وديع سعادة ..نثرُ حياةٍ بين ضفّتين ..حاوره: إسكندر حبش. الحلقة التاسعة

شارك مع أصدقائك

Loading

9-10

وديع سعادة

نثرُ حياةٍ بين ضفّتين

حاوره:

إسكندر حبش

تركيبٌ آخر لحياة وديع سعادة

يأتي إليَّ أريجها من دون أن أمدَّ يدي

بمجرَّد نظرة تكون

وبنقرةٍ صغيرة على طاولتي تولد فراشاتٌ غريبة وتحوم عليها.

لا قَدَم بيننا بل عطرٌ يمشي

ليس بيننا كون، فقط هواءٌ أُشكّله كوناً جديداً

آخذُ زرّاً من سهوي وأُبكّلُ أعضاء

أبكّلُ أرضاً وشموساً وكواكب

أبكّلُ سهوات.

لا أقول “تعالَ”، فقط يمرُّ في بالي مجيء.

أرضٌ بلا مسافات

والسماء إذ تمطر فليست مشيئةَ غيومها، إنّها مشيئة بالي

والذين خلقوني تواروا والذين في بالي يولدون

وليس في كوني تفّاحة، ولا أفعى، ولا إله

أركّبُ، قطعةً قطعة، على مهلٍ، كوني

فراشاتُ بالٍ وأرضُ بالٍ وناسُ بال

كائناتٌ جديدة أُطْلقها في الساحات، وكائناتٌ أُلغيها

وأُغيّر وظائفَ الأعضاء، ووظائف حامليها.

أرضٌ بلا مسافات، وليس عليَّ أن تكون لي قَدَمٌ لأمشيها

عينٌ تجلب لي الأرضَ بالنظرة

وليس واجباً أن تكون لي يدٌ لأقطف زهراً. لا شيء واجبٌ عليَّ كي يكون لي كلُّ شيء.

ها إنَّ يدي تفكّك أصابعها، وقلبي يفكّك شرايينه، وعيني تفكّك حَدَقتها

أضعُ في يدي أصابعَِ بال، وفي قلبي شرايينَ بال، وفي عيني حَدَقةَ بال

وفي نهاري زمنَ بالٍ وعلى الأرض كائنات بالٍ جديدة

وإذا الرغبات عصتْ على البال، ألتقطُ كلَّ الرغبات بعدم الرغبة.

ليس النبع بيننا ولا المجرى، ولا مسافة بيني وبين البحر

يولد النبعُ منّي والبحرُ منّي، وليس عليَّ أن أجري لكي أصل

هناك هو هنا

والأرض الأخرى تمشي قبالتي ولا ألتفتُ إليها.

لم أكن أجري في نهر. كنتُ بمحاذاة الأنهار أنتظر مائي

أجلس على لا مكان، ولا يجلس معي زمن

وإذا جاء يومٌ قديم وجلس في يدي، أُعيده إلى أرضه القديمة.

رسمتُ لا مكاني وجلستُ. قعدتُ على خريطة بالي.

لا منعطفات ولا طرقات

وإذْ أُطلقُ عصافيري في الفضاء تبقى في قلبي

ذلك لأنّ الفضاءَ بالٌ والصوتَ بالٌ والمكانَ بال

ولأني لا أُنزّه الأيامَ في الوقت، بل في حديقة بالي.

يا عيني التي وحدها تشرق عليَّ، الشروق والغروب هما هنا تحت رمشي.

أُقيم في ظلّ إغماضةِ عينٍ وفي ظلّ انفتاحها، وليس في ظلّ الشموس البعيدة

ويا عشباً مولوداً من خطواتي أعيش تحت أوراقك

وتعيش معي أراضٍ ومجرَّات

وترقص مخلوقاتٌ وتغنّي.

واقفٌ هنا، حيث يعبر الجسرُ وليس الماشون عليه

يكفي أن أقف، لكي أصل.

يعبر الجسرُ بي ويعرف وجهتي، يعرف أن لا وجهة لي إلاّ الوقوف

المدى في عيني والأرض في قدمي

وإن احتجتُ إلى رفاق، هم تحت جفني

يتقلَّص الكونُ حتى يصير حدقتي

ويدي تطْلق خرافها إلى كون، مراعيه رؤية

يكفي أن تنظر حتّى تشبع

ويكفي ألاّ تنظر، لئلاّ تجوع.

لكنّي مشيتُ كثيراً حتّى صرتُ هنا. مشيت كثيراً حتّى وصلتُ إلى كون الوقوف

إلى الحياة التي بقَدَمٍ حرنة، ويأتي الكون إليها.

الأرض في قدمي والمدى في عيني، ما حاجتي إلى المشي؟ وقوفٌ، سكونٌ، صمتٌ، بهاء.

هل مرَّ ظلّي على شجرة؟ هل مرَّ ظلّي على هواء؟ ذلك أريجُ بالٍ يسبح، ذلك بخارُ سهوٍ يضوع

غيومي التي تمطر مائي

وأُوزّعُ منه في الساحات، على كائناتي الجديدة

على النظرات التي تصطفُّ مقاعدَ لأطفالي.

ها هو الكون يجلس أخيراً على حَجَرِ نظرتي

كوني الصغير الخفيف الذي يسعه حجر، وتحمله نظرة.

آتٍ من هناك، فارّاً، كي أستريح على حجر

آتٍ من الذي كان فسيحاً كي أجلس على نقطة

على شيء نحيل، لا هناك فيه ولا هنا.

آتٍ من مساحات، لكثرة ما كانت شاسعة لم أكن أرى شيئاً منها

إلى حَدَقةٍ صغيرة أعرفُ كلَّ سكّانها.

آتٍ من عيونٍ كثيرة

لكي أجلس في عيني.

شارك مع أصدقائك