” عيد ميلاد ميت … ! ” لِـمـا نـحـتـفـلُ بـِهِ ؟
رواية لـ احمد طايل
ســيــد جــمــعــه ناقد تشكيلي واديب
قدم الروائي والكاتب احمد طايل روايـتة ” عيد ميلاد ميت ” بهذه الفقرة : ” هناك من البشر من يظل حيا لعقود بعيدة المدى، المواقف الجادة والمؤثرة هي أساس البقاء، فلنبحث عما يجعلنا أحياء .. هناك أحياء فوق الأرض أموات، وهناك أموات تحت الأرض أحياء ” ***** .. نحنُ بصدد عمل روائي مُتميز للكاتب الذي نكادُ نقول أن لديه فرطَ إهتمامٍ بإلإنسان كونهِ يُمثلُ كُتلةٌ بشرية منحوتةٍ من البيئة ناطقٌ ومعبرٌعنها مٌتأثراً ومؤثراً تأثير كبيراً و واضحاً فيها بل ودالاً عليهِا ، حيثُ لا خِلافٍ على أن الإنسان إبن بيئتهِ بل وعنواناً لها ، والكاتب هنا في – روايتهِ هذه – بوعيٍ منهُ أو بدون تتسمُ كما في أغلب رواياتهِ ؛ بشغفهِ بالبيئة وخاصةٍ الريفية ؛ يعرضُ وينتقي من خلالِها أبرز القيم التي تصنع وتصوغ هوية المواطن المصري بالدرجةِ الأولي والإنسان بصفةٍ عامة لكنهُ في مهارة حرفية في البناء السردي للرواية يُقدمُ ذلك من خلال النماذج البشرية المختلفة ذات الإختلاف البين والمُتعارض والواضح والصريح كما هُم ؛ فهم الذين يصنعون ( الحدث ) وهو بحرفيتهِ يُعيد صياغتهِ وترتيبهِ وتركماته ونتائجهِ فتبدو لنا المشاهد آخذةٌ من العمقِ ما يؤكدُها ويُثري المعمار البنائي للرواية فتبدو لنا بصورةٍ تلقائية أهمية ” القيمة ” المتوارثة التي تدعم ما نبحثٌ عنهُ و نحنُ نركضُ فوق السطورِ وبين الصفحاتِ عبر تقنية السرد الحكائي المبني والمطوعُ له الكلمة والعبارة العربية السليمة لغوياً وأدبياً وفق عناصر السرد القصصي من سهولة اللفظ ودقتهِ والإختيار الصحيح من بين المُترادفاتٍ العديدة ؛ وأيضا بعيداً عن الإسترسال المُخل مع عدم إغفال عنصرَ التشويق الكامن في سياق المشهد والمُمهد لِما يليهِ . الرواية تتعدد فيها الشخصيات التي تُحركُ الأحداثُ ، والأحداثُ ايضا تُحركها وتجعلها نابضةٌ بالحياة بتدفقات ومواقف يُصيِغُها الكاتب بِمهارةٍ في إتجاه البناء التصاعدي لِدراما وديناميكية تُضاعفُ عنصرَ التشويقِ والجذب لِما وراء الحدثِ أو الموقفِ ؛ إن تعدد الشخصياتِ هنا و أحياناً تشابه بَعضِها في في حملِ ونقلِ القيم السامية وتوريثها ورفض السيئ منها وإقصائِها والبعد عنها ونبذها يجعلنا على جادة الكاتب في إيجاد ” سيميائية ” جينية تنقلها و تتوارثها الأجيال وتزودُ عنها وسط أعاصير القيم الغريبة التي تتدفق علي البيئة بفعل تقنيات العصر او حركة التنقل والترحالِ بين أرجاء العالم الذي صار كقريةٍ صغيرة أبواب مُدنها نوافذها مُشرعةٍ ومفتوحةٍ لموجات عاداتٍ وتقاليد تتدفق وتتحرك بِعنفٍ لإحداثِ تغيير يُسلسل أو يَضمُ العالم كلهِ في سلسلةٍ ؛ وفق عولمةٍ طاغية تفطنُ أو لا تفطنُ إلى التفاوات والإختلاف الواسع والشاسع بين ثقافات و موروثات الدول شمالها عن جنوبها وشرقها عن غربها ؛ ذلك كُلهِ أدركهُ كاتبنا وعكف كما قلنا إلي تأصيل الهوية والثقافة