حَفر في طبقات النصوص: عن ضرورة إنعاش التأويل الأدبي.. د. حاتم الصكَر

شارك مع أصدقائك

Loading

حَفر في طبقات النصوص: عن ضرورة إنعاش التأويل الأدبي
حاتم الصكَر

 

«أنا بلا كرسي
إذ ربما أعني:
أنا لا أجد ما أستقر عليه.
وبذلك يمكن أن يكون الكرسي امرأةً، أو وطناً، أو رأياً».
– عبدالأمير جرص

هل يمكننا الحديث عن تأويل حسنٍ وشامل للنصوص يتبناه القارئ؟
تكون الإجابات النظرية عادة بأن ذلك غير واقعي؛ لأن التأويل فردي ولا نهائي ومفتوح، ومتعدد بحسب القراءات والمنهجيات التي تستخدمه وسيلة للتحليل النصي.
ولا بد لنا أولاً أن نقرر حقيقة الغرض من هذا التذكير بتنشيط أو إنعاش التأويل الأدبي تحديداً، من بين أنواع التأويل الكثيرة والممكنة، وهي أن تلك المهمة تقدم خدمة للنقد الأدبي ذاته من ناحيتين:
– إيجاد طرق جديدة وسبل معرفية تعضد الكتابة النقدية وتنقذها من التجريد والانطباع والأحكام القِيمية العامة، وتحرير الخطاب النقدي الأدبي من الجمود في الأساليب وزوايا النظر وكيفياتها.
– واتخاذ المناهج المحددة قوالب جاهزة لتعبئة الدراسات والمقالات بالتنظير المفرَغ من جدواه، دون تطبيق إجراءاته على النصوص التي يكتسب من خلالها حيويته ومبررات وجوده، وسط الهجمات الصريحة على جدواه ووجوده، والإعلان المباشر مثلاً عن موت النقد الأدبي أو موت الناقد، والتقليل من أهمية العملية النقدية بجانب تقليل – أو نفي – جماليات النص الأدبي.
إن التأويل يتصل في جوهره بالقراءة ونشاط القارئ في إسقاط معرفته وإدراكه على المتون، والحفر في طياتها للعثور على ما يسهم في تشخيص دلالاتها، وعمل شفراتها وصورها ومجازاتها وإيقاعها. وقد تبنّى النقاد العرب في تطبيقاتهم ضرباً من التأويل الدلالي الذي يستند إلى خطوات معرفية أولية؛ للوصول إلى تأويل ذي جدوى في العثور على دلالات النصوص الأدبية، وجوانب شعريتها وبنائها، وما تريد الوصول إليه أثناء قراءتها وفهمها وتفسيرها، واستنتاج دلالاتها، وربطها بما يمكن استحضاره من معان يسكت عنها النص لأسباب متعددة. منها الاختزال اللغوي والبنائي، والمساحة المتاحة للقول في النص الشعري خاصة، ومتطلبات إيقاعه وإنجاز مهمته الفنية التي تمهد لجماليات القراءة، ومنها التأويل الأدبي الذي يسمح ببناء معاني النص لاستيلاد دلالة تتصل بكلية النص، والمسكوت عنه، والفراغات التي تقتضيها بنية النص وإيقاعه، وتوترات الجملة الشعرية. وبهذا تضاف خطوة أخرى لتدرجات الوصول إلى التأويل، بدءاً بالقراءة فالفهم وبناء النص معنوياً والتفسير ثم التأويل.
إن التأويل الأدبي بما أنه يستند إلى النص وينطلق من بنيته ليس قراءة فنجان تستند إلى انهيارات البن المتبقية في قعر الفنجان وجوانبه، فتكون قراءته عشوائية واعتباطية لا تستند إلى مكوّن عقلي مفهوم ومفسّر، بجانب ما يصحب ذلك من فراسة الاحتيال من ممارسي تلك القراءات، واستبطان حاجة الإنسان لاعتساف غيب مستقبله والبحث عن حلول لمشكلاته وأزماته، حتى بأغرب السبل، وأكثرها مجانية وعدمية، لضعفه وقلة ما بيده من قدرة على إنجاز ما يبغيه، أو يحلم بالحصول عليه في سياق حياته.
إن الحاجة إلى التأويل كفاعلية نقدية وعملية تفاعلية مطلوبة في الغرب أيضاً.
