الصف الأول الإعدادي.،بعد شهرين من بدء الدراسة، عدت إلى الوطن مع والدتي التي عاشت سنوات بعيدة عن أرضنا. رحلة التقديم للمدرسة كانت معقدة وصعبة، لكنها وجدت بصيص أمل في وجه ناظرة المدرسة الطيبة، التي أظهرت سعادة كبيرة بوجودي خاصة حين شاهدت مجموعي المرتفع بالمرحلة الابتدائية وتعهدت بمعاملتي كابنتها. اطمأنّت والدتي لهذه الوعود، ولكن للأسف، انضمامي إلى هذه المدرسة المتواضعة كان بداية لأكثر الفترات صعوبة في حياتي.
سرعان ما وجدت نفسي في بيئة غريبة من كل النواحي: اجتماعيًا، دراسيًا، وتنظيميًا. الزميلات يراقبنني بتساؤلات عن أشيائي المختلفة، يتحدثن عن حقيبتي وأدواتي المدرسية غير المعتادة، ويسألن عن معنى كلمة إنجلترا التي كنت لها وكلمة “دادى” الذي كنت أذكره كثيرا لغيابه. هذا زاد الأمر سوءًا عندما نهاني أستاذ اللغة العربية أمام الجميع عن استخدام هذه الكلمة، بحجة أننا “عرب ومسلمون” !!!!شعرت بالإحراج الشديد، وأجبرت نفسي على التخلّي عن الكلمة واستبدالها بـ”أبي” أو “بابا”.
مع الوقت، تفاقمت المواقف. كنتُ دائمًا هادئة وخجولة، مما أثار تعاطف المعلمين، ولكن ذلك أثار غيرة الزميلات، فتقدمن بشكوى حول وجود تمييز في المعاملة. لم أفهم سبب استدعائي، لكن رأيت أساتذتي يدافعون عني أمام الناظرة، مبررين تصرفهم بهدوئي وتفوّقي. كنت صغيرة ولم أملك سوى الانكفاء على كتبي هربًا من هذا العالم المربك.
لقاء الصديقة
وسط تلك العزلة، ظهرت هي، فتاة حديثة الانتقال مثلما كنت، تحمل معها هدوءًا وسحرًا مختلفًا. كان مجتمعها قريبًا من مجتمعي، لكنها أظهرت لطفًا وحنانًا افتقدته. تقاربت أرواحنا، وأصبحنا نتشارك الفُسحة: نتسامر، نتحدث عن الأهل والدراسة والمسلسلات، ننسج أحلام المستقبل بأمل ممزوج ببراءة الأطفال. شعرت لأول مرة بالاطمئنان.
دامت صداقتنا لشهرين جميلين حتى جاءني أحد الأصوات الحاقدة قائلًا: “صديقتك كاذبة، وتسكن وحدها!”. رفضت التصديق وواجهتها. انفجرت باكية ولم تجب. اكتشفت لاحقًا الحقيقة: تعيش مع أختيها بعد فقد والديها في حادث، ترعاهن العائلة من بعيد. كانت كلماتها عن والدتها ووالدها حيلًا نفسية لتعويض ألمها.
أصابني الحزن والغضب والخذلان. حاولت أن أكون قريبة، لكن الفجوة اتسعت، وصداقتنا انتهت برحيلها عن المدرسة. بكيتها أيامًا، ثم دفنت حنيني بين دفاتري، حتى صارت ذكرى مؤلمة.
كبرت وفهمت لاحقًا كيف يعجز الإنسان أحيانًا عن مواجهة الألم، وكيف يدفعه عقله لإنكار الواقع أو تزييفه للاحتمال. قد يصبح الإنكار ملاذًا، والنسيان دواءً مؤقتًا، أو البحث عن أمل ولو وهمي سبيلًا للتعايش.
أدركت متأخرة أن صداقتها كانت صرخة استغاثة مقنعة بالفرح.
اليوم، أشارككم هذه القصة المؤلمة لأذكّر نفسي وغيري بأن الإنسانية تقتضي تفهّم الآخر. وهذا يمكن تطبيقه بشكل أوسع
هناك شعوب حولنا مرت بمآسٍ تفوق الخيال: فقدت أحبّاءها وممتلكاتها وعاشت شهورًا في رعب وكوارث. هؤلاء يحاولون النهوض بكل وسيلة، بالإيمان واليقين في الله سبحانه وتعالى ،بالإنكار لما يؤلمهم أو التمسك بالأمل.
علينا واجب دعمهم بحب ورحمة، دون مواجهتهم بآلامهم أو تجريحهم.
نحمدالله أنا لنا وطن آمن، جيش يحميه، ومجتمع يدعمه. لنكن سندًا لمن حولنا، ولندعو للعالم بالسلام والخير.
صباحكم ورد وياسمين