المحلية من خلال شخصيات روايته بإستخدام عنصر ” الزماكانية ” في ربط الأحداثِ ورسمِ الشخصياتِ . فقد إنتقل بنا بسلاسةٍ ويُسر ما بين المدن القاهرة ، الأسكندرية وبعض عواصم ومدن محافظات مصر وأيضا الدول الغربية كا إيطاليا واليونا ن وألمانيا وهولاندا وانجلترا بقدر ما غاص في قُرى وريف مصر البِكر وعَرج بعمقٍ وصفاً وتفاصيلاً للأخلاق والسلوكيات اليومية للأفراد وكذلك العادات والتقاليد المتعددة والمختلفة فيها مثل علامات التعبير عن الفرح في الزواج أو المشاطرةِ في الأحزان وغير ذلك من المناسبات الاجتماعية التي تتسم بمراسم و إعدادات مُختلفة لإحيائها كا الولادة والطهور والخِطبة وليلة الزفاف وما يسبقها في ليلة الحِنةِ ؛ وأيضا المناسبات والدينية والأعياد ناهيك عن مجتمع القرية الذي يلجأ للتحكيم وفض المنازعاتِ بعيداً عن السلطات الحكومية .. الخ ذلك من ملامح البيئة القروية المصرية التي تُصدر ذلك لمجتمع المدينة كوقايةٍ ودرءٍ لأحماض العصر التي تتغول و تُذيب صلابة الصمود أمام التأكلاتِ التي تلحقُ بالهويةِ المصرية ، الكاتب يستغرق في ذلك بعيونٍ راصدةٍ العلل والتآكل و مُحصناً لها بلأسبابِ المانعةِ لقسوةٍ و مُعاناةِ أحماضِ هذا العصر السالبة والغير متوافقة مع الرقي الحضاري المُفترض . إن ” محمد العيسوي وزوجتيه بثينة ، و تحية ؛ وأولادهِ منها ” ، و ” محفوظ العربي وعائلته ” يُمثلان نموذجين جيدين أبدع الكاتب في تعقب وعرض مسيرتهما الحياتية الغنية ؛ والثرية بعديد أيضا من الشخصيات التي تدور في فلكهما ومن خلال ذلك نتعرف و بِدقةِ على الكثير مما يدعم من خلال الإحداث والمواقف ما يدعمُ البناء المعماري للرواية و ” السيميائية ” ذات الدلالات القوية والمُجسدة للموروث البيئي القِيميّ والحضاري ؛ وذلك يُحسبُ لبراعةِ الكاتب في بناء الشخصيات أو بناؤه المعماري لروايتهِ . وفي هذه الفقرات من الرواية نلمسُ العُمق الكامن في بناء الشخصية وحركة الأحداث والمواقف المُتتابعة والمرسومةِ بِعنايةٍ : * ” لعلك عرفت مما رأيت اليوم أن المحبة هي الثروة وليس المال أو السلطة، دعوات الناس الصادقة هي سبب بركة رزق الحاج، المحبة لا تباع ولا تشترى، ولكنها مواقف وأسلوب حياة. سر أنت أيضاً على هذا النهج، لا تجعل المال أو السلطة همك الأول، محبة الناس هي الأهم وهي الداعم للحياة ” . وأيضا هذه الفقرات تعكسُ بعض ما ذكرناهُ من إهتمام الكاتب بترسيخ القيم ودعمها في وصايا جيلٍ لجيلٍ : * ” طلب منهم أن يتجمعوا جميعا في البيت على أوقات متقاربة وأن يتفقوا على مواعيد مناسبة للجميع، وهو ما تم تنفيذه بشكل فعلي. أضاف مطلبا كان في كل وقت يجالسهم به أن لا ينزعوا عنهم عباءة مجتمعهم الذى عاشوا به وعاش بهم، طالبهم بالحفاظ على التقاليد والقيم التي هي عنوان الإنسان إن نزعها أصبح مثل ريشة في مهب الريح، يتمرجح يمينا ويسارا دون أن يستطيع الوقوف على أرض صلبة ” . * ” يا (محروس) ضع أمام عينيك وعقلك وتفكيرك أمرا هو الأهم في الحياة، أن