أحمد البشير
من ” ميتا إعلام” الى ” قفص الإتهام”
……………..
تزامن ظهور الاعلامي الشاب العراقي احمد البشير في برنامجه المثير النوعي والواخز ” البشير شو ” ، او جمهورية البشير ، كنمط مغاير للميديا العراقية تحديدا ، بوصفه برنامجا ” المحاكمة الصارمة ” لانماط واداء وسلوكيات سياسية واجتماعية واقتصادية بشكل جريء وكوميدي .. وهو ليس بنبات فطري ، ولكنه خلاصة وتمثل برامج عربية شهيرة وغربية ضاربة في هذا التقليد ، لكن المهم في البشير فردا وفريق عمل ، ليس صدى لعشرات برامج كوميدية أخرى ، بل انه ثمرة ناضجة في سلسلة التطور للعقيلة الاعلامية العراقية وهي تستوحي وتتلاقح مع كل المستجدات في الخطاب الاعلامي الناقد ، الخطاب ” فوق الوصايا” ، وفوق الانماط الكلاسيكية للأداء الاعلامي التقليدي بوجود محاورة عبر الاستوديو ومشاركات عبر وسائل الاتصال المتاحة ، برامج حوارية مملّة ، صراخ احادي واستحواذ ايدولوجي لطرح المقدم والمعد والمخرج ، مع ضيوف يكملون ديكورات المهزلة الاعلامية لصالح اهداف اصحاب القنوات .
البشير ومن ورائه ، قدموا أداءً مقنعاً لدور الاعلام الحر ” المتعالي ” غير المدجن ، ولكنه يمثل عزاء ً لصرخات وأنين العراقيين ،بطريقة تمزج بين الخبر والتعليق ، المعلومة والتحليل ، الصورة من داخل الحدث والادانة معا .
كما ان البشير انفرد عن مفهوم المراسلين في تغطية الاحداث كما هو معمول في القنوات الإ‘علامية الكبرى ، بتواجد المراسلين لتغطية الحدث مباشرة عبر خارطة جغرافية واسعة ، البشير جعل من نبض الشارع العراقي ، جامعات ، شوارع ، اماكن عامة وخاصة ، صوت وصورة لمجموعات من الشباب تحديدا ليصدحوا بصوت ” نحييكم من … وبرنامج البشير شو ” … هذه التفاتة اعلامية مميزة وحصرية ” لجمهورية البشير ” في البحث عن رعايا خارج قفص الجمهوريات وقطيع اغنامها ، ونسق فحيح حناجرها.
اختار البشير أن يرسخ مفهوم السلطة العليا ، الرابعة للاعلام والصحافة ، تلك التي تراجعت في العراق منذ عقود سالفة ، حتى أضحت الصحافة وذيلها الاعلام مجرد رقعة شطرنج لفقهاء المتاهات ، وساسة الصدفة ، وعرس الدخلاء على الحياة العراقية بكل عهر وعيارة وشطارة وخمصوصا في عهد الدكتاتورية الصدامية وما بعدها من ضباب في الرؤيا لدور الاعلام .
شكّل البشير ظاهرة تحدّت المحظورات وتناغمت مع الانفاس المكبوتة للضحايا ، خطاب فاضح في الهدف والوسيلة ، مع فريق عمل يمثل كورال مهم وجوقة متفاعلة يستثمرها البشير لتوصيل رسالة البرنامج بشكل صادم باطار كوميدي ، لا يعفي أحد منهم .
كما امتاز البشير في مساحة تناول الموضوعات ” سياسية ، فنية ، ثقافية ، فكر ، تاريخ، عادات وتقاليد .. الخ ” وهذا ثراء موضوعاتي يدل على أفق مفتوح لحدود الاعلام في ” دوائر وخوانق محددة ” ضمن رؤية جهة منتجة ما .. ، وهو الثراء قد يكون مصدر خطورة في زمن التخصص والابتعاد عن الشمولية في كل الحقول ، ولكن تجربة البشير وبوصلته قد نجحت في اصطياد موضوعات متنوعة وبما يتوافر عليه البرنامج من مساحة حرية واعية لمناقشة الظواهر المحرمة والتابوات المخصوصة .
كل هذه العوامل ومن يقف ورائها من عوامل نجاح تبدأ بالجهة الممولة ولا تنتهي من قدرات احمد الشخصية الفنية والاعلامية والكارزما الشخصية واجادته لبوس الشخصيات المضادة خطابا ولغة وشكلا مع كادر عمل مميز ومتناغم ..
