Blog

45عاما على رحيله… ماذا بقي من جان بول سارتر عربيا؟..أشرف الحساني

شارك مع أصدقائك

Loading

45عاما على رحيله… ماذا بقي من جان بول سارتر عربيا؟
تلقّيه ظل أسير مواقفه السياسية لا أفكاره الفلسفية

أشرف الحساني

يشكل الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (1905-1980) الذي حلت يوم 15 أبريل/ نيسان الذكرى الـ 45 على رحيله، حالة نادرة في المشهد الفلسفي العالمي، وذلك بحكم الجدل الذي لطالما رافق أفكاره ومواقفه ورواياته ومسرحياته، باعتباره فيلسوفا مجادلا وأديبا إشكاليا، لم يتراجع يوما عن أفكاره ومواقفه في قضايا تتصل بالعدم والوجود والالتزام والأدب والأيديولوجيا. إنه واحد من الفلاسفة الفرنسيين الذين ساهموا منذ أعمالهم الفكرية الأولى في خلق جدل فكري تجاوز قلاع الفلسفة الفرنسية آنذاك، صوب فضاءات نائية من العالم الثالث لم تتحقق فيها حتى شروط العيش الإنساني الكريم، لكن مع ذلك ظل الكثير من إنتاجها الثقافي يهجس بأفكار سارتر ومقولاته، خاصة في ما يتصل بالجانب السياسي ومواقفه المعروفة تجاه الالتزام والمثقف وغير ذلك. لم يكن سارتر من الذين يكتبون أيام الآحاد والعطل الجامعية أو في مرحلة الشيخوخة، بقدر ما ظل حريصا على أن تكون الكتابة عبارة عن هوية رمزية ينطبع بها الجسد. لذلك آثر تخصيص مساره الحياتي لكتابة روايات ومسرحيات ومؤلفات فلسفية والانخراط كليا في السياسة وشجونها، وهو ما جعل مواقفه تلقى صدى واسعا في العالم العربي، أكثر مما كتبه في العديد من مؤلفاته الفكرية.

الفكر والأيديولوجيا
إذا ما حاولنا تأمل المسار الذي قطعه الفكر الفرنسي مع جيل دولوز وميشال فوكو ورولان بارت وجاك دريدا، فسنجد أن فكر سارتر سيعرف ابتداء من ستينات القرن العشرين شهرة واسعة في العالم العربي، بعدما أصبح فكره بمثابة حصانة أخلاقية انطلاقا من نصرته لعدد من حركات التحرر من الاستعمار الغربي في ذلك الوقت. فاستحوذت وجودية سارتر خلال تلك الحقبة على مجمل الأنماط الفكرية التي كانت سائدة، بعدما غدت عقيدة أيديولوجية بالنسبة إلى العديد من المثقفين. غير أن مؤلفاته الوجودية كانت لها علاقة بسياق تاريخي معين، حيث تنامى الفكر القومي واشتد عضد الفكر اليساري من أجل تحقيق نوع من التحرر السياسي. ووجدت هذه الأفكار رواجا كبيرا في الأدبيات القومية خاصة في عدد من المجلات المصرية والسورية واللبنانية. فتلك الأدبيات وجدت في مفاهيم الوجودية نوعا من الخلاص الفكري للخروج من النفق الاجتماعي والأفق السياسي الضيق الذي كانت ترزح تحته التيارات القومية. على هذا الأساس، لم تكن الثقافة العربية تجد في فكر باشلار ودولوز وفوكو أي نزعة أيديولوجية تتصادى معها ومع ما تقترحه عليها من أفكار ومواقف تجاه الحرية والالتزام.
استحوذت وجودية سارتر خلال تلك الحقبة على مجمل الأنماط الفكرية التي كانت سائدة، بعدما غدت عقيدة أيديولوجية بالنسبة إلى العديد من المثقفين
بما يعني أن أفكار سارتر من هذه الناحية، كانت تجد طريقها إلى المثقف أكثر من مفاهيمه الفلسفية، كما يتضح ذلك بالعودة إلى بعض مما كتبه مطاع صفدي وجورج طرابيشي وترجمات سهيل إدريس وغيرهم. إن الوعي بمفاهيم سارتر ونظرياته ضعيف جدا في تاريخ الثقافة العربية، إذ لم يحول المفكرون العرب المشروع الفكري السارتري إلى مختبر للتفكير في المآزق السياسية والانبطاح الذاتي الذي كان العالم العربي منغمسا فيه، بقدر ما ظل تلقّيه يقتصر على كليشيهاته المعروفة التي يكاد الأدباء والكتاب والمفكرون يستشهدون بها كلما تناولوا تلك الحقبة. على هذا الأساس، سنعرف بالضبط الأسباب التي جعلت فيلسوفا إشكاليا كبيرا مثل سارتر يغيب عن يوميات الثقافة العربية ومشاغلها، رغم البعد العدمي الذي بات يطبع هذه الثقافة أمام الآلة السياسية، بما يجعل من عودة فكر سارتر ضرورة للتفكير في الكثير من المسائل التي يشهدها عالمنا اليوم.

