فاطمة المحسن
يكاد سعدي يوسف بين الشعراء العرب، ومن أجيال مختلفة، أن يكون الشاعر الأكثر غزارة في نتاجه المتأخر. وينفرد بميزة القصيدة الواحدة التي يعيد مشهد الطبيعة الأوربية كتابتها. قصيدة رعوية مفرداتها الشجر والطير والحيوان، يعلن الشاعر عبرها عن فرحه واحتفائه بتراسل الكون، وفي ذبذبات الإحساس بالحياة. فنسغ الزروع الذي يحاوره ويداوره، يشبه غبطة الشيخوخة بإشراقة حب جسدي يومض بين الرماد. وهكذا يصبح بمقدوره تسجيل انتصاره صحبة امرأة يذكر اسمها، بل يقدم صورتها إلى القارئ كي يكون خلف بابه الموارب. ملذات التمتع بالنبيذ الذي يعشق، وغبش الصباح المطير، ودعسات القدم على أوراق العشب. هِبْات الشيخوخة الرحيمة التي يدرك الشاعر انها استئناف ليوم آخر.
في مجموعتين اصدرهما ” في البراري حيث البرق”
و” الديوان الإيطالي” ، يمكن أن نلحظ التواريخ التي تسجل له قصيدة أو قصيدتين كل يوم، وفي أحسن الأحوال أربع قصائد كل شهر، وهي نصوص ليوميات يدوّن فيها مرئياته وانطباعاته في أماكن خارج المدن،حيث الغابات ودروب القرى والمرتفعات والوديان.
ولكن سعدي يوسف لا يرى في جمال الطبيعة ذلك التسامي الذي يمنحه جلال وفخامة وجودها الأبدي، أي غائيتها التي تحيل إلى مضمرات عقلية، كما عند الرومانسيين الانكليز مثلا، بل يرى فيها الانسجام الذي يعثر عبره على حسية التواصل في كينونة وجوده بين مكانين، عالم رحل عنه وآخر يهرب إليه ويغترب عنه :
” كيف لي أن أفوز بشبر من الأرض
أمضي به، والغزالة، حتى النهايات؟
حتى أرى البحرَ أصفرَ
والسعف أزرق
والشمس خضراء..
كيف السبيلُ إلى ذلك الشِّبْرِ؟
حيث الغناء الذي يترنّحُ
والطيرُ
حيث الصلاصلُ موج،
وحيث الفضاء النشيد..”.
تذهب هذه القصيدة وعنوانها ” مبحث المكان” إلى ما كتب سعدي في سبعينات القرن المنصرم: الجملة الاسمية المقتصدة،والتأخير والتقديم وأدوات الربط في لغته التي قلدّها من اتبعوه. ولن يكون لهذا المأرب من مهرب سوى الإحالة إلى زمان التمني “كيف لي ” وهو يرتبط بالماضي. وكي يسمي الأشياء باسمائها، يكتب في قصيدته ” عند بحيرة الأنهار الثلاثة”
” من أعلى البحيرة
مرّ سرب من الوَزِّ العراقي،
اشرأبت له الأعناق.
كان الوزُّ يمضي سريعا، يطلق الصيحات،
عنقا يكاد يطول عُنقين..
السماء التي انفتحت تقول له: إلى أين تمضي؟
هل مقاصدك الجنوب الذي تدري…
أم الأمل الشمال؟” .
