Blog
صوت من تحت الركام…. أنوار حسين الدليمي
صوت من تحت الركام
أنوار حسين الدليمي
تنقض الرؤيا عليه كل ليلة كوحشٍ كاسر، تقتحمه بين اليقظة والحلم، تُلقي به وسط مدينة خاوية تُشبه أطلال ذاكرته. الأبنية المهدّمة شاهدة على كارثة، والشوارع صامتة كأنها تبتلع أنفاسها. انفجاراتٌ بعيدة تهزّ الأرض، تُرسل الحصى والغبار في كل اتجاه، فيما يحيط به الخراب كعباءة ثقيلة، تخنق الهواء في صدره.. ولكنه كان يسمع صوتًا آخر، أنينًا خافتًا ينبعث من بين الأنقاض، كأنّ روحًا تائهة تستغيث. رائحة الرماد تملأ المكان، لكنّه كان يستنشق شيئًا آخر، شيئًا يشبه عبيرها. صوتها يتردد في أذنيه، كأنها تناديه من غرفة مجاورة، أو ربما من خلف الجدار المتصدّع. “هل أحضرلك بعض الماء؟” سأل بصوت خافت، كأنه يخشى أن يزعجها. التفت حوله يبحث عن الرد، لكنه لم يسمع سوى صمتٍ ثقيل. ومع ذلك، كان يقسم أنّه لمح ظلّها يمرّ بين الحطام، خفيفًا كنسمة، وسمع ضحكتها تخترق هذا الخراب، فتبدو الحياة أقرب مما هي عليه. بين الحين والآخر، يتردد في أذنيه صوت خافت، أنينٌ متقطّع ينبعث من تحت الأنقاض. كان يقسم أن الصوت يحمل معنى، كأن هناك حياة مختبئة في هذا الركام، تناديه بخفوتٍ مرير. ومع ذلك، كان يخشى أن يُصدق، أن يسمح لهذه الأصداء أن تخترق قلبه المتعب. حين يستفيق، كان يجد نفسه في غرفة بيضاء، سقفها خاوٍ. الجدران حوله ساكنة، تخشى أن تبوح له بسرّها. لم يكن يدرك تمامًا أين هو، لكنّ الصمت الذي يلفّ المكان كان يثقل صدره كالصخور. في زاوية ما، كان هناك صوت خطوات حذرة، همسات مكتومة تتردد خلف الأبواب. جلس متكئًا على عكازه، عينيه التائهتين تبحثان عن شيء لا يُرى. استدار إلى صاحبه الجالس بجواره، أشار بيده المرتعشة نحو زاوية بعيدة. “هناك… سمعت صوتًا. كان يتألم.” صاحبه، الذي أثقلته الحقيقة أكثر مما أثقلته الرؤيا، ابتسم ابتسامة شاحبة، تخفي في طياتها شفقة عميقة. “ربما كان صوت حيوان،” قالها بخفة مصطنعة، محاولًا أن يطمئن روحه التي لم تبرأ من صدمة الفقدان. لكنّه لم يقتنع. ظلّ جالسًا لساعات، يحدّق في الفراغ كأنّه يرى ما لا يراه الآخرون. كان يشعر بثقل غامض على كاهله، كأن العالم بأسره ينوء به. بين أنقاض ذاكرته، كان يرى ظلّها يمرّ خفيفًا كنسمة، يسمع صوتها يهمس له، يضحك له وجهها، كأنها ما زالت هنا، تشاركه هذا الخراب. “هل رأيتها؟” سأل فجأة، صوته يخرج كهمسٍ مُثقل بالرجاء. نظر إليه ، تردد للحظة، ثم هزّ رأسه نفيًا خفيفًا، يخشى أن يكسر شيئًا هشًا في روحه..فالحقيقة، كانت أثقل من أن تُقال.. يجب أن تظل تحت الركام.. مثلها تمامًا.