أحمد عبد المعطي حجازي ومأزق الشعر والشعرية

شارك مع أصدقائك

Loading

فاطمة المحسن

في العام ٢٠٠٩ عُقد مؤتمران للشعر في القاهرة، مؤتمر نظمه المجلس الأعلى للثقافة وبإشراف الشاعر المخضرم أحمد عبد المعطي حجازي، والثاني أقامه شعراء قصيدة النثر، اعتذر الكثير من المدعوين إلى المؤتمر الأول، حتى الذين يؤيدون حجازي في موقفه ضد قصيدة النثر ، وكان اعتذارهم لأسباب شتى، وأهمها الخوف من أن تكون الكلمة مسرح حرب تشطر الشعراء فريقين، وتتمثل فيها الموجات الأدبية على هيئة صراعات ومناكفات.

كأن أحمد عبد المعطي حجازي فيما كتب عن قصيدة النثر وعلى وجه الخصوص في كتابه ” أحفاد شوقي” قد أيقظ الفتنة من سباتها، بل كأنما أيقظ سؤال القصيدة الذي يقف خلف الكواليس دون أن يجرؤ على طرحه أحد. جاء كتاب حجازي عن قصيدة النثر التي أطلق عليها تسمية “القصيدة الخرساء” لتنشط الأقلام في الدفاع عنها، بل وتعريفها أو إعادة تعريفها، وتحديد موقعها في الشعرية العربية. ولكن كل تلك الكتابات التي حاولت إعادة الاعتبار إلى قصيدة النثر لم تكن قادرة على إخفاء مأزقها ومأزق الشعر عموما ، ولعل موقف حجازي الذي قيل بأنه قدّم جائزة الشعر إلى نفسه، يشير إلى أن نقاش الشعر وصل نهاية مشواره، ولم يعد هناك من مزيد.
بقيت قصيدة النثر مقبولة في الأدب العربي من دون أسئلة مؤرقة، وهذا أخطر ما في الشعر، واستوت كالعُرف لا ينشر الخلق سواها، فهي حاضرة في المواقع الالكترونية والمنابر الصحافية، و لن تجد غير استثناءات نادرة من الشباب الذين يكتبون التفعيلة، ولم يبق لهذه القصيدة من المشاهير، إلاّ شعراء من الأجيال التي أوشكت أن تصل نهاية شوطها.
ولكن قصيدة النثر، مكثت في الكثير من نماذجها في العزلة، لا تجد جمهوراً يصغي إليها، ولا مسوقاً لديوانها، وتبدو وكأن عصر جماهيريتها الذهبي انتهى بموت انسي الحاج و الماغوط.
في حين استطاع الشعر الحر احتلال موقع متميز في الأدب العربي خلال فترة قياسية، لم تتجاوز العقد أو العقدين، وغدا هو الشعر المفضل شكلاً وحساسية وذائقة. وانزوى شعر القريض مدحورا حتى بات الشعراء الذين يكتبونه يُصنفون دون تردد بانتسابهم إلى عالم قديم. أما شعراء التفعيلة فقد داوموا على البقاء كرواد دون منازع إلى يومنا، يناكد بعضهم قصيدة النثر ويؤرقون يومها في أحيان. درويش يقول كلمة مستنكرة بحقها، ويحجم عن التثنية، وسعدي يوسف يمرر مكره ونزقه دون الإمعان في التجريح، وقلة منهم يعلن ما أعلنه حجازي، لأن ذاكرة الكثير منهم ما زالت طرية، ولم تتصلب شرايينها كي تنسى مجابهات رواد الشعر الحر، وكيف خرجت قصيدتهم منتصرة، لأنها قبل كل شيء حاجة أملتها تطورات المعرفة والقراءات والحساسيات، وهكذا تملي ” الحتميات” قانونها.
تتعين قصيدة النثر اليوم بكتّاب قلائل يقال عن كل واحد فيهم هذا شاعر جيد، وليس بها كجنس يجري الخوض في جمالياته وتحديد اتجاهاته وطرائق كتابته وتمايزات كتّابه . ولعل هذا الحال سبب مشكلة يتبادل فيها النقّاد والشعراء الاتهامات، فالشعراء محبطون من جهل النقد وافتقاده الى أدوات القراءة الحديثة وفهم ما يبتكرون، والنقّاد ينعون على هذا الشعر تشتت أجياله وتحوله مطية لكل من هب ودب من العاطلين عن الأدب.
