حاورته الأديبة مريم رعيدي الدويهي
……
عن مظاهر التجديد في أدبه، قال الدويهي :
*في قضيّة المدوّر العامّي أشبه والداً أنجب طفلاً وسمّاه، وأرادوا أن يأخذوه منه
*جادلت المفكّرين والفلاسفة وقفزت على أنواع الشعر، والنثر، ولا أستقرّ على حال
*معاذ الله أن أقول إنّني تفوّقت على المدرسة المهجريّة الأولى
*نشرت رواية كاملة عن أستراليا، هي “الإبحار إلى حافّة الزمن
*لا أعتقد أنّ مذهباً أدبيّاً عرفته البشريّة، لم أكتبه
*أقفز على أنواع الشعر، والنثر، ولا أستقرّ على حال
مقدّمة
يعتبر الأديب الدكتور جميل الدويهي من أهم المجدّدين في الأدب المهجريّ، فإنّه في العديد من أعماله الشعريّة والنثريّة، خرج على المألوف والشائع في الأدب، ووضع لبنة لنهضة مهجريّة ثانية، باعتراف النقّاد والأدباء عامّة. ومن أستراليا، الأرض البعيدة ليس جغرافيّاً فقط، بل ثقافيّاً أيضاً، قام الدويهي بثورة على الجمود والنمطيّة التي كانت سائدة من قبله، وكانت أستراليا قارّة معزولة، ولم يكن أحد يصدّق أن أديباً من هناك، يمكن أن يحدث تغييراً، ويثبت أن الأدب العربي الأسترالي حالة فارقة، وتستحقّ الدراسة والبحث.
تحدّثت إلى الأديب الدويهي، وطرحت عليه مجموعة من الأسئلة، التي قد تسهّل لنا الخوض في كتبه، واكتشاف العلامات التجديديّة والمضيئة في أعماله التي تجاوزت 62 كتاباً، مختلفة الأنواع والأنماط الأدبيّة والفكريّة والتأريخيّة والترجميّة.
– كيف تعرّف التجديد في منجزاتك الأدبيّة المتعدّدة؟.
*- علينا أوّلاً أن نفرّق بين الحداثة والتجديد، فالحداثة هي موضة، صرعة استولت على عقول الكثيرين الذين اندفعوا بوعي، أو من غير وعي إلى ما يعتبرونه خروجاً على المألوف في الأدب. وانصبّت اهتمامات أغلب الحداثيّين على قصيدة النثر، وفتحوا الباب على مصراعيه أمام جحافل لا عدّ لها، لكي تسجّل مواهبها في سجلّ الحداثة، فاختلط الحابل بالنابل. والحداثة إن لم تكن موزونة فكريّاً وفلسفيّاً، وتحتوي على قيم عالية، إنّما هي قشور، فليست الحداثة أن نرتدي الثياب الممزّقة، ونطيل شعورنا، ونواكب كلّ ما يناقض المبادئ السامية، بل ينبغي أن تكون الحداثة مضبوطة بالحكمة والتأنّي، ليبقى الأدب أدباً، ولا يتحوّل إلى فوضى – كما نرى الآن. أمّا التجديد، فيختلف كثيراً، ويمكن أن أسمّيه التحديث تحت سقف المعقول. وفي حالتي، أعتقد أنّني نجحت، فقد نظرت من حولي لأكتشف النواقص في الواقع الثقافيّ، وأضفت من عندي فروعاً لم تكن معروفة من قبل، وظللت تحت سقف القيَم التي تحدّد العلاقات الإنسانيّة. ولكي تعرفي الفرق بين الحداثة والتجديد الذي حقّقته، فقارني بين قصيدة نثريّة لا تنفع لشيء، وبين كتاباتي التي تنظّم المدينة – مدينتي، وتأخذ بيد الإنسان إلى دروب الخير والفضيلة.
