حوار مع الشاعرة السوريّة جاكلين سلام
حاورها محمد الحجيري
حول المحبرة أنثى والسرقات والتناص
…….
جاكلين سلام
السرقة الأدبيّة تناص وقح يستمد وجوده من جهل
……..
مهاد
…….
أصدرت الشاعرة السوريّة المقيمة في كندا جاكلين سلام مجموعتها الشعرية الجديدة «المحبرة أنثى» وفيها شيء من روحية يومياتها وصوتها الأنثوي. معها الحوار التالي.
*-ماذا يعني بالنسبة إليك أن تكون المحبرة أنثى، وهل ما زلت تستعملين الحبر في كتابة الشعر؟
–إن يصدر ديوان «المحبرة أنثى»، فهذا يعني بالدرجة الأولى أن النصوص التي اشتغلت عليها مدة سبعة أعوام، ثم انتظرتها عامين وهي في عهدة دار النشر، أصبحت أخيراً خارج سلطتي وفي متناول القارئ. لن أعود بعد اليوم إلى أحد النصوص وأزيح كلمة أو فقرة أو جملة من الديوان. هذا يتيح لي التحرّك بحرية أكبر الآن للعمل على طباعة كتب أخرى تنتظر أن تتحرر من عهدتي. أما الى ماذا يحيل العنوان من دلالات بالنسبة إلي أو إلى المتلقي الذي يهمني فهذا ما تسعى هذه المجموعة إلى قوله في ما يقارب 150 صفحة. تسكب المحبرة قطراتها في كون شاسع زاخر بالحبّ وضياع الحبّ، بالأعاصير الروحية الذاتية والبيئية، ومحمّل بتناصات مستلة من الموروث الميثولوجي والشعبي الشرقي والغربي. الأنثى هنا سيدة ترى أبعد من جسدها المحدود وتعاين أصغر التفاصيل في قعر المكان والكون. «المحبرة أنثى» نصوص متشابكة بالمكان والذاكرة ولا تتكئ على جغرافيا الجسد بالمقام الأول. وفي النهاية المحبرة ليست إلا رمزاً لاحتواء كلي يتعدى حدود الشيء ليصل إلى جوهره. أما بخصوص استعمال الحبر في الكتابة، لم أستخدم أقلام الحبر منذ كنت تلميذة صغيرة وكانت مريلتي المدرسية تمتص ما تساقط سهواً من أقلامي. مسوداتي كلها على الكمبيوتر وحين يحصل أي عطل في هذا الجهاز أرتجف رعباً. في المقابل لا أحتفظ بأي أرشيف ورقي عن كتاباتي المنشورة في الصحافة.
**-ماذا تعني لك الأنثى في الشعر، هل هي خطاب أم أيديولوجيا أم ذات، هل تشعرين حقاً أنك تواجهين العالم الذكوري، ألا تشعرين أن ثمة شاعرات تحولن بسلوكياتهن الى ذكور؟
–كون المرء ولد ذكراً أو أنثى، فهذا ليس امتيازاً لنوع بيولوجي على آخر. التاريخ والأديان والأساطير في معظمها منحت الرجل امتيازاً وتفوقاً دفعت المجتمعات ثمنه تخلفاً وتفرقة. ثم جاءت حركات التحرر المدني والنسوي لتصحيح المسيرة ووضع خطوط للتجاوز والتنافر وأعدت مأدبة حقوقية تضمن مساواة الجنسين. بعضهم ذهب في تطرفه يميناً أو يساراً. ككاتبات في هذه المرحلة من التاريخ ندين لكل من سبقنا في هذا المضمار. وكما قالت فرجيينا وولف مرة، فإننا كنساء ندين بالكثير لأول امرأة كتبت رواية إنكليزية وكان اسمها أفرا بهن. ولو تعمقت أكثر في ميراثها سأقول أنا مدينة لجدتي أنخيدوانا السومرية النائمة في أساطير الشرق. أدرج هذه العموميات كي أعود إلى كيفية نظرتي إلى الأنثى في الشعر أو الكتابة عموماً. أجد أنني في أحد النصوص قلت إن الرجل يبحث عن الكلمات، والمرأة تبحث عن الكلمات، والكلمات تبحث عنّا لتجد كم فينا من الذكورة ومن الأنوثة. بهذا المعنى، حين أكتب، لا أتلمس بوعي ودراية حقيقتي البيولوجية لكنني أكتب ما هو خلاصة فرد أو كيان أو مجتمع محمّل بخطاب ديني إيديولوجي اقتصادي واجتماعي. والذات الفردية هي مجمل هذه العوامل محاطة بتجربتها الشخصية وخصوصية الفرد التي تتجلى ثمرتها في النص الإبداعي. نعم، أنا كامرأة في هذه الحقبة من الزمن ما زلت في مواجهة العالم الذكوري المنبثق من الخطاب والأيديولوجيا والتقاليد الاجتماعية ذات المحمول الديني والعنصري وما شابه ومن كتابات الذكور على مر التاريخ في الوقت الذي كان معيباً ظهور اسم المرأة على كتاب. أواجه ذلك في كتاباتي الصحافية والنقدية بمباشرة ووضوح لا تحتمله القصيدة. وأنفر من خطاب المرأة العنجهي المتعالي على الرجل وعلى المرأة. النزعة الذكورية ليست مقتصرة على الرجال دون النساء. بعض النساء ممن تتاح لهن فرصة للوصول إلى سلطة ثقافية أو مجتمعية يمارسن خطاب السلطة ذكورة بنواقصها كافة وابتذالها وإنْ ادّعين عكس ذلك. والشاعرة المرأة في النهاية ليست بمعزل عن الخطاب الذكوري، وما ذكورة خطابها المتجبر والمتشاوف والزاعق إلا انعكاس لخوفها الداخلي وعدم ثقتها باستحقاقاتها.