تقترب من الناس، من الجميع وأن تشعرهم بأنك شريك لهم في كل أمورهم، ساعتها سوف تجني أهم ثروة في الحياة وهي محبتهم وخوفهم عليك، والإحساس بك، وأظنك تعرف هذا، فقط أذكرك به ” . ولم يَفتْ الكاتب في رصدهِ تأثير البيئة والظروف ” الزمكانية ” التأثير السريع والمباشر على القيم حين أشار لحدثين مُهمين في مصر كانا لهما التأثير الأوقع والحاد والمباشر خاصة ما لحق بالقرية المصرية من تغير أحيانا أو إنحساراً لبعض القيم أوالسلوكيات البشرية في إنسان القرية والمدينة ، وذلك عندما أشار إلي الحِقبة الناصرية التي كان من إيجابياتها فتح مجال التعليم وبالتالي ” الوعي الجمعي ” بالفوارق الاجتماعية خاصة طبقة “رجال الإقطاع الزراعي المتمثل في البشاوات والأثرياء ” بما لهِ وما عليهِ وكذلك طبقة ” رجال الأعمال والأثرياء ” في المدينة ،فقد ألمح بعكس ما كرست الحقبة الناصرية على التشويه العام والمُجمل لطبقة الإقطاع من مساؤى مُتمثلةٌ في النظرة الدونية لطبقة الفلاحين وعمال الزراعة من ناحية ؛ دون إغفال بعض الخدمات الاجتماعية والصحية التي أبرزت ما يُشبه الطبقة الوسيطة بين عامة الفلاحين ومن يعملون كا ” حاشية ” لهؤلاء البشاوات فهم مع إرتباط عملهم بالبشاوات برزت منهم نماذج قللت من حِدة الفارق بين مجتمع الباشاوات والفلاحين والأجراء فا إختار الكاتب هذه النماذج الإيجابية لبيان أهميتهم في حفظ القيم الأصيلة وجعلهم حائط الصد القوي ضد إنهيارِها أو إنحسارها ؛ إشار إلى ذلك بذكر تاريخ رحيل عبد الناصر في الثامن والعشرين من سبتمبر 1970 ؛ وكأنه يُسجل تحفظهُ على ماسجلتهُ بعض الروايات والأفلام كا روايات رد قلبي ليوسف السباعي ، وعصفور من الشرق ويوميات نائب في الأرياف للحكيم والأرض لعبد الرحمن الشرقاوي والنداهة ليوسف إدريس وغيرها من روايات وافلام ومسلسلات أبرزت سطوة الإقطاع و نماذج لبعضٍ من الباشوات ؛ وبالمثل أشار لبدايات الإنحسار الأشد وتهاويّ كثير من القيم الرفيعة والعالية في أعقاب إنتقاضة 25 يناير والإنتكاسة التي أعقبتها لعدم بيان و وضوح السبيل أمامها وركوب وإدارت دَفتها قوى مُتعددة بأيدولوجيات مُتباينة بل ومُتضادة فا إنفتح الباب أمام قوى الفتنة والشر المكتوم بإزاحة كل القيم الرفيعة والتخلص منها في صور السلب والسطو العام وتدمير المنشآت الحكومية والأهلية مرات أوفي تجاهل القيم المعنوية مثل الأحترام وتقدير الكبير وعمل الخير … ألخ . لقد ضَمن الكاتب هذا في ختام روايته كأنما يُشيرُ إلى المآذق الحالي وأهمية الدراسة الاجتماعية لما حدث ويحدث على ارض الواقع المصري الحالي وأهمية الإلتفات لمدى عُمق تأثير الحركات السياسية والإجتماعية القويُ والمباشر على قيم شعب توارث عبر عصورٍ قيماً جعلتهُ يتصدر مقاومة الغزو الغاشم من قوى الشر والإفساد الذي يهبُ دوما من الغرب . الرواية تحملُ عناصرُ نجاحها متمثلاً في السرد والحكي الراقي والمتميز ، والشخصيات المرسومة بدقةٍ وعناية ، واللغةِ والحوار البسيط والدقيق .