ولما كان التأويل الأدبي مرتبطاً بوجه خاص بنشاط القراءة والتقبل ومستويات التلقي، وبقدرات القارئ المؤوِّل، فإن نظرية التلقي، أو الاستقبال كما تنص ترجمتها الأصلية، تهبنا ما يعزز القول بضرورة اعتماد التأويل الأدبي على وثيقة أو عقد قراءة، وتوقعات لتلبية آفاق انتظار المتلقين، وذخيرتهم المعرفية، وخبرتهم الجمالية في النوع الذي يستخدمون إجراءاتهم في قراءته وتأويله، والعودة إلى فرضيات المنهج وكتابات أعلامه فولفانغ آيزر وهانز روبرت ياوس وسواهما، لتأكيد بعض ما يلزم في التأويل الأدبي من عُدّة، وما يمكن أن تواجه المؤوِّل من تحديات واحتمالات، لاسيما وأن التأويل مرتبط اصلاً بتفسير الغامض.
يذهب ياوس في كتابه «جدلية التلقي – من أجل تأويل جديد للنص الأدبي» إلى أن جمالية التلقي هي دعوة إلى تأويل للعمل الأدبي (يروم استجلاء سمات التفرد والإبداع فيه، ونقيضيهما: الاتباع والابتذال… بتحديد وقعِه وشدة أثره في القراء والنقاد من خلال فحص ردود أفعالهم وخطاباتهم). وبذلك ينقل ياوس التأويل من نقد مجرد للنص إلى نقد نصي متعين، يتم من خلال تلقيه وبيان وقعه وأثره في تشكيل الخطابات، والبحث عن فنية النص المتمثلة عنده في التفرد والإبداع. وكلاهما يدعوان للخلق والابتكار، وعدم تكرار التأويلات والقراءات السابقة. وهنا يلتقي مع مقولة لآيزر تكمل رؤيته حول دلالة العمل التي لا يراها (في المعنى المغلق داخل النص، بل في أن هذا المعنى يُخرِج ما كان مغلقاً في داخلنا.. لذا فكل نص يشكل قارئه).
ويرى أن مهمة المؤول ينبغي أن تكون إيضاح المعاني الكامنة في نص من النصوص (ألا يقصر نفسه على معنى واحد. ومن الواضح أن المعنى الكامن الكلي لا يستوفى في عملية القراءة). ويرفض قراءة المعنى الواحد لأن هدفها الوحيد هو (توصيل ما كان بمثابة المعنى الموضوعي القابل للتعريف بالنسبة للنص).
ومن الطريف أن نظرية الاستقبال وجمالياته التي تأسست في مدرسة كونستانس بأيدي ياوس وآيزر، وطلبتهما من بعد، قد تعرضت هي ذاتها للتأويل الكلاسيكي الذي رفضاه في نظريتهما. وكانت حجج رافضي التسمية، وبعبارات ياوس الساخرة (إن الاستقبال أنسب بالإدارة الفندقية منها إلى الأدب).
وفي تاريخ التأويل في تراثنا وقائع تتقاطع مع رأي المعنى الواحد الذي أشاعه الجيل الثاني من المفسرين الذين فهموا التحذير من فتنة التأويل التي وردت في الآية أنها أي الفتنة التأويلية، باب من أبواب التحريف المعنوي وصرف اللفظ عن معناه الصحيح. وهو نظير التحريف اللفظي الذي يعني تغيير الكلام الإلهي لفظاً ومعنى. وهو ما رفضه الفلاسفة والنقاد الأدبيون، لا سيما حين شاع التخويف من التأويل، وصدرت كتب في ذلك، ومنها رسالة لابن قدامة المقدسي بعنوان «ذمّ التأويل». ووضع فيها تصنيفين للناس: راسخين وزائفين. والمؤولون هم من الصنف الثاني برأيه. وامتد الخلاف من موضوع الآيات المتشابهات التي يتوخاها ذوو (التأويل المنحرف)، إلى قضية الصفات الإلهية كما اختلف حولها علماء الكلام.
ومن المرفوضات أيضاً تأويل اليد بمعنى القدرة، والكرسي بمعنى الاستواء. وذلك في نونية ابن القيّم الجوزية يذكر فيها رفضه التأويل وتحريمه. حتى أسمى المجاز (الطاغوت)، لأنه يسمح بقراءات متعددة وتأويلات متنوعة، نظراً لطبيعة المجاز البلاغية، واعتماده التشبيه والاستعارة والخيال.
