حسين علي يونس
العراق
إذا كان الأهم “أن نتذكر” مثلما كان يقول الشاعر ريلكه، فإن عبارة هيغل “لا شيء أعمق من ذلك الذي يظهر على السطح ” تجعلنا نسدل ستارا على وجهات النظر المتعارضة، التي انداحت وراء مبدأ التحليل، وتركت التوثيق خلف ظهرها، ذلك التوثيق الذي يعد الدافع الاول لكتابة هكذا نوع من الكتب، لأن هذا يعدّ بشكل ما خطأ استراتيجياً مقصوداً لتبرير مبدأ الغلبة داخل الصراع. إن مصادرة الذاكرة الجمعية لتلك الظاهرة التي تكونت نتيجة لتضافر افراد ولصالح صوت او اكثر لا تعدو ان تكون عملية قرصنة سافرة ضبابية غير موضوعية، تجتر نفسها من التوثيق إلى التحليل . .
ان الكتابة عن الظاهرة ، أي ظاهرة يستوجب بالطبع ان نطرح تلك الظاهرة قيد البحث بعد ان نكون قد عشناها، اذ لا يمكن ان نتحدث عن ظاهرة ما دون ان تكون تلك الظاهرة حاضرة ومؤطرة داخل بنية النسق.. وخلافا لذلك فإن عملها يبدو مقطوعا عن سياقه، فاقدا لمصداقيته ولقيمته الارشيفية..
ان اي قارئ لتلك الكتب سرعان ما سيكتشف “سطيحات الغش” تلك التي اوجدتها الطباع المستترة في الكتب وهي تعبر سلم الهوى إلى غاياتها. هذا ما تلمسته بالضبط وانا اعبر طرق ومنعرجات كتاب سامي مهدي “الموجة الصاخبة” الذي خطه ليرد على نقيضه الايديولوجي فاضل العزاوي صاحب كتاب “الروح الحية” .
في بداية كتابه الموجة الصاخبة يقول سامي مهدي “إن كتابه هو مزيج من الذكريات والانطباعات والتاريخ والنقد “. وفي سياق حديثه المكتوب، يقر بما لا يقبل الشك بـ (اهمية ذلك الجيل الذي ينتمي إليه كونه احدث تحولا في بنية الشعر العراقي، الذي وضعته هذه الحركة في إطار الحداثة الحقيقية، وهو ينطلق من واقع اساسي ومهم في تأليفه لهذا الكتاب ألا وهو الاحساس بالواجب فما قيمة (ذلك الاحساس بالواجب)؟ الذي دعاه لتسطير كتابه آنف الذكر. دعونا نرى ما حققه سامي مهدي “حفاظا على تأريخانية تلك الظاهرة ، وصونها من الضياع ” في خضم الصراعات والخصومات والادعاءات وما ينجم عن ذلك من آراء متضاربة تستبد بها الدوافع الذاتية والانحيازات.
في الشق الاول من كتابه يوضح لنا مسطر الكتاب وجامع حروفه، ان ثمة “انحيازات فجة وادعاءات وخصومات ينبغي التعامل معها بموضوعية وتجاوزها في هكذا عمل “. وهو هنا يتبنى وجهة نظر ماركس الذي لا يحبه كثيراً، تلك التي تقول (ان الهوى خطر على المعرفة الصافية) وهذا التبني هو قمة الحكمة بالطبع ، لكنه بعد بضع جمل وفي المقدمة التمهيدية ذاتها يتبنى ما عده خطأ جسيما ، وما دعا إلى محاربته في المقدمة يتبناه لأن ذلك يتطابق مع وجهة نظره ذلك هو ما يعترف به سامي مهدي الذي يقول “لست ابدأ كتابي هذا من تلك الدوافع و الانحيازات فهو يبدأ بدافع ذاتي هو انحيازي إلى الجيل الذي انتمي اليه ” .
