محمد بنيس واسئلة الشاعر الرائي

شارك مع أصدقائك

Loading

 

علي حسن الفواز

البحث عن توصيف واقعي أو متعالٍ للشاعر المغامر يرتبط بالرهان على جدّته وشغفه، وعلى تمثّله وعي المغامرة وأسئلتها، وفاعليتها في إثراء الكتابة، وفي تجاوز المألوف والتقليدي فيها، إذ تتحول لعبة هذه الكتابة إلى ممارسة في استثارة الوعي، وفي ترهين اللغة إلى مقاربة ما هو وجودي ونقدي وإنطولوجي، حيث يجد الشاعر نفسه إزاء تحديات فارقة، وإزاء أسئلة تدفعه إلى مزيد من التورط في المغامرة، وإلى استكناه ما تحمله من دلالات وإحالات شعورية، قد تدفعه إلى خيارات مفتوحة، أولها الذهاب إلى الكيفية التي سيؤثث وجوده في اللغة، وكيف له أن يرى، ويكشف، ويمجد العالم من خلالها، إذ يهبه الانهماك بالرؤية والتأويل شغفا بالتجاوز، وإعادة قراءة فكرة المكوث الشعري في اللغة..
الشاعر محمد بنيس من أكثر الشعراء إثارة لأسئلة الشعر والوجود، إذ يطرح تجربته بوصفها تمثيلا لوعيه الحاد بالعالم، حيث مشاكلة اللغة والأيديولوجيا والفكر والحلم، وحيث الشغف بـ»شعرية الحركة» أو «الماء الجارف» كما سمّاها، فينزع إلى تقويض أدوات الشاعر القديم، في لغته ومنبره، وفي رؤيته للوجود، ليضع القارئ أمام الرهان المتعالي للتجاوز، وليفصح عن مهام فائقة للشاعر، عبر هوسه بمعرفة أسرار هذا التجاوز، بوصفه اللعبة الساحرة التي تنطوي على خفايا ما تضمره الكتابة في أنساقها، ما يجعله مسكونا بترياقها، فيُقدِم إليها بغواية من يملك حدوس الشاعر الرائي والمتمرد والحالم، والجريء في بحثه عما هو غامض في اللغة، عبر مساكنة السؤال والقلق والحيرة، حيث يجد في الكتابة هاجسه الذي يُحرّضه ويستفزه على أن ممارسة طقوس رؤياها، بوصفها الطقوس التي تساكن الكتابة كونها قناعا للنفي الوجودي، فلا يكون وعيه إلا في نوبة استفزاز، متململا داخل «الزمن الشعري» مدفوعا إلى تمثل حكمة الشاعر الشخصية، حكمة العارف الذي يقاوم المعلوم والسطحي، والباحث عن الخلاص، والمشغول باستكناه الغامض والسري والصوفي، حتى تبدو الكتابة وكأنها ممارسة لأنسنة النفي، ولضبط إيقاع احتدام تلك المقاومة، عبر الطرس التي تشبه الاعتراف والانغمار في عالم يستديم وجوده عبر ما تصنعه اللغة، وعبر ما تستثمره القصيدة من تمارين مفتوحة للاستعارة، وإلى ما تؤديه من انزياحات، أو رؤى يستكنه من خلالها الشاعر وعيه بـ»مفهوم القصيدة الجديدة» ومدى قدرتها على تكون ممارسة نظيرة في الانتهاك، وفي مساءلة التاريخ ومركزية الأبوة الشعرية، وسيرة الشعراء الفحول، وعلى نحوٍ يجعل منها إجراءات تجعل من الشاعر شاهدا واعيا على المتغيّر في الوجود وفي الكتابة، وفي أنسنة صدمته الأنطولوجيا، وفي استبطان أنسنة شعريته، فالشعر هنا هو رؤيا الكائن الذي يواجه الهشاشة، ويجعل العالم أكثر جدوى من خلال اللغة، فمنذ كتابه الشعري الأول «ما قبل الكلام»، وهو يساكن هاجس المغامرة، تجريبا ووعيا وشغفا بالتمرد على النمط، والاحتفاء بحرارة اللغة التي تدفع شاعرها إلى أفق التجريب، وإلى