–الحقيقة أنّ كتاباتك بحر محيط، ولا أعرف أين أبدأ، وأين أنتهي. حتّى أنّ الدارس لأدبك يحتار في أيّ موضوع يخوض. لكنّك تتحدّث دائماً عن تعدّد الأنواع الذي هو خميرة للتجديد. وهذا ما نريد أن نعرف عنه أكثر.؟
– لقد عدّدت في الأنواع شعراً ونثراً. ومعاذ الله أن أقول إنّني تفوّقت على المدرسة المهجريّة الأولى، فأدباء تلك المرحلة، كانت أنماطهم محدودة، فلم يعرفوا شعر التفعيلة مثلاً. وطبعاً لا ألومهم في ذلك ولا أتّهمهم بالتقصير. فقد كتبوا في الأنواع المعروفة في زمانهم. وفي الأربعينيّات والخمسينيّات – أي بعد انتهاء الرابطة القلميّة، ظهرت مدارس جديدة، واتّجاهات لم تكن موجودة من قبل. وعلى الرغم من أنّني لا أدّعي النبوغ في كلّ ما كتبته، يمكنني أن أحدّد لك سبعة أنواع شعر كتبتها جميعاً، هي العموديّ، والتفعيلة، والشعر المنثور الذي أطلق عليه تسمية “نثر أو شعر”، والمدوّر، والزجل، والتفعيلة العامّيّة، والمدوّر العامّي.
وفي النثر، كتبت الرواية، والقصّة القصيرة، والفكر، والتأريخ، والدراسة النقديّة، وترجمت مجموعة من الكتب. وكلّ ما أذكره لك منشور على موقعي (كتب جميل الدويهي)، لكي لا تكون هناك أيّ مبالغة من قبلي أو أحاديث خرافة، أو ما يسمّى ادّعاء.
–هل تعتبر أنّ ما كتبته من شعر فيه تجديد؟
-*-ليست مهمّتي أن أحكم على نفسي. الذي يهمّني أن أقدم نصّاً مفهوماً يوصِل إلى شيء، وفي الغالب، لست مغرماً بالهذر الكلامي، والمعاني الغامضة. وإذا كان توجّهي نحو القيَم يناقض الحداثة فأنا أقبله. أمّا من حيث تعدّد الأنواع، فاسمحي لي أن أقول إنّه منذ بدء الشعر عند العرب، لم يكتب شاعر واحد مجموع الأنواع التي أكتبها. وكنت رائد الشعر المدوّر في أستراليا، وقصيدتي الأولى من هذا النوع “الصلب ملهاتي ومأساتي” نُشرت في جريدة “صوت المغترب” التي كانت تصدر في سيدني، العدد الصادر في 25 تموز 1991. وفي العام 2014، نشرت أوّل قصيدة شعر مدوّر عامّي بعنوان: بيتك حلو.
؟-هناك إشكاليّة في ريادتك للشعر المدوّر في أستراليا.
* – إذا كانت الإشكاليّة ناجمة عن حسد ونميمة وتجهيل وتغييب، فهذه العناصر تدلّ على ضعف أصحابها، ولا تدلّ على ضعفي. وأذكر أنّني بعدما نشرت قصيدتي “الصلب ملهاتي ومأساتي” تحدّثت إلى أحد “القيّمين” على ما يسمّى الحركة الأدبيّة في أستراليا، فقال لي فوراً: إنّ الشاعر الفلاني كتب هذا النوع قبلك، فمضيت إلى جميع الكتب التي أهداني إيّاها “الشاعر الفلاني”، فلم أجد فيها قصيدة واحدة من هذا النوع. وسألت “الشاعر الفلاني” نفسه عن المدوّر، فأجابني بأنّه لم يكتبه مطلقاً، بل كتب نوعين فقط العموديّ والتفعيلة. وبدا لي بعد تلك الحادثة أنّ هناك من يريدون أن يكونوا ملكيّين أكثر من الملك، أو من يريدون “تشليحي” امتيازاً صنعته بنفسي، وإعطاءه لمن يفضّلونه أو يحبّونه أكثر منّي. ومثل هذه المواقف التمييزيّة أساءت إلى “الأدب”، وأثارت فوضى عجيبة في التصنيف، فإذا الأوّلون آخرون والآخرون أوّلون. وتكرّرت الحادثة أيضاً – وبضراوة، بعد أن نشرت قصيدتي “بيتِك حِلو”، ونشرت معها بياناً يفيد بأنّني أوّل من كتب قصيدة “المدوّر العامّي”، وإذا ثبت لي أنّ قصيدة من هذا النوع كُتبت قبلي، فأنا مستعدّ أن أتراجع عن الريادة. واندلعت معركة من السخف لا مثيل لها، وأخذ المطبخ نفسه يطبخ المكائد، فادّعى أحد الشعراء في لبنان أنّه كتب المدوّر العامّيّ قبلي، ولم يتمكّن من نشر قصيدته كبرهان علميّ لأنّه “نسيَها في البيت”، وراح آخر يرسل رسائل نصّيّة على الهواتف، معلناً أنّني ادّعيت حقّاً ليس لي، ثمّ أرسل إليّ أحد الشعراء في لبنان مقطعين صغيرين من قصيدتين، اعتمد فيهما الشاعر على ظاهرة التدوير، لكنّ القصيدتين غير مدوّرتين، وجاء التدوير فيهما بنسبة قليلة. وعلى الرغم من عدم اقتناعي بأنّ “قصيدة” كاملة كُتبت قبلي من هذا النوع، فقد أصدرت بياناً تراجعت فيه – بشجاعة – عن الريادة. فهذه القضيّة لا تضيف شيئاً إلى منجزاتي الضخمة التي تتوالى ولا تخفى على أحد. ولكنّ ريادتي تثبت في حالتين:
الريادة في أستراليا بدون منازع. فلا أحد قبلي ولا بعدي في هذه القارّة كتب هذا النوع، لا فصيحاً ولا عامّيّاً.
والريادة في عدد القصائد التي كتبتها من المدوّر العامّي: 34 قصيدة، تضاف إليها قصيدة نشرتها مؤخّراً بعنوان “عا بُرج المدينه هالصوَر”. وهذا العدد لم يكتبه كلّ شعراء لبنان والمهاجر مجتمعين.
إنّ مشكلتي مع “المدوّر العامّي” الذي أطلقت عليه هذا الاسم بنفسي، تشبه مشكلة والد أنجب طفلاً، وسمّاه، وربّاه. ثمّ جاء آخرون وادّعوا ملكيّة الطفل وهم لا يعرفون اسمه! وقد كلفني التراجع عن الريادة، أن أتلفت مجموعتي “عندي حنين البحر للشط البعيد” (2017) التي ذكرت في مقدّمتها أنّني “رائد المدوّر العامّيّ”، وطبعتها من جديد بعد أن حذفت هذه المعلومة.
–أنت من أدباء قلّة عاشوا في المغتربات، وتناولوا في أعمالهم المجتمع الجديد. هل المدرسة الأولى فعلت ذلك؟.
* – حسب علمي، لا. ربّما كُتبت نصوص قليلة، تطرّق فيها أصحابها إلى بعض المظاهر المحلّيّة في بلدان الاغتراب. أمّا أنا، فنشرت رواية كاملة عن أستراليا، هي “الإبحار إلى حافّة الزمن”، وأصدرتها باللغتين العربيّة والإنكليزيّة، وحشدت فيها مجموعة كبيرة من الحقائق والوقائع من المجتمع الأستراليّ، فبدوت وكأنّني أديب أستراليّ، ليس فيه شيء من اللبنانيّة، ما عدا أنّ البطل ريتشارد في الرواية من أصل لبنانيّ. وهذه الرواية تختلف موضوعاً عن جميع رواياتي الأخرى “الذئب والبحيرة”، “طائر الهامة”، “حدث في أيّام الجوع”، “بلطجي بيروت”، “ابن الصبحا”، “هيلانة صور”، “لكي لا تغيب الشمس – قدموس وهارمونيا”… فهذه كلّها تعالج قضايا لا علاقة لها بالمغترب الأستراليّ… وقد تنامى اهتمامي بالثقافة الأستراليّة، فكتبت مجموعة قصص قصيرة من أساطير السكّان الأصليّين، بعنوان “حكايات جدّة أبورجينيّة”، وكتاباً آخر عن قصص المستوطنين البيض الأوائل، بعنوان “أصوات من تيرا أوستراليس”. وكانت قمّة اهتمامي بالأدب الأستراليّ، عندما نشرت دراسة أكاديميّة بعنوان “التأثيرات الشرقيّة والأسطوريّة في بواكير الشعراء الأستراليّين – نماذج هاربر، غوردون وكيندال”، وترجَم الكتاب فور صدوره الدكتور إميل شدياق إلى الإنكليزيّة.