لقد نوقشت تلك الآراء وردّ عليها المتكلمون والمشتغلون في الفلسفة. لكن مقولاتها شاعت ويتم الاستشهاد بها، حتى تمكنت القراءات النقدية والطروحات الفلسفية تعديل المنظور القرائي لها.
وتذكرنا كتب ذم المجاز مثلاً عند العرب بما كتبته سوزان سونتاغ في القراءات الغربية، حيث بدأت برفض التأويل المفرط أو الفائق، ثم انتهت بالتشكيك بالتأويل كله وهو ما أشار إليه آيزر مستشهدا بقولها عن الرسم التجريدي (هو محاولة ألا يكون هناك مضمون بالمعنى الشائع. وبما أنه ليس هناك مضمون فلا يمكن أن يكون هناك تأويل).
وكخلاصة لهذا التمهيد حول مرجعيات التأويل، وتقاطعات فهمه واستخدامه، نرى أن العمل الأدبي والنص يصبحان مجالي التأويل، اعتماداً على النظرية النصية التي لا ترى مستنداتٍ خارجه يُعتد بها في التأويل.
وأن نتجاوز الإغراق الفلسفي كمرحلة ربما أصبحت تقليدية في التأويلية، كحركة وديناميكية متحولة، والتأويل كفعل تلق وقراءة.
ولا غرابة أن المنهجيات والنظريات الأدبية أخذت من الفلسفة أسسها الجمالية دون إغراق فيها. كما نقترح باباً لتأويل التأويل ذاته. وقد قدمنا بفقرات للشاعر العراقي الراحل عبدالأمير جرص يجرب فيها أن يقدم لقارئه مقترحات حول بيته الأول تضمن احتمالات متروكة لفاعلية قراءة المتلقيين، وما يتوفر من احتمالات دلالية ممكنة. ولنا في الشعر العربي الموروث خاصة ما يتيح لنا ممارسة التأويل الأدبي واقتراح قراءات للمعنى والدلالة تظل مفتوحة للنظر والتعديل والنقاش. ذكرت منها في سياق سابق مفهومي الكرم والشرف كما يشيعان في قراءة بيتي المتنبي:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى/ حتى تراق على جوانبه الدمُ
وقوله: إذا أنت اكرمت الكريم ملكته/ وإن أنت أكرمت الكريم تمردا
فالتأويل الجمعي الشائع ظل يؤولهما بكونهما يتحدثان عن الشرف المرتبط بالعِرض والكرامة المهدورة، مع أنه يقرر صفة العلو في نسب الأرومة للممدوح. والكرم في البيت الآخر يؤول جمعياً بتقديم معونة أو إكرام مادي أو فضل، لآخر يفي مقابله أو يتمرد عليه بناء على صفاته وخُلقه. وليس المكرم هنا العطاء لأن لا معنى أن يُعطى المال لكريم، أي مغتن عن المال.
ذلك ما ليس في قصد الشاعر بل يسوق حكمة فيها تقرير ومباشرة. وعلى عكس ذلك ممكن لقراءة تأويلية تحفر في طيات أو طبقات نصوص المتنبي الحربية أن ترى فيه نفسا سلمياً، يُستدل به عند تشغيل طاقة التأويل وتقليب المعاني المحتملة، كوصفه لفتح سيف الدولة لقلعة الحدث حين قال:
وكان بها مثل الجنون فأصبحت
ومن جثث القتلى عليها تمائمُ
سقتْها الغَمام الغرّ قبل نزوله
فلما دنا منها سقتها الجماجمُ
فالتأويل يرشّح في أحد المقترحات أن يكون القصد هنا تبشيع صورة الحرب، إذا ما وازَنّا بين صدر البيت: سقتْها الغمام الغرّ مطراً يغسلها قبل نزول سيف الدولة بها محارباً. ثم سقياها بالجماجم التي تناثرت فوقها بعد دخول سيف الدولة وجيشه إليها.
ويمكننا أيضا استقصاء أنواعٍ من التأويل الجمعي أو الفردي، كالتأويل الثقافي النسقي، والتأويل الإخباري، والجندري، والحِجاجي، والسياقي أو الحدَثي، والإيديولوجي، وسواها مما وجدنا له أمثلة في النقد الأدبي والقراءات التأويلية.

شارك مع أصدقائك