الا ان مؤلف الكتاب في الحقيقة يمضي إلى ابعد من ذلك بكثير فهو يكرس ذلك الاسلوب المنعرج بشكل فج ويتبناه منهجا فهو ينطلق من بؤرة الايديولوجية لا من بؤرة التوثيق التي كان من الممكن ان تجعله حياديا وفي منأى عن الهوى ، على الرغم من ان كتاب سامي مهدي كان من المفترض ان يكون من اكثر الكتب التي خرجت عن تأريخ هذه الظاهرة اهمية بحكم كونه يحتكم على عدد كبير من الوثائق والمراجع التي لم تتح لغيره، الا اننا عندما نقارن كتاب “الموجة الصاخبة” بكتاب “الروح الحية ” فإن الميزان سيميل باتجاه “الروح الحية” حتما لفاضل العزاوي الذي يعترف ابتداء انه انما يسطر كتابه من ذاكرته وعلى عدد محدود من المصادر، وهو يعتذر سلفا عن تلك الاخطاء، التي سيرتكبها في بحثه عن جذور تلك الظاهرة وتكونها، وهكذا فإن النتيجة التي نخرج بها ونحن نقرأ كتاب “الموجة الصاخبة” تجعلنا نتخبط! فهو يخبرنا في مقدمته ان كتابه ما هو الا شهادة صدق ويحتكم إلينا كقراء في ان نصدقه. وهكذا فإن الشيء الذي لا مجال للاختلاف عليه هنا ان (كتاب الموجة الصاخبة) شهادة ولكن هذه الشهادة منقوصة وتحتكم على الكثير من المحاباة، وان الاسلوب الذي انتهجه سامي مهدي في شهادته جعله يقع في المحظور فمن أول جملة في كتابه، ساقته غواية الهوى صوب المحظور ففي هكذا بحث كان من المفترض ان يكون علميا محضا ، لكن الكتاب وقع اسير طريقة تفكير مؤلفه الايديولوجية، التي لم تنأى كثيرا عن ضفاف التحيز فهاهو وفي مفتتح بحثه ، يتحدث عن اتجاهين مختلفين ظهرا في مطلع الستينيات على الرغم من ان الكتاب يتحدث حصرا عن الظاهرة بشكل عام ، الا ان الواضح هنا ، ان الكتاب انما يتناول ما اسماه بـ”الاصوات المهمة ” التي كانت ذات فعالية وحضور، والتي لا يمكن للمتلقي إلا ان يقر بأهميتها وفعاليتها ، الا ان اللافت للنظر هنا ان سامي مهدي ينفخ برماد بعض الاسماء التي لم تكن مهمة وفعالة بالمرة ليسد نقص قائمته وليمنحها أيضاً امتيازا على حساب الاصوات بالغة الاهمية، التي تعارضه في ذلك التقسيم فاذا اردنا ان ندرس التجربة الستينية على ضوء ما توصل إليه سامي مهدي فإننا قطعا سنصاب بخيبة امل ثقيلة، ذلك لان مؤلف الكتاب يمنح الارجحية لمجموعة اسماها “اصحاب الاتجاه الاول” و التي كما هو واضح ومتفق عليه لم تقدم شيئا كبيرا للمشروع، الذي كان طليعيا وبشر بالمغايرة وكان من الواضح ان من يمثله هم اصحاب الاتجاه الثاني اولئك الذين كانوا في تقاطع كامل مع مؤلف الكتاب، ويعدّها مدون الكتاب محض “اسماء عملت في مجال الصحافة في ذلك الوقت ” ويحدد هذه الاسماء حصرا بـ سركون بولص، فاضل العزاوي، مؤيد الراوي، انور الغساني وعبدالرحمن طهمازي الذي يعدّه امتداداً لهم وكذلك عبدالرحمن مجيد الربيعي. ويمكن ان نمد هذه القائمة التي كانت فعالة وعملت ما بوسعها من اجل تكوين وعي مغاير. الا ان اللافت هنا ان سامي مهدي يمنح ادوارا لأصحاب الاتجاه الاول، الذي لم يكن فعالا، ولم ينتج شيئا مهما للشعر العراقي ولا للظاهرة الستينية ذاتها ضمن سياقها التاريخي، ويمنحها امتيازا ادبيا انطلاقا من كونها تفهمت الوضع العربي وتماهت معه على مستوى العراق.