وهذه الكتب الأربعة – الإبحار إلى حافّة الزمن، حكايات جدّة أبورجينيّة، أصوات من تيرا أوستراليس، التأثيرات الشرقيّة والأسطوريّة في بواكير الشعراء الأستراليّين- تمثّل بحدّ ذاتها تفرّداً غير مسبوق في أدب المهاجر، فلم يسبق لأيّ أديب مهجريّ، لا في المدرسة الأولى ولا في الثانية، أن كتب هذا الكم من الكتب التي تعالج مواضيع محلّيّة، إضافة إلى مقالات عن الأدب والتراث الأستراليَّين، وترجمات لنصوص أستراليّة تظهر تباعاً في مجلّة “أفكار اغترابيّة – أدب وثقافة”. وإذا كان الحنين إلى الوطن قد طغى على كتابات المهجريّين الأوائل، فإنّني لا أنكر أنّه حالة موجودة عندي، لكنّني لا أستسلم لها، وأنظر من حولي فأرى مجتمعاً جديداً أعيش فيه، وعليّ أن اسخّر قلمي – على قدر ما هو مستطاع- من أجله.
؟-أعمالك الفكريّة تدلّ عليك وعلى المدينة التي ترغب في تأسيسها. فحدّثنا عن تلك الأعمال.
*-صبغتْ الأعمال الفكريّة مشروعي “أفكار اغترابيّة للأدب الراقي”، وأسبغتْ عليه قيمة حضاريّة، وفرضت الكتب الفكريّة المتتاليّة جوّاً جديداً لم يكن معهوداً من قبل، وأنتجت صدمة قد تطول تردّداتها. فقد كان الأدب في أستراليا يقوم على الزجل والتفعيلة العامّيّة، والشعر العموديّ والتفعيليّ، والشعر المنثور. ولا أنكر أنّ هناك محاولات للخروج من دائرة الشعر، لكنّها لم تكن ذات صدى كبير. وعندما أنشأت “أفكار اغترابيّة” كان النثر أحد أعمدة المشروع، بفروعه: القصّة القصيرة، الرواية (نوفيلا)، التأريخ، البحث الأكاديميّ، وفي القمّة الفكر. لماذا أقول في القمّة؟ لأنّكِ لو نظرت إلى كتابات جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وأمين الريحاني، لوجدت أنّ القيم الفكريّة طاغية على تلك الكتابات. وقد تفوّق أدباء المهجر الشماليّ على نظرائهم في أميركا اللاتينيّة بالمحتوى الفكريّ. والشعر المهجريّ في نظري هو أقلّ أهمّيّة من الفكر. ولا ينقصنا شيء في أستراليا أن نكون روّاداً في نشر القيم الفكريّة، طالما نحن نتعلّم ونأخذ من السابقين، ونواكب تطوّر العالم من حولنا، والثورات الصناعيّة والإلكترونيّة، ووسائل التواصل الاجتماعيّ، ونغربل ما يقع تحت أبصارنا، ومايجب أن نمارسه أو نرفضه في الحياة.