ما يصطخب في القصيدة العربية من تحولات فارقة، حيث التعرّف على مغامرة الرواد السياب والبياتي ونازك الملائكة، وحيث تقصي تجريبية مجلة «شعر»، وما نزع إليه الشعراء الحالمون من هوس بـ»تغيير العالم» من خلال بياناتهم مغامراتهم، فاطلق عبرها أدونيس رؤياه المشاكسة لتاريخ القصيدة، مثلما أثارت مجلات مجاورة كـ»الآداب» و»مواقف» أسئلة عاصفة، واصل عبرها الشعراء لعبة استفزاز التاريخ والذاكرة والجسد والمقدس..
قد تبدو قصائده الأولى ذات نزعة رومانسية، وغامرة بالتدفق الذي يسحب الشاعر إلى الحلم والتوتر، لكنها في المقابل كانت تدفعه إلى ما يشبه المغامرة، والاستغواء بفضيلة البحث عن استعارات مفتوحة للتجاوز، فبقدر ما كان هو المأخوذ برواد التجدد الفرنسيين، لاسيما أبولينير وجورج باتاي وبرنار نويل، كان مأخوذا بأسئلة التجدد في الشعر العربي، لاسيما أدونيس، فكان لهذا التلاحق أثره في تأثيل لغته العميقة، المتعدية والمسكونة بشغف الوعي في مواجهة تغيرات القصيدة و»حداثتها» وبالأفكار التي تلجلج داخلها العالم، وبالمرايا/ المجازات التي باتت تتسع لتصنع وجوها أخرى للشاعر الذي يساكنه بالقلق، وباللذة التي يتحسس وجودها عبر الكشف والتعرّي، كقرين استعاري للعبة التحقق والاختلاف.
الشاعر ورهان الحرية
الدخول إلى رحاب القصيدة لا يعني سوى الحرية، إذ تتحول الكتابة إلى مجس وفأس وعكاز وغواية، وباتجاه يجعل من الحرية، الترياق الذي يملك سحر المراودة، فالشاعر لا يملك إلّا أن يراود الوجود عبر اللغة، حيث بلاغة الاستعارة وسحر المجاز، وحيث فتنة الاكتشاف، ففي كتابه الشعري «هذا الأزرق» تتحول دالة اللون إلى إشراق شعري ينفتح على التأويل، وعلى ما يحيله إلى رموز يشتبك فيها الشعري بحساسية مرجعية اللون النفسية والتشكيلية، إذ يكون التحقق مكشوفا على ما تستدعيه القراءة من إحالات سحرية وميثولوجية وفلسفية وأنثروبولوجية، ومن تعالقات يكون فيها السماوي موازيا للأرضي، وبما يُعطي للقصيدة حافزا للتمثل، والكشف عن حمولات وعيه العالي، فهو يرهنها بعزلته وطقوس اعترافه وتطهره، أو بما يشبه الاستغراق الصوفي، أو بأسفاره في المدن التي يعشقها، فالأزرق الاستعاري يتحول إلى كناية للوجود، وإلى مجال تعويضي وإشباعي يدفع قارئه إلى مجاورة ما يكشفه، أو ما يُحيل إليه، حيث نجد اصطناع اللذة، والهتاف، والتعرية، والسفر، مثلما نجد الشاعر وهو متورط باستدراج اللذة إلى المعرفة والتبصّر، وكأن فكرة اللون تكتسب صفة الخلق، بوصفه رمزا للسماء، أو بوصفه إحالة إلى ما تتخيله» الذات المتعالية» وهي تغوي الآخر بطهرانية الماء والمتعة، أو تؤنسنه عبر متعة الاستدعاء أو التأمل، أو عبر ما يمنحه من استعارة صوتية ووجودية..
هُناك فضحتُ خوف كتابةٍ غطّت سرائرها بعصف ذابلٍ
هاجمتُ أنت الآن بين يديّ أهتفُ أو أرافق رجّةً تشتدُّ في
هتك البلاغةِ واجتثاث المخزنِ اللغويّ يا عنفكَ الميمـــــون
كم صوتاً تمادى في ارتفاع نُخاعي الشّوكيّ نحو مسالـــــك
الطّلحِ المرشّحِ للهيب ولهجةِ الخوف
