مرآتي في اليوم الخامس
وقفت امام المرآة صباحا لأغسل وجهي، فوجئت بفتى جميل، ينعكس فيها .. جفلت فجفل هو ايضا، تحركت يمينا فتحرك، وحين عدت الى الوراء والى اليسار كان يتحرك معي .. إنه أنا .. أنا بربيعي الخامس عشر .. يمشط شعره بالمشط القديم الطويل الذي اشتريته قبل أكثر من خمسين عاما، وكنت اضعه في الحافظة المعلّقة قرب المغسلة .. بينما أنا الآن أمسك مشطا مختلفا أمشط به شعري الذي توزع على كتفي مثل جناحي لقلق أبيض تشطرهما صلعتي اللّامعة تحت الضوء .. حين ابتسمت ابتسم هو .. حدّثت نفسي فتحدّث لكن بصوتي الطري القديم! ثم قال؛ سأخرج اليوم مع أصدقائي لحديقة الأمة .. قلت له انتظر سآتي معكم .. لكنه غادر المرآة وتركني في ذهول ..
لم اكلّم أحدا بذلك كي لا أتّهم بالجنون .. في اليوم الثاني، وما أن وقفت أمام المرآة، حتى وجدتني فيها ايضا، شاب بعمر الخامسة والعشرين تقريبا، عسكريا يتهيأ للخروج من البيت ليلتحق بوحدته في الجبهة .. وايضا كان يتحرك مع كل حركة أتحركها، وبعد لحظات قال لي؛ لقد تأخرت، ثم لوّح لي وغادر .. أما في اليوم الثالث، فقد وجدت في المرآة شابا ثلاثينيا نحيلا، كان أنا ايضا، بملابس رثّة وكان يتحرك معي حركاتي نفسها. حين ركّزت على ملابسه حنى رأسه خجلا.. في الحقيقة أنا الذي حنيت رأسي، بعد أن تذكّرت خيبتي حين فشلت في لفت انتباه أي فتاة بعد أن قررت الزواج .. مددت يدي في جيوبي فمدّ يده أيضا وحين رفعنا رأسينا، قال لي؛ سأذهب الآن لقد حصل لي صديقي على فرصة عمل (عتّال) في سوق الشورجة .. لمّا غادرني بدت المرآة أشبه بشاشة عرض سينمائي لحظة انتهاء الفيلم واشتعال الإنارة ، فشعرت بأني عاري أمامها تماما … في اليوم الرابع بدا الذي امامي خائر القوى خائفا يتلفت في المرآة .. لقد كان هذا شعوري وأنا انظر اليه وينظر لي .. قال لي؛ الشوارع مزدحمة بالجثث والرصاص وأنا اخشى حاملي السلاح .. انتبهت لوجهه فتذكرت كيف عدت مرعوبا بعد أن كاد يمزقني انفجار رهيب، لكن الرعب أحالني الى كائن آخر حين أوقفت سيطرة وهمية السيارة التي تقلنا.. في اليوم الذي تلا تلك الحادثة صرت أرى الشوارع كائنات خرافية لها مخالب سوداء مخيفة، وبين ايديها سكاكين للذبح، ثم نظر لي بحزن وقال بصوت متهدج؛ لابد من الخروج والذهاب للعمل والاّ متّ جوعا ..
في اليوم الخامس حين وقفت امام المرآة، كانوا جميعهم امامي .. الفتى الجميل الذي يمشط شعره الكثيف ويستعد للذهاب الى حديقة الأمة، والشاب العشريني المحارب، والثلاثيني الجائع في سني الحصار، والأربعيني الذي يسكنه الخوف ورعب الشوارع والسيطرات الوهمية .. كانوا أمامي يتحركون مع أي حركة اقوم بها وكإنهم صف عسكري يتحرك بأوامر صارمة .. خنقتني العبرة وانا انظر لوجوههم بصمت، ورأيت العبرة تخنقهم ايضا.. قال لي الفتى؛ لماذا أغرتك السنون وتركتني؟.. لقد نسيت البهجة بعد أن ابتعدت عني وأبقيتني ذكرى .. حنى العشريني رأسه وقال يخاطب الفتى؛ وأنا ايضا تركني أبحث عنه في الملاجئ على الحدود، انادي بأسماء اصدقائي الشهداء، فيضيع صوتي بين صمت الملاجئ الخاوية، وغادر هو الى حيث المدن الآمنة والحياة الجميلة! .. وضعت رأسي بين يدي فوجدتهم كلهم يضعون رؤوسهم بين أيديهم، لكن الجائع المحاصر كان أكثرهم قسوة معي.. قال وهو ينظر لي؛ لم تكن رحيما بجسدي، لقد طحنته الأحمال التي كنت تضعها عليه حتى تركته حطاما ومضيت .. حينها كان الخائف قد خرج من المرآة .. خرج واحتضنني بعد ان اجتاحتني رجفة اعقبها بكاء مرّ .. كانت قد ضجت به المرآة التي وجدت نفسي وسطها محاطا بالأربعة .. وهم يشدون على جسدي النحيل ويبكون بحرقة.
هممت بالخروج من بيتي الصغير فوجدتهم معي، يحيطونني وشيء من الفرح تملّكني للحظات .. وحين فتحت الباب لفحتني ريح جافة ايقظتني من حلمي واشعرتني بوحدتي .. كان هناك اربعة شباب من ابناء منطقتي، بأعمار متفاوتة، قد مرّوا من أمام بيتي ولمّا رأوني وقفوا قبالتي، تقدم اكبرهم نحوي ووقف الآخرون ينظرون اليه .. امسكني من يدي برفق وقال لي؛ هل مرّ عليك أحد من أولادك ياعم أم مازلت وحدك في البيت؟ ..