نحن في أمسّ الحاجة الآن إلى توعية الناس، فيما تسود مفاهيم غير طبيعيّة، لم تكن سائدة في عهد جبران ونعيمة. فكلّ شيء الآن يتّجه إلى التدمير الممنهج للأخلاق والمبادئ السامية، فأين هم شعراؤنا من كلّ ذلك؟ وهل يستطيع الشعر كوعاء أن يحتوي هذا الخضمّ الهائل من الإشكاليّات الحضارّية، والتهديدات المباشرة للدين والأخلاق والرؤى النبيلة؟
كان “في معبد الروح” أوّل أعمالي الفكريّة، ويحتوي على عظات في مواضيع وجوديّة وإنسانيّة عابرة للحدود. وظنّ الكثيرون أنّ هذا الكتاب لن يتكرّر، أو كما يقولون “فلتة شوط”، لكنّني ترجمته إلى الانكليزيّة في العام التالي، وأصدرت توأمَه “تأمّلات من صفاء الروح”، وترجمته أيضاً إلى الانكليزيّة… وكرّت السبحة: “رجل يرتدي عشب الأرض”، “هكذا حدّثتني الروح”، “بلاد القصرين”، “أفكار خارج العزلة”، “في ظلال الروح”، “جريحاً أغنّي كي لا يطفئوا الشمس”، “المتقدّم في النور”، رؤى من أجل مدينة بعيدة”. وترجمت نصوصاً فلسفيّة من بعض كتبي إلى الانكليزيّة بعنوان “نصوص فلسفيّة”، كما ترجمتْ الأديبتان آمنة ناصر وسيلفيا يوسف الخوري نصوصاً إلى الفرنسيّة… والعدد لا يهمّ في اعتقادي، فما يهمّني المواضيع التي طرحتها، وناقشتها، وخرجت بخلاصات أساسيّة. وقد جادلت المفكّرين والفلاسفة، مثل أفلاطون، وأرسطو، وجبران، ونعيمة، والريحاني، وغوته، وروسو، ونيتشه، وشوبنهاور… ولست هنا في معرض الخوض في التفاصيل لأنّ الكمّيّة ضخمة، والقيَم كثيرة جدّاً، ويمكن لأيّ مطّلع استخلاصها، ليكوّن فكرة عن المدينة التي أريدها، وأسعى إليها.
–هناك ظاهرة مهمّة في كتبك الفكريّة، هي تسخيرك للقصّة القصيرة التي تملك مقوّماتها، لنشر أفكارك بطريقة جاذبة ومحبّبة. هل تعتبر هذا تجديداً أيضاً؟
-*-بالتأكيد. لقد سبقني جبران خليل جبران إلى القصّة القصيرة التي تحمل مضامين فكريّة، والريحاني فعل ذلك بنسبة أقلّ. أمّا أنا فقد جعلت هذه الطريقة خطّاً مألوفاً، منذ “في معبد الروح” (2015)، حتّى “رؤى من أجل مدينة بعيدة” (2024)، أحاول أن أوصل رسالتي بطريقتين: الوعظ والقصّ. والأوّل قد يُشعر المتلقّي بالضجر، لكنّ الثاني ممتع، وله نكهة خاصّة جاذبة. الأقصوصة هنا بالتحديد ليست مادّة للرواية، بل وراءها مجموعة من الأسس البنائيّة التي أحرص على تظهيرها. وربّما يستهلك الحديث عن هذه الناحية بالذات أكبر قدر ممكن من الكلام، لو سمحت لي. فلنأخذ مثلاً أقصوصة نشرتها قبل أيّام بعنوان “الجنديّ والغراب”، فهي كناية عن حوار بين جنديّ على شفير الموت في الصحراء، وغراب يمثّل الشؤم في عيون البشر. هذا الحوار ليس للترفيه، بل لإظهار فكرة السلام الذي أؤمن به لإنقاذ البشريّة ممّا تعانيه. وقد أكون كرّرت العديد من الأسس التي أؤمن بها، لكن لا بأس في ذلك خصوصاً في الفكر، لكن في كلّ مرّة أتناول الموضوع من زاوية مختلفة.
