قصتان قصيرتان جدا … كاظم جماسي …

شارك مع أصدقائك

Loading

قصتان قصيرتان جدا

كاظم جماسي

توهج

عاريا تماما، يتدلى كما لو كان مصباحا، معلقا من قدميه كلتيهما الى خطاف في سقف غرفة في بناية، بدت حيطانها، كما هو وجه وقفا الجسد المعلق، لوحات تجريدية تتوزعها لطخات جافة من الأحمر القاني وأخرى لم تجف بعد .

يقف قبالة الجسد المعلق جسد آخر يحمل بيمناه سوطا، كما لو أنه فرشاة، وبالأخرى سيجارة مشتعلة، وبإيقاع متناوب، يسقط السوط – الفرشاة بعنف على الجسد المعلق لمرات، فتند عنه إختلاجات مقترنة بصرخات، تليها مرة واحدة يطفىء الرجل فيها سيجارته في مكان يختاره على اللوحة أمامه .

وما بين إختلاجة وصرخة، يمضي الوقت حتى أذا بلغ المنتصف من الليل، لم يعد هناك من إختلاجات أو صرخات ينم بها الجسد عن وجوده، وراحت مساقط السوط وجمرات السجائر تتوهج بالتتابع لتضيء كما المصابيح، فيغدو الجسد المعلق بأكمله كشافا هائلا من الضوء غمر الغرفة، حيطانها وموجوداتها النزيرة، يندفع متدفقا عرما الى غرف البناية ومنعرجاتها جميعها، فتستحيل البناية برمتها كتلة ملتهبة من الضوء، ثم لم يلبث ان فاض بعنفوان عابرا الى الخارج.

يراعات

إلى/ روح الشهيد هشام الهاشمي

 

ما أن تدفق أول غيث الدم من ثقب أنبلج توا في القلب، حتى هرعت حشود فراشات ملونة تكتظ عنده لتحمل ماأستطاعت من قطرات  يضخها القلب المثقوب، لتنطلق مسرعة الى أعالي السماء.

الليلة كانت حالكة الظلمة، وقد كمن خلف حلكتها، أشباح ملثمون، أردوا، برصاصات مسدساتهم الكاتمة للصوت، شابا عائدا توا الى منزله ليلا وقد كان، صباحا في ساحة التحرير، يقود حشدا من الشباب، متظاهرا واياهم .. يهتف مطالبا بوطن.

الليلة الدكناء تلك لم تعد ليلة ليلة دكناء، بعد أن أستوطنت سمائها حشود الفراشات، ولم يعد للحلكة من أثر فيها، بل أضحت صبحا مشرقا نظرا، أذ أمطرت قطرات الدم وابلا من ضوء، وقد أستحالت الفراشات التي تحملها يراعات منيرة كما ثريات في كبد السماء.

………..

رجع قريب لإختلاجات اسماعيل فتاح الترك

..

أن المجد لن يمنح المتعة الفريدة العظيمة للحياة، كأثمن ماتكون اللقى، إلا حين ينتج الأختلاج الدائم في من يستحقه فقط”

/نيقولاي غوغول ناعتا الرسام في قصته” الصورة”

ليس من مهمة الفن التماهي الحرفي مع المعطى التاريخي ابدا، فيما

تحدث المماهاة في الفن ـ ليس بوصفها استبدالاً او حلولاً بالمعنى العرفاني على الرغم من اقتران الاخير الى حد ما بجوهر العملية الابداعية ـ تحدث لدى الفنان كمنتوج مستخلص بعد احترافات تخييلية متفاعلة تلم بروحه متحولة فيما بعد الى عمل فني، ما ان ينجز أو يتم إنواجده، حتى يقلب ظهر المجن لصانعه.

أن ما تنتهي (الروح المعذبة) من صبه في الفراغ، هو فراغ مجازي حتما، ليشغل حيزه الخاص متجسداً في كتلة لا تكون بمعزل عن شبكة علاقات تربطها بكتل اخرى تشغل معالم المحيط الفيزيولوجي والسايكولوجي لتنسج بعون من توائمات المكان والزمان خطابها الرؤيوي المتناسل وفقاً  لاشتراطات العين الرائية.

والمرئي لدى اسماعيل فتاح الترك يتسم عموماً ببساطة متناهية، بساطة الدفقة البكر للاحساس الاولي بالوجود، لحظة الاندهاشة الحافلة من جراء لمسة حية نابضة لسطوح الاشياء، دائماً هناك القطبية ذاتها، القطبية التي يترشح عنها معنى الوجود والعدم، الوجود في الشفة النابضة شبقاً، والعدم في طمس الملامح الاخرى المحيطة بتلك الشفة، او ما يبدو من عناق في انحناءة رسغ الرجل وهو يحتضن خصر امرأة ما، أو انقسام الكتلة في الاعلى وواحديتها في الاسفل، الوجه الخائب او الباكي او النائم والمرأة المشوهة اسفل الفك، هناك اندحار دائم في حدقات العيون يقترن دائما بإيحاء شهوة عارمة مقبلة على الحياة، وأثار اخرى كثيرة تقرأها العين الرائية.

تلك قراءة القماش، اما قراءة البرونز، متعددة الابعاد بالطبع، فتشي بالكثير، وأول ما يتسرب منها هشاشة الكائن، هناك دائما اعياء او مرض يلف الكتلة، حتى ذلك المربع الصقيل للوجه المطموس المعالم سوى أنف منسدل من جبهة صماء وفم منفرج باستحياء مخلفاً ظل ابتسامة او همسة بوح ربما، حتى ذلك الوجه المربع، على الرغم من صلادة البرونز وصقالته، هناك اندحار ماثل في كونه مركوناً تحت وطأة الاطار العريض والمتين الذي يحيط به من جهاته كافة، ثم هناك إغفال مقصود للرأس دائما. الرؤوس في أعمال الترك معظمها أما مضمحلة متصاغرة أو غير موجودة على الاطلاق، فالكائن الواقف الذي يمد ذراعه اليسرى نحو فكه مفكرا، فيما ذراعه اليمنى مقطوعة ومعلقة على سرته، يحمل رأساً بالغ الصغر، والآخر الذي يركن عجيزته الى فراغ ويسبل يديه على ركبتيه، لا يحمل  رأساً بالمرة.

سيتملك العين الرائية، للوهلة الاولى، عند أرتطامها بسطوح البرونز وأنبعاجاته إحساس جلي بالليونة والشفافية التي يخلفها ملمس الطين ـ ربما كان ذلك تمظهرا آخر لما أسميناه بالهشاشة ـ وهو، على ما يترسب في طبقة من طبقات الوعي، إصرار على إلتقاط الأنبثاقة الأولى للأشياء، فولادة الكائن في مقتبل وجوده لا تمنحنا قسمات كاملة ناضجة المعالم، ستبدو دائماً في طور التشكل، وهي اللحظة التي تضع العين الرائية بالضبط في بؤرة جوهر الوجود (فعل التشكل).

لطخة اللون ومحو الحدود الدقيقة للوجه أو الجسد، الأيهام باللامبالاة، فعل مقصود لإظهار الثيمة المحورية للعمل ألا وهي ـ فعل التشكل، أن النجاح في الإمساك بتلك اللحظة هو حصرا أو بالضبط ما يمنح ديمومة منقطعة النظير للمنجز الفني، أيما منجز، وهذا ما طفحت به، وقد حازت مجدها الخاص،  كائنات اسماعيل فتاح الترك

شارك مع أصدقائك