كامل عبد الرحيم
كان الباص رقم (30) يسير مزهواً ، ليس بنفسه ولكن بالشوارع والساحات التي يخترقها ، يبتدئ من ساحة التحرير (في نفس المكان الذي تنتصب فيه خيمة الشيوعيين ، خيمة ثوار التحرير) ليقصد حي المنصور ، يدور على الساحة ماراً بمنصة أنيقة من الطراز الستيني ، تم تشييد المطعم التركي في مكانها ، كانت المنصة واطئة نسبياً ، أحبها عبد الكريم قاسم فأدمن إلقاء خطبه الطويلة من شرفتها ، ومنها أيضاً أطلق صدام حسين تساؤله المُلزم ، لجمهور متحمس بداية انقلاب 1968 (إعدام الجواسيس …ماذا تريدون) ، ثم يتمايل الباص بالقرب من لوحة إعلانات ضخمة ، تعلن عن آخر الأفلام ودور عرضها ، ومن عنق شارع الرشيد حيث تسجيلات (جقماجي) لبيع الأسطوانات وأشرطة التسجيل ، وفي المحل الأنيق بالواجهة الزجاجية الواسعة ، تلمح ابن صاحب المحلات ، سمير ، بشحمه الفائض ووجهة العابس منهمكاُ بعمله ، يمر الباص بالقرب من مطعم (همبركر أبو يونان) في السنك ، في المكان المقابل لمرأب السيارات بطوابقه المتعددة حالياً ، من هذه المحطة كنا نستقل الباص مغادرين مدرستنا (إعدادية النضال) متوجهين إلى منازلنا في حي المنصور ، نصعد إلى الطابق العلوي ، حتى يتسنى لنا رؤية أوروزدي باك قبل عبور جسر الأحرار .
كان هذا عامي 1969 و1970 وما بعدهما ، كنا مجموعة طلاب ، اذكر منهم ، سلام جاوي ، الذي أصبح طبيباً يقيم الآن في بريطانيا ، وزهير عبد علي تويج ، وقد أصبح طبيباً هو الآخر ، لكن أخباره انقطعت عني منذ ذلك الوقت ، ونعمت الياس حسو ، ابن صاحب محلات الياس حسو الشهيرة في شارع الرشيد ، وقد انقطعت أخباره أيضاً .
في طريق الذهاب ، عندما نستقل الباص من جهة المنصور قاصدين مدرستنا في منطقة السنك ، كنتُ أرى دائماً ، شاباً قد يكون بعمرنا ، يجلس وحيداً في مقدمة الباص ، مثل البطلة في الفيلم (تايتانيك) ، رغم صخبنا أو لهونا في الطابق العلوي ، لم يكلف هذا الشاب نفسه يوماً بالالتفات إلينا ، أبداً ، كان يشبه أحد إخوتي ، ولما غاب هذا الأخ لأمر يخصه ، ازداد تعلقي بهذا الشاب ، وكان شملنا قد تفرّق ، بعد إكمال الإعدادية ، لكنني بقيتُ مواظباً على ركوب الباص رقم 30 ، كان الشاب أسمر الوجه حريصاً على حلاقته دوماً وبلا شاربين وينظر إلى نقطة متوسطة في الأفق ، ليست عالية في السماء أو منخفضة ، أحاول أن أرّكز على وجهه ، فأرى شبح ابتسامة ، تغيم بين البلاهة والسخرية ، ولم أحصل أبداً على نظرة خاصة منه ، لكنني رأيته ينزل من الباص أو يستقله ، بخطوات ثابتة ومشيته تشبه نظرته ، منحرفة مثل (فُرجال) يرسم طريقه بثقة .
كان في تلك الأيام أنيق الملبس ، لكن بمرور الزمن أخذت ملابسه بفقدان لونها من الشمس والتهرؤ . وأخذتني دورة الحياة ، وانتقل طريقي من الباص رقم 30 إلى الباص رقم 57 أو 23 أو 69 ، حسب مكان عملي ، وفي نفس الوقت انقطعت أخبار أخي هذا ، وكلما قلقتُ عليه أو ازدادت لهفتي إليه أتعمد الركوب باص رقم 30 ، لأرى شبيهه ، الشاب الأسمر الحليق بنظرته المنحرفة إلى نقطة غامضة ، يجلس وحيداً في مكانه بابتسامته المتأرجحة بين السخرية والاستجداء .