*-هل يمكن الحديث عن مشروع شعري في حياتك، أم أنك لا تجدين هذه الكلمة مناسبة؟
الكتابة مشروع أساسي في حياتي وعليها تقوم معادلات شخصية متشابكة والشعر قطب في مشروع تعمّق اختياري له بعد الهجرة. الكتابة تعمّق معنى وجودي وتفتح أمامي نوافذ تطل على داخلي ودواخل الآخرين حين يغرق المجتمع في الفردانية وينكمش على ذاته ولذاته، ضعفه وأحلامه. في المقابل ليست لدي خطط شعرية وبرامج للكتابة. القصيدة تطرق باب الروح وتناغي الأصابع بعد أن تكون اختمرت في رحم المحبرة، وعندها أجعل لها من الورقة سريراً لأنها لم تعد غريبة ودخيلة. ما لم أقله أكثر من كل ما كتبت إلى الآن.
*-حدثينا عن مفرداتك الشعرية. هل تعتمدين مفردات محددة، أم أن اللغة بالنسبة إليك عالم مفتوح؟
–حبذا لو يفعل النقاد ذلك ويشيرون إلى مفرداتنا الشعرية. حين أكتب في النسخة الأولى لا أقف أمام الكلمات، بل أستجيب لما يتقطّر من أعماقي. في مرحلة لاحقة أحتاج أن أحذف كلمة وأستعيض عنها بكلمة أكثر استجابة. مع الوقت وهذا الكم من الكتابة وجدتُ أنني كررت كلمة المحبرة في مجموعاتي كافة. في «كريستال» قلت : «المجموعة مهداة إلى مخترع المحبرة وأعتقد أنه كان يحبني»، وفي مجموعة أخرى قسمت فصول الكتاب إلى فصول من بينها «محبرة مشتبه بها». وتظهر مفردات لها حمولتها وعناوين مثل: «مشيئة ناقصة»، «رهينة الحبر»، «المحبرة أنثى والكلام ناقص»، «محبرة النقصان». وبالطبع لم اذهب بوعي لاختيار ذلك. لا شك في أن لغتي نابعة من طبيعتي الشخصية التي تستمد قوتها من أنها لا تمجّد العنف وتختار الكتابة عن الأرنب والسنجاب وأيوب وحشرة خضراء رأيتها في حديقة كندية ولا أعرف اسمها.
*-أي لغة للشعر في زمن العولمة والتكنولوجيا والاتصالات؟
بتصوري أن عالم الاتصالات والتكنولوجيا المعاصر سيترك أثره على لغات العالم من ناحية الاختزال واستخدام أقل كمية من الكلمات في أقصى سرعة. ستشهد اللغة دخول مفردات جديدة تقتضيها طبيعة العصر وأدواته. الآن أصبح «غوغل» يستخدم «كفعل» أيضاً في الإنكليزية. وكذلك كلمة «تويت ــ من تويتر»، ثم إن الأقوى تكنولوجياً سيفرض لغته المتفوقة، والأقوى اقتصادياً سيفرض أبجديات {عولمته» بالطريقة التي يشاء. لن تقاوم العربية هذا المدّ التكنولوجي ولن تستطيع حظر استخدام المفردات المستوردة إلا بارتكاب تزمت مبالغ فيه، كأن تفرض دولة على شعبها استخدام كلمة «خبز ممدود» بدل تسمية «بيتزا».