التلقي الهش
كان سهيل إدريس عبارة عن قاطرة بين الإنتاج السارتري والقارئ العربي، بعدما قامت مجلة “الآداب” البيروتية بترجمة بعض من روايات ومسرحيات سارتر، قبل أن يتلقف العرب أفكاره السياسية ومواقفه الأيديولوجية فينسى نتاجه الأدبي نهائيا من داخل الساحة الأدبية. فاليوم تصدر عشرات الترجمات لفلاسفة وأدباء من الضفة الأخرى أقل موهبة وكتابة وتأثيرا من سارتر، لكن أعمالهم تجد طريقها إلى الترجمة، في حين أن ترجمة مؤلفات سارتر الفكرية والأدبية توقفت تماما. فإذا ما حاولنا تأمل هذه المفارقة ستبدو عادية، مع أنها في باطنها تضمر الكثير من الأسئلة الحارقة حول أسباب انحصار ترجمة سارتر وذيوع أفكاره. والحال أن فكره كما يقترحه الواقع اليوم يبدو “تاريخيا” أي أنه مرتبط بسياق تاريخي أيديولوجي مرتبط بالتحرر وإرساء ثقافة الحرية وتنامي الأيديولوجيا خلال لحظة تاريخية مر بها الواقع العربي. على هذا الأساس، يسجل العديد من النقاد الطابع التجزيئي الاختزالي في التعريف بسارتر، أي أن الكتاب الذين قاموا بترجمته ركزوا على مفاهيم محددة لعبت دورا سلبيا في التعريف بمشروعه، في حين بقي الكثير من أفكاره الفلسفية مغيبا.
فما كان يهم المثقف العربي من كتابات سارتر متمثل في ما كانت تقدمه له من أفكار تجاه ما يعيشه في الواقع وليس ما كانت تزوده به من أفكار فلسفية يبدو أنه كان في غنى عنها إبان تلك المرحلة. تشكل ثنائية الالتزام والأدب بخيطها الرابط بمفهوم الحرية نوعا من “البراديغم” التلخيصي لصورة سارتر في الثقافة العربية، فأغلب الذين كتبوا عنه أو استعانوا به لإضاءة بعض من المعتم على مستوى تحليل الواقع، انطلقوا من هذه المفاهيم وحاولوا عبرها تكريس ما عرف به سارتر. بهذه الطريقة أعاد الكثير من المثقفين العرب تكريس الصورة المشوهة والغامضة والضبابية حول فكر سارتر وأثره الفلسفي الكبير في تاريخ الأنساق الفكرية الفرنسية خلال القرن العشرين. فهذا النقص الذي سرعان ما أثر على عملية التلقي، كامن في أن العديد من المثقفين لا يقرؤون بلغات أخرى تجعلهم يقيمون المسارات الفكرية التي يمر منها الفلاسفة والأدباء في صناعة أفكارهم وابتداع مفاهيمهم، بما يجعلهم، لحظة قراءة بعض مما يكتب عن هؤلاء الفلاسفة والأدباء، يعملون على إقامة نوع من الطباق بين مساراتهم الحياتية وما يكتبه الآخرون عنهم وذلك من أجل تفادي النظرة التجزيئية التي تجعل عملية التلقي هشة ومصابة بنوع من الارتباك المبني على الأهواء والانفعالات التي لا تنفع نظام المعرفة في أي شيء.
أعاد الكثير من المثقفين العرب تكريس الصورة المشوهة والغامضة والضبابية حول فكر سارتر وأثره الفلسفي الكبير
