قصة قصيرة “رحلة القطار القديم”

شارك مع أصدقائك

Loading

عبدالامير المجر

غمرني الفرح وكنت اشبه بالنورس الصغير، ارفرف بجناحيّ القصيرين بين يدي أمي التي لا اعرف كيف ادخلتني القطار، لقد وجدت نفسي بين اناس كثيرين من الصغار والكبار .. قطار طويل جدا، لم استطع تبيّن مقدمته ولا اعرف اين تنتهي مؤخرته، ولم يشغلني ذلك .. حين استقررت على الكرسي قرب أمي التي كانت تمسك بي وتداعبني بلطف، لم انتبه الى الممر الضيق الطويل على جانبه الأيسر .. أمي ولكي تجعلني اكثر سرورا، اجلستني قرب النافذة لأتمتع بمرأى المناظر التي يمر بها القطار، وكلما اتسعت عيناي اكثر شاهدت مناظر أبعد حتى صار بعضها يخيفني، فأدير عينيّ عنها وانشغل بالأشجار القريبة من السكة والبساط الأخضر المحاذي لها ..
حين غفت امي تسللت زحفا في الممر الأيسر الطويل، يدفعني الفضول لأرى حركة الناس .. بعضهم صار يصرخ بي لأتوقف وينبّه الأخرين كي لا يسحقوني بأحذيتهم .. في البعيد رأيت رجالا ونساء يتدافعون عند باب للقطار، يضيق ثم يتسع، ومع كل اتساع يتساقط منه عدد من المتدافعين، بينما الركاب الآخرون مشغولون عنهم، يتناولون الأطعمة والمشروبات، وبين الحين والآخر يسود المكان هرج ومرج، ضحك وغناء، صراخ وبكاء، فيزداد عدد المتساقطين خارج القطار الذي يواصل سيره من دون ان يبالي سائقه بما يحصل … حين لمحت أمي قرب الباب الذي يدفع بالأجساد الى الخارج صرخت خائفا .. امسكتني أمي التي جاءت تتّبع أثري، وقد وقفت ورائي ورفعتني من شعر رأسي فأحسست حينها بأني اصبحت طويلا، وحين مسحت وجهي تحسست ذقني فشعرت بشيء من الدوار .. التفتّ اليها فلم أجدها .. عدت مسرعا الى المكان الذي اجلستني فيه لعلي اجدها هناك، لكني وجدت فيه صغيرا يجلس قرب أمه .. شعرت بالخوف، الاّ ان امرأة طويلة وبملامح حادّة كانت تقف قربي، حدّقت بوجهي قليلا ثم ناولتني شيئا حسبته ماء، وكنت اشعر بالعطش .. شربت فانطفأت الأشياء من حولي قبل أن اجد نفسي صغيرا، أمسك برقبة أمي التي كانت تهمّ بصعود القطار نفسه، لم يتملكني الفرح كالمرّة الاولى، وحين وجدت نفسي على كرسيي القديم، كانت قربي امرأة عجوز تحدّق من خلال النافذة في المناظر التي كنا نمر عليها، وبين حين وآخر تلتفت لي وتسألني .. كم بقى من الزمن لنصل؟! … كانت امي خلف النافذة، كما لو انها تطير في الفضاء جوار القطار، تلوّح لي بيدها وكنت أهمّ بالخروج اليها ولا اعرف كيف، فأشارت لي العجوز التي بجانبي أن اسلك الممر الأيسر .. عندما وصلت الباب الذي يضيق ويتّسع، وجدته مفتوحا فهبطت بهدوء وحدي .. كان طيف أمي يطفو في الأفق كالسراب ويبتعد كثيرا عن سكة القطار الذي كان يتمدد ولم أجد له مقدمة أو مؤخرة .. طيف أمي يتلاشى وانا خلفها يغمرني الأفق بنشوة وخدر ولم أعد اشعر بشيء ولم اعرف الى أين كان يتجه القطار!
شارك مع أصدقائك