في ذروة الحرب الإيرانية ، وكنت في ذلك الوقت أصبحت استخدم سيارتي الخاصة بالطبع ، ركنتها في مرأب السنك حديث الإنشاء ، ونزلت من سلالمه وأنا أردد أغنية نجاة الصغيرة (طول عمري أحبك وأشكيلك) فلمحتُ من بعيد الباص رقم 30 ، وبلا تردد نظرت إلى طابقه العلوي فلم يخب ظني ، رأيتُ صاحبي في مكانه ، كان على المشي كرياضة صباحية من السنك حتى السوق العربي ، حيث يكون عمالي افتتحوا دكاني ، لكنني ، ولما تمهّل الباص بالقرب مني صعدتُ إلى طابقه العلوي ، وجلستُ خلف صاحبي ، وكليّ تصميم بكشف سره ، وأين يذهب . أخذ الباص باللهاث وركابه يغادرون فلم يبق غيري وغيره ، حتى آخر الخط في نهاية شارع 14 رمضان ، بالقرب من (سهام العبيدي حالياً) ، نزل صاحبي ، وقد أخذ بالهزال ورثّت ملابسه أكثر ، سألتُ نفسي (ما موقفه من الخدمة العسكرية) . نزل من الباص واقتفيتُ أثره ، تاركاً مسافة معقولة ، وفي كل الأحوال لا يبدو عليه أنه يعباُ بأحد من هذا العالم ، لم يُتعبني كثيراُ ، كانت بغيته قريبة ، جامع المأمون في نهاية شارع 14 رمضان من الجهة المقابلة ، ثم دخل الجامع بثقة ، وعدتُ إلى عملي شبه خائب .
بعد أعوام أحال الباص رقم 30 نفسه إلى التقاعد وجميع خدمة نقل الركاب العامة تقريباً ، وتوسع عملي وأخذتني الحياة ، فأصبحتُ أرى صاحبي بين فترات متباعدة جداً ، وهو يركب سيارات النقل العامة الصغيرة وهو يتمسّك بشباكها الأخير وينظر نظرته الساهمة أو يخطف مسرعاً في نهايات شارع الرشيد أو بالقرب من منطقة الجامع ، كان عمره يتقدم بطريقة غريبة ، فهو يزداد طولاً وتعود قامته إلى الخلف ، وخط الشيب شعره بخطوط رفيعة ، ملابسه نفسها ، رثة لكن نظيفة ، بدأت بالترهل ، وهو يمسك بقوة بحقيبة أكثرَ من تصليحها ، يحتضنها إلى صدره موحيةً بثقل محتواها . في أحد الأيام داهمني اشتياق عابر لأخي الغائب ، وكذلك فضولي لمعرفة طبيعة عمل صاحبي ، فاغتنمت فرصة مروري بالقرب من جامع المأمون وقت صلاة الظهر .نادراً ما أدخل جامعاً ، احتراماً طبعاً ، حتى إذا ما احتجت دورة مياه أبتعد من الجامع ، دخلتُ ذلك اليوم مع المصلين وهم يقصدون حمامات الوضوء أولاً ، دخلتُ وأنا أبحث عن صاحبي ، فلم يُكلفني بالبحث أبداً كان في دورات المياه ، وقد شلّه ملابسه إلى الأعلى ، فوق الركبتين والمرفقين ، كانت ابتسامته انفرجت عن علامة رضا وحبور وهو يقوم بعمله خادماً لحمامات الجامع ، انتظرت أن يتكلم مع أحد المصلين أو ينطق بكلمة ، لم أفلح ، لا أظنه أخرس ، كان هو هكذا ، محلقاً بمنطقة ما بين الشيخوخة والشباب ، قامته تعود للخلف حتى يكاد ينقلب على ظهره ، مكتفياً من هذا العالم بحنفيات الحمامات وفناء الجامع الذي يحرص على تنظيفه .
مرت السنون ، وقد لعبت بي الحياة وأقبلت وأدبرت ، حتى نسيتُ صاحبي أو كدتُ ، حتى انتبهتُ قبل أعوام ، وقد تركتُ ركوب كل شيء وكل عمل ، وأخذتُ بممارسة رياضة المشي ، فأمر بالقرب من الجامع ، وفي أحد الأيام رأيت آلات ثقيلة للهدم تقوم بهد الجامع ، جفلتُ في مكاني وكأن بيتي يتهدم ، بحثتُ في الأرجاء ،رأيت لافتة تُعلن بأن الوقف السني سيقوم بإعادة بناء وتأهيل جامع المأمون ، كان صاحبي يقف في الشمس بالقرب من اللافتة ، وهو يبتسم ، بدأت ابتسامته تأخذ بالخذلان . كان العمل في إعادة تأهيل الجامع بطيئاً ، وصاحبي مازال واقفاً قربه آناء البرد والمطر والشمس الحارقة ، لم يكن يوماً بهيئة متسول ، وكلما أهمُّ بإخراج معونة له ، أخجل منه ، وربما من أخي البعيد ، وأتركها لمناسبة أخرى ، قبل أيام تعمدتُ الذهاب إلى الجامع ، وكنتُ في طريقي لشأن ما ، الجامع على وشك الاكتمال بحلته الجديدة ، لكن صاحبي اختفى ، بحثتُ عنه عبثاً ، لا يمكن أن يكون انتقل إلى مكان آخر ، فهو نفسه المكان ، أبعدتُ بقوة فكرة موته ، فبدا لي خالداً على نحو ما ، أمسكت باللافتة بقوة وخرجت مني آهة محروقة …أين أنت يا صاحبي ….أين أنتَ يا أخي…بل أين هزيمتي وهزيمتك .
معادة بألم ومهداة للأصدقاء والمتابعين الجدد *