في حين نجد فلاسفة مثل دولوز وفوكو وألتوسير وباشلار وغيرهم، قد عرفت أفكارهم الحقيقية رواجا كبيرا منذ بداية السبعينات، وذلك بحكم بعض المجلات الثقافية التي لعبت دورا طليعيا في تقريب فكر هؤلاء إلى الثقافة العربية. ومن بين هذه المجلات نذكر مجلة “الثقافة الجديدة” حيث نعثر في أعدادها على العديد من النصوص الفكرية لكبار المفكرين في العالم. ذلك إن هذه النصوص المترجمة ركزت في مجملها على الجانب المعرفي في مشاريع دريدا وبارت ودولوز مثلا، ولم تستعرض على الإطلاق الجانب الأيديولوجي. ومع دخولنا مرحلة الثمانينات وبداية التسعينات ستنقشع الأفكار الأيديولوجية من مضان الترجمات الفكرية والأدبية على حساب الاهتمام المعرفي بالنص وفنيته وجمالياته. هذا المعطى الفكري الذي ألم بالثقافة العربية المعاصرة، ينبغي استيعابه على أساس أنه تحول كبير وليس مجرد تأخر تاريخي وسم بنية الثقافة العربية، الحديثة منها والمعاصرة.
غيابه اليوم عربيا
لا يكاد يعثر المتأمل في تحولات الثقافة العربية الراهنة وانشغالاتها، على أفكار البنيوية التكوينية ولا على أحلام التفكيكية ولا حتى على وجودية سارتر وأدبه “الملتزم”. هنا واقع جديد بتنا نعيش فيه. واقع تتحكم فيه الصورة وتؤثر في عناصره المرئية وغير المرئية. فانتشار فكر الصورة اليوم في العالم العربي والعالم ككل، يجعل الكثير من التيارات والأفكار والمواقف يتلاشى من اهتمامات المثقفين والأدباء، ذلك أن الواقع غير معني بالمرة بهذه الأمور. ذلك فانتشار الصورة في مختلف حواملها ووسائطها وتحكمها في الواقع سياسيا واجتماعيا وثقافيا، يجعل الكثير من الأفكار التي كانت مركزية في تاريخ الفكر العربي الحديث تتلاشى من اهتمامات المثقفين. مع العلم أنه لا يوجد مفكر عربي واحد جعل من “براديغم” الصورة مدخلا لبناء مشروع فكري يقيم الواقع والتاريخ والذاكرة انطلاقا من هذا المفهوم. إذ على الرغم من أننا بتنا نعيش زمن الصورة، لا نعثر داخل الثقافة العربية على فكر يحاول معاينة مدى تأثير هذا المفهوم وتتبعه في الحياة اليومية، سواء في السياسة أو الحرب أو الفن أو المجتمع ككل.
هذه الازدواجية الواضحة أثرت على تلقي فكر سارتر في العالم العربي وجعلته يقدم بصورة الفيلسوف الأيديولوجي العاشق للسياسة، مع أن فكره ونمط حياته ظلا مرتبطين بالهامش
ويعود غياب سارتر اليوم، كما هو حال عدد من الفلاسفة والأدباء الذين عاشوا قبله وكان لهم أثر كبير في بنية التفكير، إلى كون الواقع ليس في حاجة إليهم. لا لأن أفكارهم لم تستطع اختراق واقعهم والسياق التاريخي الذي نشأت فيه، بقدر ما أن المشكل يعود إلى الزمن الذي بتنا نعيش فيه والمبني في أساسه على الترفيه والاستهلاك. غياب سارتر اليوم من الثقافة العربية يعود إلى أسباب في مجملها تاريخية، إذ يصعب العثور حاليا على ترجمة بعض من مؤلفاته وحواراته، وعيا من المترجمين العرب بأن سارتر حظي بترجمات كثيرة، مع أن الأعمال التي ترجمت يعلو فيها النفس الأيديولوجي على حساب كل ما هو معرفي في فكره أو جمالي في نصوصه الأدبية وأعماله المسرحية.
هذه الازدواجية الواضحة أثرت على سارتر وتلقي فكره بالعالم العربي وجعلته يقدَّم بصورة الفيلسوف الأيديولوجي العاشق للسياسة، مع أن فكره ونمط حياته ظلا مرتبطين بالهامش الذي دافع عنه في فكره ومنه خرجت شخصيات رواياته ومسرحياته، عاملا على تفتيت الواقع وتقليب كينونة الكائن وجرحه تجاه واقعه وماضيه.

 

شارك مع أصدقائك