……….
البشير مصدر قلق كبير
للرموز والقادة ايضاً
…
في ظل شيوع ظاهرة البشير الاعلامية ، وجرأتها في الضرب تحت الحزام ، وتحديها الصارم لشخصيات واحزاب وتيارات سياسية ودينية وطائفية وميليشيات واتجاهات مأجورة واجندات خارجية ، بكل جرأة وموثوقية وشهادات موضوعية ، صوتا وصورة ووقائع مُعلنة ، لا يجروء على كشفها في الداخل غير جهة ” متعالية ” تمتلك صوتها الخاص لتقوم بهذه المهمة ، فكان البشير شو لها .
لذا تعرض من جراء هذا الفضح الممنهج الى تسقيط فردي شخصي يخصه بوصفه ” ذيل وابن سفارة ورفيقة وابن حلاقة ووووو.. ، كما ساهمت الشخصيات المستهدفة كل من موقعها للعمل و الايقاع بالبشير ، عبر سلسلة من التهم التي بدأت بالاخلاقية الشخصية وفي سلسلة الممنهجة للتسقيط ”
لكن برنامج البشير شو ، لم يستسلم ابدا، وراح يسفه هذه التهم بطريقة كوميدية مستخدما وثائق واقعية وردها على مطلقيها كالسهم الذي يرجع الى نَحر مطلقه .
ومن دورة سنوية الى أخرى كان هناك تصور اعلامي ممُنّهجا وستراتيجة فكرية تحتوي كل التحديات في خطوات تسفيه- غير تسقيط- الآخر بطريقة كوميدية مسندة بالصورة والمعلومة والوثيقة ، التي تضع الشخص المنتقد ، المتهم بمراجعة تاريخية لسيرته ، وتباين تفاصيل ومتناقضات الشخص او الجهة التي استهدفت البشير وجمهوريته شخصا وخطابا.
وما يسجل للبشير أن جمهوريته لم تكن محمية طبيعية للحفاظ على جنس نادر ، وليست مسوّرة للببغاوات والقطيع ، فعناصر البشير حوارية ، التقديم تطور من هيمنة البشير الى وجود كادر يساهم في التقديم ، وهذا تطور من النمط الأحادي الى المشاركة في تقديم البرنامج ، وهذا لا يتوافر في الرسالة الاعلامية ، إلا اذا كان لجهة القرار رغبة وجدية في تقديم الرسالة بطريقة تتناسب مع شمولية الهجوم المضاد ، كما انها تحقق التناغم مع الصوت الآخر المقموع فردا ومجتمعا .
…..
البشير ومركبته الفضائية
في واقع التحديثات في الشكل والمبنى والمعنى لجمهورية البشرية ” والتي تحيلنا رمزيا ربما الى جمهورية افلاطون ، او الى المدينة الفاضلة للفارابي ..”
اراد البشير رمزيا ان يذهب الى المستوى الآخر من ” التعالي ” بسلطة الاعلام ، بعد ان ضاقت به ارض الفقهاء والساسة والسادة ودهاقنه السحت الحرام ، ومافيات الطوائف والملل والنحل ..
ومن ” علّ” بعيد صار يُقدم ضيوفه من فنانيين واعلاميين ، مع جمهوره الأكيد الضاحك فقط ، وهذه سقطة فنيّة وفكرية كرست حمل ” القطيع ” فقط ، كما جرت عادة البرامج التي يكون فيها جمهور منمط لتلقي اوامر الضحك او التصفيق .. رغم ان وجود الاعلامي المساعد ” علي ” ليكون رفيف الصوت الآخر ولكن بشكل خجول وخافت !!
ان وجود فريق عمل يحركه البشير في مشاهد تمثيلية صوتاً وحركة وصورة ساهم في الخروج من نمطية البرامج بصورة كبيرة .
اعتقد ان ممكنات البشير المادية والدعم وهذا الكم من الإمكانيات قادر على خلق اعلام حواري ، بين الجمهور الضاحك وضيوف المعارضة ..
لكن المتوفر لحد الآن هو نمط مكرر للبرامج الساخرة بجمهور ضاحك تبعا لاشارة البشير وقفشاته الماهرة ..