*-ماذا يعني التناص في الأدب، خصوصاً أنك اتهمت إحدى الشاعرات بالسرقة؟
السرقة تناص وقح يستمد وجوده من جهل أو مغافلة الآخرين لحقيقة وجود النص الأصلي وكاتبه. والتناص تشابك وتداخل نصي بين نص جديد وآخر سابق عليه. قد يكون هذا التعالق مستمداً من أسطورة، من فكرة فلسفية، من نص شعري معاصر أو موغل في القدم. كتب كل من باختين وجوليا كريستيفا، ومحمد مفتاح، ومحمد بنيس وغيرهم عن هذا الموضوع، وليس حصراً. وأجد أنني شخصياً وفي هذه المجموعة أستخدم تناصات واقتباسات لشعراء عرب وأجانب، وأستمد رموزاً من الأساطير والموروث الشعبي والديني وأدغمها في نصي، أحياناً أضعها بين قوسين كي تنتفي السرقة أو اختلاط قولي بقول الآخر. وأذكر أن محمود درويش أخذ رموزاً وأسماء من الأساطير وأسقطها على أرض قصيدته وجداريته فاكتسبت أبعاداً عميقة. كتب درويش عن جلجامش وانكيدو وعشتار، لكنه لم يكتب ملحمة جلجامش كما جاءت بفصولها وشخصياتها وخاتمتها. أدونيس وكمال أبو ديب «عذابات المتنبي» تقمصا شخصية المتنبي وقناعه في كتبهما في هذه المجموعة. خصصت محبرة لشخصية {أيوب» ولبست أنا «أيوباً»، أعدته إلى القرن العشرين، وتركته يذهب إلى خدمة العلم ويشارك في التظاهرات الاعتراضية. «أيوبي» لم يكن قنوعاً بما قـُسم له.
–الترجمة والمنفى، ماذا أضافا الى لغتك الشعرية؟
روحي هي التي اختبرت المنفى فجاءت النصوص بهذا الشكل وهذه المفردات. أما شعرية المفردة فهي من شأن القارئ – الناقد. حملت كتاباتي هذه المواضيع لأنها نابعة من صلب التجربة والمعرفة والمعطيات اليومية التي تخصني. المكان الجديد يطرح المفردات، والشاعرة تقتفي الأثر، وتحاول أن تقتبس من هذا الاغتراب كله شعراً ومعرفة. وضعتني الترجمة في قلب القصيدة التي أقرأها، وجعلتني في موضع المقارنة ما بين الموضوع والأسلوب العربي والإنكليزي. أحرص على انشغالي بالترجمة وتقديم عروض كتب إنكليزية للصحافة العربية، لعلها تشكل نقطة ضوء إضافية تجاور اشتغالات المترجمين الكبار الذي قدموا للعربية أعمالاً عالمية خالدة، وأتاحت لي منذ الصغر إمكان التعرف إلى ما يجري بعيداً ألف ميل عن نافذة بيتنا القديم.
*-جاكلين سلام في كندا، وجاكلين سلام في سورية، ما الفرق؟
جاكلين سلام، اليوم، هي الوحيدة الغريبة داخل أحلامها وخارجها كما تقول في إحدى القصائد. كان لديها طفل وحيد اسمه سلام، صار لديها أربعة كتب مطبوعة. وصار سلام صديقها ورفيق غربتها الوحيد. صار لغربتها صوت وإيقاع وقصائد تحتمي بقلوب القراء هرباً من البرد.
*-هل تعيدين قراءة كتبك الصادرة سابقاً؟
–لا أحبّ قراءة قصائدي لنفسي ولا أجدني تواقة الى القراءة في الأمسيات الشعرية. في السبعين سأعيد القراءة وستسقط من عيني دمعة كبيرة كلها حبّ وحزن.
صدر لها
- «المحبرة أنثى»: مجموعة نصوص عن «دار النهضة» في بيروت، نوفمبر – 2009.
- «رقص مشتبه به»: مجموعة شعرية عن مؤسسة «جذور الثقافية»، توزيع «الدار العربية للعلوم»، بيروت نوفمبر – 2005.
- «كريستال»: مجموعة شعرية عن «دار الكنوز الأدبية»، بيروت – 2002.
- «-خريف يذرف أوراق التوت»: نصوص، نشرت إلكترونياً عام2001 في شبكة الذاكرة الثقافية
نشر الحوار في
صحيفة الجريدة الكويتية
27-12-2009
كما نشر عام 2023 في كتاب بعنوان: حوارات على مرايا الهجرة