نحن بالطبع لا نعرف ما الاضافة المهمة التي قدمها عبد الامير معلة، حميد سعيد، مالك المطلبي، حميد المطبعي والفلسطيني خالد علي مصطفى (الذي كان شبه مبعد بسبب كونه غريبا رغم اهمية دوره في الموجة) للشعرية العراقية وللأدب العراقي الذي كان زاخرا وحيا برموزه الماركسية واليسارية في مجال الشعر والقصة والترجمة وفي النقد والتوثيق، وبإمكاننا ان نذكر العشرات الذين كانوا اما شيوعيون أو محسوبون على اليسار أو التروتسكيون على حد سواء، هكذا كان فاضل العزاوي وسركون بولص ومؤيد الراوي وانور الغساني وجان دمو وصلاح فائق ومحي الدين زنكنة وعبدالرحمن طهمازي وجليل حيدر ومحمد مبارك وصادق الصائغ وفوزي كريم وجليل القيسي ومحمد خضير وحسين حسن وصادق باخان ومحمود جنداري ونزار سليم وسلمان السعدي جواد سليم وضياء العزاوي ومحمد مهر الدين وفائق حسن وفيصل السامر وعبدالغني الملاح وغيرهم الكثير واذا اردنا ان نمد القائمة إلى الخلف فسنجد الامور لا تختلف كثيرا ثمة الجواهري، وسعدي يوسف، ومحمود البريكان، عبد الوهاب البياتي، بدر شاكر السياب، حسين مردان، غائب طعمة فرمان، مظفر النواب، علي جواد الطاهر، جواد علي، طه باقر وهلم جرا على ضوء ما توصل اليه مؤلف الكتاب فإن هؤلاء أيضاً لم يفهموا حقيقة الوضع في العراق وكانوا يضربون خبط عشواء بالطبع اننا لا نستطيع ان نلوم سامي مهدي (الشاعر) لقد كان الشاعر البعثي الوحيد بينهم على الرغم من انه كان صاحب رؤية متأرجحة، في التنظير الثقافي بالضرورة وبالحياة، ففي المحصلة النهائية، لم تكن الافكار لتنجح بعيدا عن الواقع، فكلما تدخل المجاز في تسيير عجلة كتابته فسرها هاجس الصلابة الا اننا نأخذ عليه انه لم يحاول مخلصا ان يفلت من أسر الحزبية الضيقة، عندما كان يكتب في مجال النقد كانت تأخذه الايديولوجية والاحقاد الشخصية نحو غايات لا دخل لها بالشعر، وهكذا فإن حزب البعث واصحاب النزعة القومية لم يكن فيهم شاعر واحد يعول عليه غير سامي مهدي، وهذا ما اثبتته الايام فعلا فلم يكن مالك المطلبي شاعرا وعندما تحول إلى النقد تبنى وجهات نظر بنيوية انتجها اليسار الماركسي، وكذا كان حال حاتم الصكر، وطراد الكبيسي، لقد تركوا الشعر، لانهم لم يكونوا شعراء بالأساس، ولم يكن شعر عبد الامير معلة، وامل الشرقي، وخالد علي مصطفى، وحميد سعيد وكل تلك الجوقة القومية العروبية التوجه ليحوي على اية بذرة من الموهبة حتى ان سامي مهدي نفسه كان يؤمن بذلك الى حد ما ، وكان قد قال هذا ضمنا عندما قدم نماذجا لهم في كتابه، واتهمهم بالركة والتقريرية والضعف، وهذا بالطبع يجعلنا نعيد مؤشر الافكار إلى الخلف لنشاهد ويا للعجب ان ما اسماه سامي مهدي بالتطور الكبير في بنية الشعر الستيني لم يكن محصورا في الاتجاه الاول الذي كان مرتبطاً بالتراث، ويحمل عبء الاحساس العروبي، وانما كان في مجمله محصورا بأصحاب الاتجاه الثاني اي اولئك الذين لم يكن لديهم اي انتماء عروبي، وكانوا معدومي الجذور، وكانت ثقافتهم تعتمد على الادب المترجم ليس الا، وهذا ليس عيبا فلقد كان الابداع يأتي إلينا من خارج الحدود دائما ومن لغة اخرى غالبا.هكذا كانت تتكون و تنمو الحضارات هنا وفي كل مكان على الارض، عن طريق عملية النقل والنقد. فلقد كان العراق الثري بمكوناته، يتكون من مجموعة كبيرة من القوميات والديانات، كان هناك المسلم، والمسيحي، والصابئي، والشيعي، والسني، والإيزيدي، والبهائي، المسيحي الارثوذوكسي الكاثوليكي و الارمني، والتركماني… إلخ.