الاسئلة عند سعدي يوسف تحيل الى اسئلة تشبهها، حتى تنبثق من لحظة الشك، يقينيات هي أقرب إلى بداهات، فما يحاول أنْ يبقيه في شعره هو بنية الحوار، الاقتراب من النثر بما تشترطه التفعيلة من رابط يشد نصه. ولكنه وهو الناقم على قصيدة النثر، يكتب نصا نثريا في الديوان الايطالي يستكمل قصيدته (Costa) يقول فيه:
” ما حدث في ما يسمى ” قصيدة النثر العربية” كان على الضد مما اقترحه بودلير المؤسس، لا جهلا بما اقترحه الرجل، لكن خوفا من التبعات، لأن المتنفذين في (قصيدة النثر العربية) هم صحافيون محترفون، في صحافة محترفة، أي فاسدة “. وتلك الانعطافة الغرائبية في قصيدته، تبدو وكأنها تمثل لحظة سوداوية في مزاجه الشعري، ولكنها لحظة تدرك أن القول الشعري في تداعيه، يقود إلى قصيدة تنزع عنها قيودها، وهذا ما حاوله في مجموعة من القصائد في هذا الديوان، والمقاطع النثرية او التقريرية جاءت في الغالب إضافات أو إضاءات أو شرحاً للقصائد ذاتها، فهو هنا يمزج النثر بالشعر أو يسوق التقرير إلى القصيدة. هل حاول سعدي يوسف ما حاول بودلير في “سأم باريس” مثلا كي تستقيم قصيدة النثر التي ضلت دربها، كما يعتقد، أو ان تلك الانعطافة المفاجئة لقصيدته هي استكمال لشعر يكاد يتحول إلى تدوين يوميات نثرية حتى ولو لم يختلف مشهدها؟
الكتابة عند سعدي يوسف ،كما تبدو في دواوينه الأخيرة، فعل وجود وكينونة لا بد من تحققها كي يستمر في العيش، فسعدي كما نظن، حالة شعرية ينبغي أن تُدرس خارج فضاء المصطلح الشعري، وهو فضاء يتحول إلى إسقاطات متخيلة أو متوهمة في أفضل حالاتها. أنه يقف عاريا أمام قارئه، وهو يمتح من ذاكرة قصائده القديمة، من مفرداتها وصورها، بيد أن الذي اختلف لديه مناسبة القول، حيث القصيدة تنتظر الشاعر في منعطف كل الدروب التي يمر بها، فالكون كله لحظة شعرية يخاف أن تفلت من ناظريه : ” اقول التقيت فلاحا!” :
” لِمَ لا تتعلم من الفلاح الإيطالي ؟ أليس هو حليفك في الثورة التي طال ما أسرفت في الكلام والكتابة عنها؟” تدخل السرديات في “الديوان الإيطالي” على بعض قصائده، متخلية عن كل شروط الشعر، بما فيها اشتراطاته لقصيدة النثر في مفهومها العربي والغربي : ” البارحة انضمت سيلفانا إلينا قادمة مع فوزي من ميلانو. اكتمل الشمل. آخر مرة رأيت فيها سيلفانا، كانت أوائل التسعينيات، بدمشق. كانت تزور مع فوزي العاصمة السورية للمرة الأولى. وقد أحبت دمشق.”
دفاتر سعدي الشعرية الأخيرة، هي تدوين لحياته لحظة ما يشاء، وتكون ساعات الفجر والغروب هي ساعاته المنتظرة، فالشعور المتمركز حول صورة الإنبثاق والأفول تشغل مروياته، مثلما يشغلها التعبير الشخصي عن احتفائه بالسفر إلى جهات العالم. لعل مسرحه او برهته الشعرية لا تحتاج إلى ديكورات وممثلين، فالشاعر وحده يقف على خشبتة ويرفع صوته وينزله من علياء المكابرة:
في هذا الأحد المُبْتَلِّ ككلب الراعي اشتقتُ إلى بلدي
أنا منذ الصباح أقول: اشتقتُ إلى بلدي
وهن العظمُ
ورأسي مشتعلٌ شيباً…
في هذا الأحد المقرور اشتقتُ إلى بلدي
أمضيت صباحي في الساحة والمقهى
غمغمتُ على ضفة النهر الجبليّ صلاة متأخرة
لكني أرتعشُ
البرد تغلغل كالإبر الثلجية في الدم..
دائما يراهن سعدي على بساطة تباغت قارئه، ويسحره بتلك اللقى النادرة التي يصادفها الشاعر في دروب الحياة لا خارجها،و لكنه وهو يغذّ السير في هذه الدروب يجد نفسه في منعطف لا بد من بلوغه، وها هو قد بلغ منعطفه الأخير .