وقد يكون مفيداً أن أقدّم أمثلة عن تحويلي للأقصوصة إلى عربة نقل أحمل عليها مضامين فكريّة، بعيداً عن الكلام المباشر. ففي كتاب “بلاد القصرين” كتبت نصّاً بعنوان “عندما غضبت نفسي” (ص 12)، بيّنت فيه التوازن بين الروح والجسد، فتحدثت عن رجل كانت عنده آلة موسيقيّة أراد أن يبيعها، فأخذها إلى متجر للتُّحف القديمة، وعرضها على صاحبه، فسأله صاحب المتجر: هل تريد أن تبيعها من غير الموسيقى التي في داخلها؟
فأجاب الرجل: نعم، أبيعها وحدها.
فقال صاحب المتجر: أعطيك ديناراً واحداً. – وإذا أردت أن أبيع الموسيقى وحدها؟ – أعطيك ديناراً واحداً أيضاً.
عند ذلك حكّ الرجل رأسه، وقال: أبيعهما معاً، فكم تدفع لي؟
فقال له التاجر: أدفع لك مئتي دينار.
هذه الحواريّة تؤكّد على تناغم الروح (النغم)، والجسد (القصبة)، فأحدهما من غير الآخر زهيد، أمّا وجودهما معاً فعظيم الأهمّيّة.
في كتاب “أفكار خارج العزلة” ص 8، هناك أقصوصة بعنوان “العابدون لأنفسهم”، تتصدّى للملحدين، وتثبت لهم أنّهم لا يستطيعون تقديم برهان على زعمهم بعدم وجود الله. وفي الكتاب نفسه، ص 71، قصّة قصيرة بعنوان “خطيئتي” تؤكّد أنّ الإنسان لا يخلو من الخطيئة مهما اجتهد وأراد أن يكون صالحاً ونقيّاً. وفي كتاب “هكذا حدّثتني الروح”، ص 46، أقصوصة بعنوان “مؤمن وكافر” ترفض اتّهام إنسان بالكفر إذا كان جاهلاً للديانات. وفي “رجل يرتدي عشب الأرض”، ص 36، واحدة من أجمل القصص القصيرة التي كتبتها في حياتي، بعنوان “امرأة تعرفني”، أبرهن فيها التوازن بين الليل والنهار، فهما متكاملان: النهار ظلام يختفي، والليل نور يخبو.
وفي كتاب “تأمّلات من صفاء الروح” أقصوصة بعنوان “العباقرة الأربعة”، ص 63، أجادل فيها جبران خليل جبران، ونيتشه، وغوته، وأمين الريحاني، في قضايا يطرحونها، وأبرهن خطأها من خلال أمثلة… وهكذا أستخدم الأقصوصة لتحقيق غايات فكريّة أصبو إليها.
–المذاهب الأدبيّة، أين أنت منها؟ وكيف أضفت في هذا المجال؟
*-لا أعتقد أنّ مذهباً أدبيّاً عرفته البشريّة، لم أكتبه، فالكلاسيكيّة موجودة في ثلاث روايات لي: “ابن الصبحا”، “هيلانة صور”، و”لكي لا تغيب الشمس – قدموس وهارمونيا”، والرومنطيقيّة تنبض في كثير من قصائدي، والواقعيّة في روايات “الذئب والبحيرة”، و”حدث في أيّام الجوع”، و”بلطجي بيروت”، وفي العشرات من قصصي القصيرة. وقد مزجت بين الواقعيّة والرمزيّة في قصصي القصيرة أيضاً، وهو ما يُعرف بالرمزيّة- الواقعيّة، بحيث لا تكون الرمزيّة غامضة، بل تؤدّي إلى مفهوم واقعيّ. وقد تتعجّبين إذا قلت إنّني استخدمت الدادائيّة، خصوصاً في “حاولت أن أتبع النهر… النهر لا يذهب إلى مكان” وهو مجموعة من الشعر المنثور. ولا أخجل من الدادائيّة لأنّني لست مثل الذين أطلقوها في أوروبا في الربع الأول من القرن العشرين، فلست أدخّن، ولا أشرب الكحول، ولا أتعاطى أيّ مخدّر، وأحترم القيم التي تربّيت عليها، والدادائيّة ليست حكراً على المهلوِسين. ومن النصوص الدادائيّة، من كتاب “رجل يرتدي عشب الأرض” ص 34، نصّ بعنوان “أنا أكتب وهم يتكلّمون”، أقول فيه:
“عَليّ أن أضيء لهم، أن أكون بابور كاز، شاحنة نقل، أحملهم على ظهري، صعوداً وهبوطاً. كلّما سعلوا أمجّدهم، كلّما ناموا وقاموا إلى الصلاة. كلّما تلعثموا أصفّق لهم. أعمل مُصفّقاً بأجْر معقول.