باختصار شديد فإن اليسار هو الذي صنع عصرا جديدا للشعر العراقي الذي نعيش امتداداته الطبيعية الآن ــ اضافة إلى الاسماء التي ذكرناها آنفا نذكر اسماء حسب الشيخ جعفر، بلند الحيدري، ابراهيم زاير، منعم حسن، وعبدالجبار عباس.. هؤلاء كانوا خليطا من كرد وعرب سنة وشيعة وارمن، وارثوذوكس ان اي مقارنة بين هذه الاسماء بتلك التي اطلق عليها سامي مهدي” اصحاب الاتجاه الاول” توضح الهوة التي كان يرزح ازاءها هذا التصنيف الذي اصاب كتاب ( الموجة الصاخبة) في مقتل. والنتيجة فلم يكن واضع الكتاب نفسه مؤمنا بمنجز اصحابه المقربين في الحزب فلم يكن حميد سعيد شاعرا يمكن قراءته كذلك كان الحال مع عبدالامير معلة وخالد علي مصطفى وشاذل طاقة اما القصص التي كان يكتبها موفق خضر فلقد كانت ساذجة اجمالا، ولا ندري بالطبع على اي شيء اعتمد مؤلف الكتاب في تقييمه السالف لان اي مقارنة ما كانت لتصمد امام ما افرزته الحقائق. ان قلة ما انتجه بعض من هؤلاء ليس مأخذا بالطبع فلقد انتج طراد الكبيسي خمس مجاميع، لا يمكن قراءتها بينما كفت جان دمو مجموعة ظهرت مطلع التسعينيات قمت بإعدادها في ذلك الوقت، وخرجت بكراسة لم تكن تتجاوز الـ 50 صفحة الا قليلا لتصنع منه شاعرا اعترفوا بشاعريته قبل غيرهم، وكرسته ظاهرة مهمة في الجيل الستيني. لا يخلو كتاب الموجة الصاخبة من مغالطات ومفارقات
يقول سامي مهدي وفي الصفحة 222: “كان الشعراء الرواد لاسيما البياتي والسياب واقعين تحت وطأة الاحداث وضغط ولاءاتهم السياسية، وما اشاعه بعض الاحزاب (الحزب الشيوعي خاصة) من مفهومات ضيقة بشأن الادب، ورسالته والاديب ودوره ، وما ضرب به المثال من نماذج ناظم حكمت نيرودا، لوركا، ارغون، مايكوفسكي الخ “.
ان كلام سامي مهدي صحيح مائة في المائة الا ان اللافت ان الاتجاه الاول من الجيل الستيني و الذي يعده سامي مهدي الاكثر وعيا التزموا بربط نتاجهم بالحزب وبالدكتاتور، ولم يهتموا بالشعب أبدا، لقد عدوه نتاج خطابهم، وجاء في الدرجة الثانية بعد القائد وبعد الحزب وبدلا عن ان ينتجوا شعراءً بحجم من ذكرهم وأعاب عليهم التزامهم بقضايا هابطة المستوى وضحلة .
ففي الوقت الذي لا ينكر احد قوة شاعرية لوركا ومايكوفسكي ونيرودا وارغون وناظم حكمت التي كانت واضحة دائما ومعترف بها من قبل القاصي والداني فلقد كان هؤلاء اصحاب ارهاصات تجديدية، وطليعية صنعت شيئا مغايرا لآداب شعوبهم، هكذا كان ارغون السريالي وهكذا كان مايكوفسكي الذي القى تولستوي من قطاره، وتبنى المستقبلية وهكذا كان لوركا وناظم حكمت الذي كان المجدد الاول في الشعر التركي، يقدم لنا مؤلف الكتاب بديلا آخر. هل انتج اصحاب الاتجاه الاول شيئا يوازي ما انتجه هؤلاء المجددين اصحاب الثورات الشعرية المعروفة في الشكل والمضمون على الرغم من ان تجاربهم كانت تمس ارض الواقع، ولم يسقطوا في الاسفاف الشوفيني الذي كان واضحا دائما في نتائج الكثيرين من اصحاب الاتجاه الاول من اصحابه من الذين انضووا تحت لواء البعث ولبسوا عباءة العروبة المرقعة …