……
البشير وتهمة التمويل الخارجي
لأن الموجة الصارخة لا تمر دون أسئلة ، كأي موجة ساكنة ، فكانت رماح وسهام وصراخ الموجات النائمة في غفوة يقين رموزها ومقدساتها ، تنتفض ضد المتحرك من اسئلة خارجة من رداء اليقين ، حتى وان طار خارج الكوكب و” همومه ” فلا بد ان يُحلاق بالنوايا وسوء النوايا و التفسير .
وحين رفع أصحاب الرايات الحمر دعوة التمويل الخارجي ، مصحوبة بالخيانة العظمى ، رد البشير بصحة الواقعة ، ، ومضى يضحك بعيدا عن الحلبة واسوار السجن الوطني المحاصر بسلطة السادة والساسة ودهاقنة الفساد .وكأن المشهد الاعلامي العراقي والعربي والعالمي هو خطاب فطري ” ينبت من الأرض ” دون أيّة عوامل مساعدة وداعمة ، كناية عن الضحك على الذقون والعقول !!
البشير ومحور التفخيذ
….
لعل عودة ” برنامح الشير شو ” ، أو ” شوز ” على رأي بعض الفقهاء!! في موسمه الجديد بصرخة عالية ، مميزة عن المنابر الاعلامية الأخرى التي صارت صوتا مدويا لترويج حماقات فكرية ماضوية مستهلكة ، وافكار سلفية دينيا ، ومتخلفة طائفيا ، ومدفوعة الأجر سياسيا .
البشير رصد لهذه الظواهر بوعي اعلامي ساخر ، فبعد ان صدعت رؤوسنا منصات اعلامية رسمية وشخصية في نبش الماضي بعد 1400 سنة للبحث في احقية الخلافة بعد النبي محمد ، وتلك تنهش من عقل المتلقي في بعث خطاب مظلوميات ” آل بيت الرسول ” ، والاستغراق والتمادي في عرض هذه المظلوميات والوقائع التاريخية السالفة بمظاهر ومواكب مذهلة كما ونوعا واستعدادا وتنظيميا ، وكل سنة وبواقع اكثر من شهر ، وما يظهر منها من غلو وممارسات وشعائر خارجة عن التصور التاريخي العقلي لفحص هكذا حوادث تاريخية ووضعها في سياقها الصحيح .
ومن جانب آخر انبرت وسائل إعلام مضادة تروج لمظلومية طائفة ثانية تعرض احتلال مناطقها وتهجيرهم وقتل ابناءهم وتغييبهم وتغيير الواقع الديمغرافي والطائفي لهم من قبل فصائل مسلحة تابعة الى ايران .
كل الفرقاء كان لهم رايات وخطابات ومنصات ، لا تمثل الفطرة الانسانية الاصيلة ولا الحاضر البشري ولا التطلع الى مستقبل يواكب القفزات الهائل في نضال البشرية عقليا وعلميا واقتصاديا وجماليا وروحيا وتقنيا ، للوصول بالانسان الى مراحل سامية من الحوار حول حاضر ومستقبل الانسان .
لقد وصل أمرنا في العراق لدرجة غير معقولة في وصل الدستور العراقي والمشرع الى مناقشة قصة غريبة جدا .
حتى جاء البشير نذيراومسانتدا لاصوات حرة نددت بالتعديل ، وباسلوبه الساخر الواخز الى مناقشة ” تفخيذ الرضيعة ” وتعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي بالسماح للمرأة الزواج في سن التاسعة ، وهو تعسف واغتصاب للطفولة ، وصف المجاهدين عن هذا الخرق الانساني الفظيع ب” محور التفخيذ” وهو وصف ونحت اصطلاحي عميق جدا ، اذا ما فهمنا ان الفرقاء ” يُفخذون” العراق منذ عام 2003
…….
البشير في قفص الإتهام
لعل في خاتمة المقالة نشير الى ان احمد البشير قد اخفق تماماً في اكثر من لقاء تلفزيوني معه حصريا ، اخفق في مواجهة التهم المساقة اليه بوصفه مفسدا لعقول الشباب ومنتهك لحرمة العائلة العراقية وغيرها من الترهات الاخلاقية البراقة كاستخدامه لألفاظ خادشة “للحياء!!” و السب والشتم ، رغم وجود تقنية ” الطوط” واخفاء اللفظ مباشرة ولكنه يوصل المعنى ، والدعاوى التي لبست لبوسها الاخلاقي المبرقع بالنوايا الخبيثة .
