أ.د/ أمحمد فرج علي فرحات الخزعلي
أستاذ اللغويات بجامعة عمر المختار ـ ليبيا
سُئلتُ:
ـ هل العلم سوف يقصي الأدب؟ وما مقومات الأدب بفرعيه(شعرًا وسردًا) وآلياته للصمود في مواجهة التغوّل العلمي في الحياة كبديل عن الأدب؟
ـ وهل الذكاء الاصطناعي سيكون نائبًا في المستقبل عن دور المبدع الفرد؟
فأجبت: جاء في الجزء العاشر من كتاب (فيض الخاطر) لأحمد أمين أن كلمتي: الأدب والعلم قد مرتا في اللغة العربية بعدة مراحل، فكلمة الأدب كانت تطلق على ما يرقّي الخلق ويهذب النفس، ثم استعملت بمعنى أوسع في باب تذوق الشعر حتى عدوا شعر جرير والفرزدق والخطل أدبًا، وكذلك خمريات أبي نواس وغلمانياته.
وكذلك الشأن في باب العلم، كانوا لا يستعملونها إلا في العلم الديني، ثم توسعوا في معناها حتى شمل كل ما ينتجه العقل والفن.
وفي العصور الحديثة فرقوا بين الأدب والعلم، ورسموا لكل منهما دائرة، ومن ثم كانت الصحيفة أو المجلة أحيانًا أدبية، وأحيانًا علمية، وأصبح من المضحك أن تقول: علم الأدب؛ لأن العلم غير الأدب، وأصبح لدينا من يسمى أديبًا، فلا يكون عالمًا، وعالمًا فلا يكون أديبًا، وقد يكون أديبًا عالمًا، وقالوا في التفريق بين الأدب والعلم: إن الأدب يخاطب العاطفة، والعلم يخاطب العقل، فإذا قلت: إن زوايا المثلث تساوي قائمتين، فإنك تخاطب العقل ولا تمس العاطفة، كما أن عالم الحياة لا يرى في الفتاة إلا إنسانًا خاضعًا لكل أبحاث البيولوجيا، أما الأديب فيرى في محبوبته شيئًا وراء كل ما يبحث عنه العالم، فهي الحياة، وهي الدنيا، وهي النعيم إذا وصلت، والبؤس إذا صدت.
وبرأيي المتواضع أننا بحاجة إلى العالم وكذلك نحن بحاجة إلى الأديب، فلكل منهما ميدانه الذي يبدع فيه ويخدم البشرية من خلال أدواته ومهاراته التي منحها الله إياه.
وعن مقومات الأدب قال أحمد أمين في كتابه (النقد الأدبي) : أجمع النقاد تقريبًا على أن الأدب يتكون من عناصر أربعة: العاطفة، والمعنى، والأسلوب، والخيال، ونعني بذلك أن كل نوع من الأدب لابد أن يشتمل على هذه العناصر الأربعة ولا يخلو من عنصر منها، غاية الأمر أن بعض هذه الأنواع الأدبية قد تحتاج إلى كمية أكبر من بعض هذه العناصر مما يحتاجه من نوع آخر، فالشعر مثلًا يحتاج إلى مقدار من الخيال أكثر مما تحتاج إليه الحكم، والحكم تحتاج إلى مقدار من المعاني أكثر مما تحتاجه من الخيال، وهكذا.
وبطبيعة الأمر كل ما ذكرناه من هذه العناصر إذا ما استثنينا المعنى فإن العلم لا يرتكز عليها، بل قد ينفر العلم بعضها كاالخيال؛ لأنه يرتكز على حقائق ومُسلّمات ونظريات تجسد الواقع وتنبذ الخيال؛ لذا ـ مثلما قلنا قبل قليل ـ لكل منهما ميدانه وفرسانه وأدواته ومرتكزاته، فلا يمكن بحال أن يطغى أحدهما على الآخر فبينهما برزخ لا يبغيان.
أما الذكاء الاصطناعي الذي ظهر مؤخرًا فيمكننا أن نعده حقبة من حقب التطور العلمي التكنولوجي، يتضمن كل ما ساهمت به البشرية من إنتاج علمي ومعرفي مما وقع حصره تحت الشبكة العنكبوتية، وهو سلاح ذو حدين كما يقولون، وألفت الأبحاث الدراسات عن سلبيات الذكاء الاصطناعي كتسببه في فوضى اقتصادية واجتماعية عارمة واستغناء أغلب الشركات عن عمالها لتعتمد على أقل من عشر قواها العاملة، لكن سنكتفي بالحديث مختصرين عن أثره في البحث العلمي، فقد استخدم بعضهم محركات البحث الخاصة بالذكاء الاصطناعي ليرى كيف طرق السابقون القضية التي يبحث عنها فيوفر الوقت والجهد ويبني عليها، وهذا أمر محمود، بينما استخدمه بعضهم لينسب لنفسه جهد غيره وليحمدوا بما لم يفعلوا، وهذا شيء ممقوت، ولن يكون الذكاء الاصطناعي بحال نائبًا عن إبداع الفرد، وعلى الأخص في جانب الأدب حيث يمسك الأديب بتلابيب عاطفته الإنسانية التي جبل عليها ويتئد بجوامع الكلم المنبثقة من رحم البيان العربي المبدع، نعم قد ينقل له تجارب الآخرين التي نعرف جلها، وسرعان ما يُكتشف زيفه وسرقته، ولكن لن يبدع بجديد كما يبدع أرباب البلاغة والبيان كأمثال أحمد شوقي، والجواهري وأ.د/ محمد حسين آل ياسين، وعلى الأخص أنه بدأت تظهر محركات بحث تكشف عن السرقات من المواقع المخزنة لدى الذكاء الاصطناعي.