اما عن المغايرة الشكلية التي اوجدها الشعراء الستينيون فيقول مؤلف الكتاب في صفحة 225: “عاد الشاعر إلى عالمه الداخلي يغوص فيه، ويستجلي غموضه، ويكتشف حقيقة الإنسانية.. وطاف مع الحلم فيما وراء الواقع مغامرا في مطاردة المجهول، وربما عزا بعض النقاد هذه العودة إلى الخيبات والانكسارات عودة طبيعية لأنها عودة الشعر إلى ذاته وإلى منبعه الاصلي، ومجاله المستقل ونتيجة لذلك اخذ الشاعر الستينى يكتشف ضيق الأشكال الشعرية الخمسينية، وتكرار ايقاعاتها ونمطية ابنيتها، فراح ينقدها، ويتلمس لنفسه اشكالا جديدة ومفهومات جديدة تسوغها ” وهذا كلام سليم لو اخذنا كلام سامي مهدي على محمل الجد لاتضح لنا ان هذا الكلام لا ينطبق الا على شعراء على عدد أصابع اليد الواحدة ومن (الاتجاه الثاني) حصرا ذلك الاتجاه الذي لا يميل سامي مهدي إليه ويعده صاحب تجربة ضيقة ومفتعلة، وهم حصرا: سركون بولص، ومؤيد الراوي، انور الغساني وفاضل العزاوي، وجان دمو، وعبدالقادر الجنابي، وصلاح فائق، والاب يوسف سعيد، وعبدالرحمن طهمازي، وفاضل عباس مهدي… إلخ، اي اولئك الذين اوجدوا شكلا جديدا، وكتبوا قصائد مغايرة اي قصائد نثر حصرا، لان ما انتجه اصحاب الاتجاه الاول كان مجرد تنويع في البحور والوزن، فلقد كتب الرواد القصيدة بوزن واحد، ونوعوا في القافية والبحر اما الذين جاءوا بعدهم فلقد كتبوا القصيدة على اكثر من بحر، ولم يلتزموا بقافية، وهكذا فإن الاختلاف الذي يتحدث عنه سامي مهدي لم يكن له اية قيمة كما جسدته تجربة الاتجاه الاول، وكما نلاحظ هنا ثمة ادعاء مبالغ فيه في طبيعة التغيير، اذ انهم استخدموا الآلية القديمة ذاتها ولم يحدثوا اي فرق في بنية القصيدة، مثلما كان الرواد يكتبون القصيدة صدرا وعجزا ويحدوا شكل البيت، فإن الستينيين عمدوا إلى تطويل ذلك البيت وزادوه شبرا، وقيمتهم تكمن في ذلك الشبر.
يعيب مؤلف الكتاب على شعراء المنحى الثاني الذي تأثر بمجلة (شعر) اللبنانية متمثلة بفاضل العزاوي ومؤيد الراوي ومن لف لفهم.انهم اولعوا بما سماه الافراط في التجريب، ويقول أيضاً بعد أسطر قليلة ان فاضل العزاوي كان صاحب رسالة ايديولوجية، ومضمون هذه الرسالة هدم العالم القديم ومؤسساته المختلفة الدولة، والمجتمع، العائلة، الجنس، العقيدة ويقول كذلك كانت التفوهات التي يعلنها العزاوي مزيجا مشوشا من الافكار الدادائية والسريالية والوجودية والعدمية، اما على المستوي التطبيقي فهو انما يقلد ما توصل إليه من النماذج الشعرية الدادائية والسريالية ويقتبس منها ثم وجد ضالته في قصائد البيتنكس الاميركان لاسيما (ألن غيزبيرغ) فاقتفى اثرها لغة وبناء، خروجا منه على لغة الشعر الخمسيني وبنائه.
كان من الضروري بالطبع لصاحب الكتاب ان يقسم الجيل الذي ينتمي إليه، ولكن تقسيماته نمت تجاه اللا موضوعية، فهو يخبرنا أن التجريب الستيني ينقسم الى منحنيين مختلفين بعضهما عن بعض:
اولهما: هادئ ورصين ينطلق من داخل العمل الابداعي..
الثاني: جانح متطرف مقحم على العمل الابداعي من خارجه.
الاول، يحترم التراث ويتواصل معه ويعده رافدا اساسيا من روافده. والثاني، ينطلق من قطيعة مع التراث ناجمة عن جهل به او تعال عليه ومن تقليد للأعمال الاجنبية ناجم من انبهار بها او عن احساس بالحاجة إليها، وهنا يدين مؤلف الكتاب فاضل العزاوي حصرا على الرغم من انه يعد اندفاعه ذاك مهماً للشعرية العراقية، وهو حين يطرحه انموذجا، فإنه يقدم حسب الشيخ جعفر بوصفه انموذجا مغايرا. يقول سامي: “في الوقت الذي اتجه فيه حسب الشيخ جعفر إلى استثمار المنجزات التي توصل إليها الشعر العراقي على المستويين البنائي والايقاعي، وعلى الدوافع التي تقع في صميم العمل الابداعي، لجأ فاضل العزاوي إلى تقفي خطى بعض محاولات شعراء حركة البيتنكس ” . الشيء الغريب هنا ان سامي مهدي قدم هنا انموذجا وبديلا مغايرا لفاضل هو شاعر من الاتجاه الثاني، وليس من الاتجاه الاول الذي عده في مطلع كتابه صاحب المغايرة الكامنة ألا وهو حسب الشيخ جعفر.