ولا شك أن قصيدة النثر انتشرت في زمن غادر فيه الشعراء إلى الأجناس الأخرى من الكتابة، وما عادت تجربة الكتابة عند الكاتب تبدأ بالشعر، كما كان التقليد في السابق. وبار ديوان الشعر في الأسواق، وانصرف القراء عنه إلى الرواية، وبات ناشر الشعر مثل مغامر تحركّه حمية الدفاع عن شيء نبيل ينبغي أن لا يغرب عن حياتنا. ولن تجد في مراجعات الكتب أوالبحوث والدراسات إلاّ حصة ضئيلة للشعر، وناقد القصائد الجديدة مثل الحاطب في ليل، إزاء هذا الفيض من الكتابات التي تندرج في باب قصيدة النثر. في هذه المعمعة تعرّض الكثير من شعراء قصيدة النثر الى الإهمال والتجاهل، كأنما النقد قد ختم على الشعرية عموما بالصمت.
إذن هي أزمة شعر وشعرية، وليست أزمة نوع شعري، ولكن هل أسهم هذا النوع، أي قصيدة النثر، في تحطيم عرش الشعر عند العرب، وذبح بقرتهم المقدسة؟ .
المؤكد ان الحياة الجديدة تنتظم في إيقاع يختلف عن السابق، ولكن الشعر لن يغادرها مهما عزّ مناله، فقصيدة النثر، مثل الأنواع التي سبقتها أنتجت شعراء من أفضل ما انتجته الشعرية العربية على الأقل في العقود الاخيرة، على الرغم من جهل الناس بهم، أو قلة تداول مطبوعهم، وهم لا ينافسون سعدي ودرويش مثلا، لانهم يقفون في فضاء آخر من الإبداع الشعري .
وجود قصيدة النثر في الأساس يعني فيما يعني، خذلان جماهيرية الشعر وشعبيته، تحطيم فكرة التواصل في الشعر الكلاسيكي عموما وليس الشعر العربي وحده. أبقت قصيدة التفعيلة عرى التواصل قائمة من خلال الوزن، ولكن قصيدة النثر بتخليها عنه بقيت عارية من ذاكرة كان يمرر من خلالها الجديد دائما وفي كل تقاليد القول. لعل فكرة الانقطاع في قصيدة النثر اقتضت مجالاً للقول وحساسية ولغة مختلفة، ولكن نماذجها السائدة في الغالب، بقيت تحوم حول قصيدة التفعيلة، ولا تملك التصميم على الانفصال عنها.
يحدد النقّاد الذين أدلوا بدلوهم في تعريف قصيدة النثر، إن شرط التواصل يأتي من غنائية القصيدة وتكثيفها وجعلها مصقولة كالبلور، وتلك المصطلحات كما أراداتها سوزان برنار، واضعة دستورها عند العرب، ينضاف إليها ما جاء به رامبو ومالارميه ” السحر الإيحائي” و ” الابجدية السحرية، والطلسم الغامض”، وهي تعبيرات بالكاد تمسك معادلات النقد العربي أصولها ومنطقها .
أنسي الحاج يقدم شروطه : الإيجاز والتوهج والمجانية . ولا يقيم كبير وزن إلى الإيقاع والتصويت : رنة الإحساس، توقيع الجملة، سجع المشاعر، وسواها من المصطلحات التي رافقت ظهور قصيدة النثر.
لعل مشكلة قصيدة النثر هي شرعة الشيوع فيها، استباحتها، فيما هو الشعر كلام لا يلزم صاحبه معرفة قوانينه، ما دامت تلك القوانين في الأصل من المبهمات.
هل نعود إلى تأثير غياب النقد؟ ربما، وربما ان روح العصر على اختلاف مع روح عصرنا نحن العرب، فنحن نبحث في القصيدة على ما نعرفه من قواعد وجدت في شعر غير شعرنا، دون بيان المتطلّبات الجوهرية الجمالية والروحية تبعاً للعصور والأفراد، حسبما فُسرت قصيدة النثر في مصدرها الفرنسي.
الشعر يبقى حاجة ، ولن تطوى صفحاته، فهو حاضر في كل فن، وهو حاضر في كل هنيهة من حياتنا، ولكن كيف يمسك الشاعر ذلك الحضور وتلك الهنيهات الفالتة، تلك قضية تعود الى اختلاف مبدع عن مبدع، وهذا يشمل الشعر مثل الرواية وكل أجناس الإبداع، فلماذا نُثقل على قصيدة النثر بتلك الحمولة المرهقة.

 

شارك مع أصدقائك