ما يكتبه محمد بنيس من تجاوز للمألوف يكشف عن حساسيته إزاء ما تحمله الكتابة، أو ما تؤديه، فالوظيفة لا تبدو محايدة، بقدر ما تبدو منحازة، ومتوهجة، ومدفوعة إلى رفض استعمالها الباهت، ليكون تجاوزها قرين فكرة المغامرة، حيث إدانة لـ»الثابت» وحيث تمثل الوجود المتحول في أسئلته، وفي شغفه الفلسفي، إذ يتحول السؤال الفلسفي عن الوجود إلى خيار تتعدد مستوياته، حيث إشكالية الوعي بالكتابة بوصفه نظيرا للوعي بالحرية، وحيث إشكالية الاستغراق في مفهوم الحداثة بوصفه نظيرا لمواجهة النمط الاستلابي للتاريخ، وحيث تلمس رؤية الشاعر للصراع الوجودي بوصفه نظيرا لصراع الكينونة إزاء محوها، فما يكشفه بنيس في «هذا الأزرق» يتبدى عبر هذه الثلاثية، وعبر تمثيل فلسفي/ وجودي الفكرة الغائب والمحذوف، فالصوفي يتجاوز الأمكنة إلى التعالي، ليكون كائنه السماوي، مقابلا لكائنه الأرضي الأزرق/ العامل، وعبر هذه الثنائية يمنح الشاعر اللون طاقة تمثيلية، ومساحة يستدعي من خلالها سيرة الشاعر وكشوفاته، وأسفاره في البحث عن الغائب الشخصي/ كما يتجلى في السيرة، أو الإنساني/ كما يتجلى في تقصي سير المدن والمحذوف من التاريخ، أو الحبيب والكينوني/ كما يتجلى في شطحاته وهو يرصد محنة الذات أمام العالم المتوحش..
لحظةٌ ويسألني النّهارُ عن انكساري لم أتململ
والقادمون من البعاد يطرقون الباب لم نَمُتْ بعدُ
أعلمُ
تلك بقايا بيوت
أندلسيّةٍ تُطلُّ عليّ حدادٌ في الممرّ الآخــــــر
ذبدباتٌ وهذا سريري لم أستسلم
أيّها الشّـــرقُ الصّـــــــديق
كل شيء يتسرب من قصائد بنيس، الوجود، المعنى، الذاكرة، فهي تنفي عنها الانغلاق، حتى تبدو شعرية «التسرب» وكأنها جوهر في وعي لعبته الشعرية، في سيولتها، وفي ما تكشف من حساسية الوعي بالمتغير، وبأن العالم في لغة الشعر ليس مغلقا، ولا حتى آمنا، وأن تحوله وتجاوزه مرهون بالحرية، وبمدى تحوّل التجربة الذاتية إلى تجربة فائقة، مفضوحة، صاخبة، حيث يكون تغيّرها كاشفا عن التمرد الذي يصطخب داخل الشاعر، وعن ما يملكه الشاعر من التزام ب»شعرية الشعر» إذ يعيش لحظته الشعرية ناجيا من خراب العالم، وعبر حيازته طقوس طهرانية الماء عبر توصيف علاقتها بالفكرة والعبارة، ليس بوصفها الصوفي، بل بوصفها الوجودي الذي يجعل من اللون وجودا متعاليا، له حمولاته، وله إحالاته التي تأخذ الشاعر إلى شطارة صانع الرؤى والصور، بعيدا عن خراب المدن التي يعشقها، وفخاخ التاريخ، وقريبا من أسئلة الذات التي تتشهى التخطي والتجاوز والكشف.
All reactions:

علاء سعود الدليمي, MohammEd HussEin and 11 others

1
Like

Comment
Active
علاء سعود الدليمي

سلمت سلمت دكتور
  • Like

  • Reply

Facebook

Facebook

Facebook

Facebook

Facebook

Facebook

Facebook

Facebook

Facebook

Facebook

Facebook

Facebook

Facebook

Facebook

Facebook

Facebook

Facebook

Facebook

Facebook

Facebook

Facebook

Facebook

People you may know

 

 

شارك مع أصدقائك