وعلى الرغم من انه لا يقول بحقه جملة واحدة في معرض الثناء لأنه كان شيوعيا . الا من الواضح هنا ان مؤلف الكتاب كان متحاملا على فاضل العزاوي وداعما لحسب الشيخ جعفر على الرغم من أهمية فاضل كصاحب مشروع مغاير، ودوره في تطور الشعرية العراقية التي سرعان ما غيرت الشعرية العراقية تغييرا كاملا، ونسفت بنية الشعر التي ورثناها منذ معلقة أمرؤ القيس ، وهكذا فإن سامي مهدي حين يتحدث عن التغيير، يبدو كانه يسير في ركاب ذلك (الاتجاه الثاني) على الرغم من انه يؤيد قلبا وقالبا اصحاب (الاتجاه الاول) ان التغيير الذي يصدح به صاحب الكتاب يبدو محيرا فهو يتبنى الشكل الذي تطور مع سركون بولص وفاضل العزاوي وحسب الشيخ جعفر، وعبدالرحمن طهمازي، ولكنه ايديولوجيا مع اصحاب المنحى الاول الذين كانوا ملتصقين بالتجربة الخمسينية، اولئك الذين لم يتنكروا لمن سبقهم وكانوا مشابهين لهم، ولم يخرجوا من حاضنتهم الا قليلا. يقول سامي مهدي في صفحة 155:” إنه كتب مقالة طالب فيها بمنع مجلة حوار من دخول العراق لصلتها المشبوهة بالمخابرات الامريكية،” وهي مجلة ممتازة كان يصدرها الشاعر الكبير توفيق صايغ، ويفتخر كثيرا انه نتيجة لهذه المقالة منعت هذه المجلة من دخول العراق، على الرغم من انه عمل في جريدة (صوت العرب) التي كانت ممولة من قبل المخابرات المصرية كما يتضح من السياق، يعول سامي مهدي على وجهة نظر موسى كريدي النقدية في مجال الكتابة الجديدة التي لم تكن كذلك بالطبع الذي كان قاصا وشاعرا من وجهة نظره، وعلى وجهة نظر عبدالرحمن مجيد الربيعي، ويتجاوز كتابا آخرين اكثر اهمية منهم بكثير مثل محمد خضير وفؤاد التكرلي وجمعة اللامي ونزار سليم وجليل القيسي اضافة إلى ما ذكرناهم من شعراء وكتاب، وعلى الرغم من ان صاحب الموجة الصاخبة قدم لنا كتابا كان يفترض ان يميل به الميل إلى الموجة الصاخبة التي سمى بها المؤلف كتابه الا انه سار باتجاه مركبه إلى الموجة التي كانت هادئة، وذلك شيء لم يكن بحسبانه أيضاً، قدم سامي مهدي صورة كبيرة للجيل الستيني الا انه لم يكن موفقا. لقد قدم صورة معكوسة للجيل الذي انتما اليه العجب ان سامي نفسه كان ينتمي إلى الاتجاه الثاني ولم يكن يعرف، كان تحوله بطيئا، ولكنه في النهاية تبنى الشكل الذي رسخه فاضل العزاوي واقرانه، لقد كان الوحيد في الاتجاه الاول من دون ان يدري اما الموجودون معه فلقد تهاووا، ولم يتركوا لنا غير محاولات بائسة هجروها قبل غيرهم، وفي المشهد كله لم يتبق غير فاضل العزاوي وسركون بولص ومؤيد الراوي وعبدالرحمن طهمازي وانوار الغساني وحسب الشيخ جعفر وجان دمو وسامي مهدي بالطبع اين ذهب الآخرون؟ لقد لفهم النسيان وهم ما يزالون أحياء في قلب العالم ..
لقد كانوا جزءا من الهامش الحي الذي تحول إلى متن، دمر بنية نمط قديمة. وكانوا تجسيدا حيا للمقولة الهيغلية قضية نقيض ومركب .
….
*-هامش عام: يراجع كتاب الموجة الصاخبة، سامي مهدي، الصادر عن دار الشؤون الثقافية بغداد .