرة من فصل “الاستعارة الملبسية” من كتاب “مجمع اللقى البلاغية: الاستعارات الكبرى في الفلسفة
شارك مع أصدقائك