توقعت من البشير أن يكون أكثر حزما وعملية وواقعية في الرد على هذه الاتهامات ، سيما وانه قَبل دعوة برامج وقنوات لا تستحق وجوده فيها متهما، مهما كانت مسوغات البشير الاعلامية ، وانا لست ضد حريته في اختيار الظهور في اي منصة يريد ، ولكن خطاب البشير اصبح ظاهرة اعلامية عراقية جريئة ، والاسلوب الذي يستخدمه البشير هو ابسط رد تهكمي واخز على ” خراء ” وعهر ودعارة الواقع العراقي السياسي خصوصا .
لذا كان على البشير ان يكون واضحا في طرح استراتيجية ومنهجية البرنامج ، وخصوصيته في توافره على فضاء وسقف حرية عالية لا تتوافر لمنصات عراقية اخرى داخلية وخارجية لأسباب تخصهم .
كما ان على البشير ان يكمل رسالته في الحوارات معه بوصفه ضيفاً وليس ” ملكا ورئيس جمهورية البشير ” بوصفه باثا لرسالة البرامج ورؤية الجهة المنتجة .
وجدت البشير للاسف متواضعاً جدا في الرد والدفاع عن اسلوب جديد في الاعلام العراقي على الأقل ، وحاجته الى وسائل مبتكرة واخزة وحادة وغير تقليدية ، وعدم الوقوف في الزوايا الحرجة من الحلبة أمام مقدمي البرامج والمنصات التي استضافته ، وخصوصا في الجرأة والعفة والحشمة الذين يدعون هتكها من قبل البشير شو، ولم يفهموا لماذا وما هي اهمية اسلوب البشير في النقد ” المتعالي ” اسلوبا ورؤية ولغة ، في تفكيك وتسفيه الرموز والظواهر التي تجاوزت القدسية في تناولها ، تصل الى حد التصفية الشخصية ، وهو ما حدث مع البشير شخصياً.كما انه استضاف شخصيات كانت محل سخريته في حلقات سابقة، او شخصيات نسائية ورجالية لا تستحق الظهور في جمهورية البشير .
أتمنى على البشير أحمد ان يواصل مسيرته الاعلامية المتجددة اسلوبا ورؤية واخراجا وشكلا ولغة ، دون الالتفات الى لوائح المحرمات السياسية والدينية والاجتماعية بوصفها ” وصايا ملزمة ” .. رغم اني شخصيا فقط لا استخدم في خطابي الشعري والإعلامي في مقالاتي وكتبي وفي مجلتي ” الف ياء ” مثل اسلوب البشير وكلامه ، ولكن رسالة البشير تحتمل مثل هذا الاسلوب الكوميدي الواخز الجريء ، كما يحصل في البرامج العالمية التي يعرفها البشير ، او العربية وتحديدا مثل الاعلامي ” باسم يوسف “، رغم ان البشير خرج من معطف الجميع ، ونسج لنفسه هوية اعلامية مستقلة ، يشير لها كل اعلامي ومتلقِ منصف بالتقدير والفخر لشاب عراقي تسلّق سُلّم الاعلام والنجومية بصبر وخسارات موجعة شخصيا وعائليا وصلت الى حياته ، والبشير دخل الساحة ليس دخيلاً ابدا فهم موهوب ومتحصل على تأهيل اكاديمي اعلامي أكاديمي ويجيد اللغة الانكليزية بطلاقة بالاضافة الى حضوره الكاريزمي الأنيق وقدرته على تمثيل خطابه بشكل كوميدي بارع ، غير تمتعه بذكاء الاستفادة من تجارب الاخرين عربيا وعالميا .
وكما يقول سقراط هناك ثلاثة انماط من الخطاب ، الاول لناس في مستوى عالٍ يناقشون الأفكار ، والثاني لناس في المنتصف يناقشون الاحداث والظواهر والثالث لناس في القعر يناقشون الشخصيات ” الشخصنة ” ..
اعتقد أن البشير لا بد ان يوفق في خلق خلطة اعلامية للخروج من نمطية معينة وفقا لتقسيم سقراط ، خطاب اعلامي يستفيد من الثلاثية وبما يتناسب مع الافكار والظواهر والشخصيات مادة النقد والسخرية .
…………………