يسيطرون عليّ بالسحر والتنجيم. يتمتمون بكلمات لا أفهمها.نسيت فقه اللغة. نسيت أنّني تعلّمت اللغة. كتابتي باطون، أعمدة من خشب، أصباغ للأحذية.
يحتجزونني في علبة، يحرقونني بالأسيد. يضعون عليّ شروطاً لآكل من أرغفتهم، لكنَّني آكل الأرغفة وألتهم الشروط.
غير قادر على الصمت. ضفدعة في بركة. محرّك ديزل لا يتوقّف عن الهدير. الريح قامتي، والبرق من معجزاتي
أقول للأعمى أعمى في عينه. أقول للبحر: أنا أنزلتك عن يدي طفلاً
وكبرتَ في غمضة عين. لو علِمت أنّك ستصبح مشاغباً، كنت أعطيتك
لساحر. كنت أنقذتك من المدّ والجزر. كنت علّقتك في خزانتي وارتديتك في ليلة العيد…”
هذه اللغة بعيدة كلّ البعد عن أجواء الأدب المهجريّ. ولو قرأتُ هذا النصّ لأحد، لاعتبره نوعاً من التخريف، والمشكلة الأعمق هي أنّ مشتغلين بالأدب هنا، لا يعرفون أنّ هذا النوع موجود.
أمّا السورياليّة، فهي وريثة الدادائيّة، ولم تنجُ منّي أيضاً. ففي كتاب “صمت الغابة”، ص 81، أقصوصة بعوان “الخير فقط” أصوّر فيها أنّني في مصعد، والمصعد يخترق سقف البناية، ويحطّ على الغيم، وهناك أواجه امرأة، ويدور حوار بيني وبينها… حوار فلسفي عميق عن الخير والشرّ.
وفي كتاب “في ظلال الروح” أقصوصة أخرى بعنوان “جنون”، ص 17، هي قمّة سورياليّتي، ولو جمعتِ المفارقات الغريبة التي فيها، لصلحت أن تكون موضوعاً لرسم فوضويّ، يعبّر عن جنون عالم بأكمله.
وفي الكتاب نفسه، نصّ آخر مشابه، ص 52، بعنوان “مشاهد من أحلام غير عاديّة”. وعنوانه يكفي ليدلّ على أنّه سورياليّ.
-هذا التنوّع مرهق لك بكلّ تأكيد؟
*- بالطبع هو مرهق. فما أهنأ الذي يكتب نوعاً واحداً! أنا أقفز على أنواع الشعر، والنثر، ولا أستقرّ على حال. ولا يمضي يوم لا أكتب فيه. وما يتعبني أكثر هو أنّ كلّ نوع يتطلّب لغة مختلفة، فالزجل يختلف لغة عن لغة الشعر المنثور، والمدوّر يختلف عنهما، ولغة الواقعيّة تختلف عن الرمزيّة، وهذه تختلف عن السورياليّة. ولكن القلائل فقط يشعرون بمقدار الصعوبة، أو تعمّدوا بنارها. وما أسهل القول إنّ فلاناً مبدع. وعندما تقتربين من أعماله تجدينها أقلّ من عادية، لكنّ المجد لمن لا يكتبون.
12 – 11 – 2024