لطفية الدليمي
…..
ماهو مصير الادب والنقد الأدبي إزاءتغول الاسواق الحرة ؟
كالعادة، وكما هو متوقّعٌ منه كلّ سنة، لم يتأخّرْ تيري إيغلتون Terry Eagleton،المشتغل في حقل الافكار العامة والدراسات الثقافية، في طرح نتاجه الذي صار واحداً من تقاليد منشورات جامعة ييل الامريكية المعروفة بسطوتها النخبوية.
لم أتأخّرْ كعادتي في قراءة مقدّمة الكتاب الجديد لإيغلتون الذي إختار لكتابه عنوان الشيء الواقعي: تأمّلاتٌ في شكل أدبي
The Real Thing: Reflections on a Literary Form
والكتاب حديث النشر من مطبوعات جامعة ييل لعام 2024.
لااريد هنا تقديم قراءة أو مراجعة للكتاب رغم أنني قد فعلتُ مع كتب سابقة لإيغلتون نشرتها جامعة ييل. حفّزني هذا الكتاب للتفكّر الحثيث في التاريخ الفكري لتطوّر الادب ومتفرعاته (النقد الادبي مثلاً) في سياق تطوّر السياسات (الدراسات) الثقافية على المستويين الشخصي والجمعي.
يصلحُ إيغلتون ذاته مثالاً قياسياً للتغيّرات المتطرّفة التي صاحبت الحرفة الادبية منذ سبعينات القرن الماضي حتى يومنا هذا. الرجل ماكنة عمل منتجة وخلّاقة، ولا أظنّه سيتوقّفُ يوماً عن العمل والانتاج. السؤال هنا: ما طبيعة عمله اليوم؟ وكيف يتمايز عن أعماله السابقة؟
بدأ إيغلتون عمله في عصر مابعد الحداثة التي تكاثفت غيومها فأمطرت مفاهيم جديدة مبشّرة بميتات عديدة (موت المؤلف مثلاً)، وخالقة لممارسات ثقافية غير مسبوقة، وناسفة للسرديات الكبرى. صارت الموضوعات الصغيرة التي يمكن توليفها في صورة كولاجية أهم بكثير من مقاربة السرديات الكبرى التقليدية( ولادة، حياة، موت، شيخوخة،،،،،). تناغمت النظرية الادبية في هذه الحقبة مع المستجدات الادبية، وعدّل النقّاد الادبيون من طبيعة عُدّتهم النقدية بما يتماشى مع الاشتراطات الجديدة. لم يخرج إيغلتون عن سرب النقد مابعد الحداثي، وجاءت أعماله تطبيقاً متوقعاً للمواضعات مابعد الحداثية في خريطة الادب برغم أنه (إيغلتون) حرص على تضمين أعماله جرعة آيديولوجية ماركسية الطابع، ربما يصح لنا توصيفها بالماركسية المتثاقفة.
حصلت الانتقالة الفكرية الثانية لإيغلتون مع إنحسار أطروحات مابعد الحداثة وشيوع الدراسات الثقافية بديلاً ممكناً ومقبولاً للنقد الادبي. لم يعد مقبولاً في هذه الحقبة أن يُنْظَرَ إلى الادب بكونه مملكة جمالية معزولة يمكن تشريح عناصرها باستخدام مبضع الناقد الادبي(الكلاسيكي)؛ بل لم يعد وارداً الحديثُ عن ناقد أدبي في عصر الدراسات الثقافية. لم يعد الادب خبرة شخصية محصورة في نطاق الرؤى الجمالية والاعتبارات البلاغية والالاعيب اللغوية والتبصّرات الفلسفية بقدر ما صار ميداناً إختبارياً لإشتباك عناصر مؤثرة في النسيج الفردي والمجتمعي على شاكلة: الذاكرة، الهوية، النوستالجيا، الهجرة، الاعطاب Trauma النفسية، النسيان، التابع والهامش في مقابل المركزيات المهيمنة. أظنُّ أنّ كتاب مابعد النظرية After Theory (مترجم إلى العربية) الذي كتبه إيغلتون عام 2004 هو مرثية ضاجّة للنظرية الادبية والثقافية (الكلاسيكية) مثلما فعل مع مابعد الحداثة في كتابه أوهامُ مابعد الحداثة. أراد إيغلتون في كتابه مابعد النظرية تحقيق هدفين: الاول، تقديم مسح تاريخي لتطوّر النظرية الثقافية منذ ستينيات وحتى تسعينيات القرن العشرين، مع التأشير الواضح على ما رآه إيغلتون مكامن الانجاز والعطب في تلك النظرية؛ أما الهدف الثاني فهو تأسيسُ نظرية ثقافية بديلة تستبدلُ التعامل مع الموضوعات (الادبية) الكلاسيكية بموضوعات ثقافية جديدة جرى التعتيم عليها أو تغافلها من قبلُ، على شاكلة: الحقيقة، الموضوعية، النسق الاخلاقي، الثورة، الاصولية،،،. تداخلت النظرية الثقافية بكيفية عضوية مع النظرية الادبية؛ وعليه صار في عداد البديهة العامة أن يستظلّ النقد الادبي بظلال النقد الثقافي. لكن هل يوجد نقد ثقافي حقيقي؟ نحن سمعنا بالدراسات الثقافية. الحقُّ ليس مِنْ خلفية مفاهيمية تُعْلي شأن أي نقد سواء كان أدبياً (كلاسيكياً) أو ثقافياً (في سياق الدراسات الثقافية). التسويغ هو أنّ واحداً من مرتكزات مابعد الحداثة ومابعد النظرية هو الاطاحة بفكرة وجود ناقد أدبي أو ثقافي. هناك دارسٌ أو مشتغل ثقافي فحسب. إنّ فكرة الناقد، أيّاً من كان، تتأسّسُ على وجود مرجعية تقييمية كما مدرّس المدرسة الذي يُعهدُ إليه أمر ترتيب الدارسين في توزيعات تمييزية طبقاً لإنجازاتهم المدرسية. الادب أو الثقافة ليس مدرسة أو جامعة، ومن غير المنطقي أن يلعب فيها الناقد دوراً مرجعياً. المرجع هو القارئ. أنت تقرأ وترى ما قد يكون ملائماً ومتناغماً مع ذائقتك الادبية والثقافية بعامة. لستَ في حاجة لوسيط مرجعي من أي لون أدبي أو ثقافي. لن يقبل كثيرون بهذه التخريجة وبخاصة مَنْ تحصّلوا على شهادة الدكتوراه في النقد الادبي. سيرون في هذا تغييباً لمكانتهم الاكاديمية وانحساراً لأدوارهم على الصعيدين الجامعي التخصصي والثقافي العام؛ لكنّ هذه بعض تشكّلات عصرنا وما يستلزمه من تبدّلات. ماذا سيفعل أطباء الاشعة مثلاً لو بلغ الذكاء الاصطناعي طوراً صار قادراً فيه على تشخيص الامراض عبر قراءة الصور الشعاعية بأفضل ممّا يفعل الاطباء الممارسون؟ لا مفرّ من أن ننقاد إلى قوانين العصر ومتطلباته، وأنّ نُغلّب المصالح العملية على الآيديولوجيا أو التقاليد الكلاسيكية غير المنتجة.
يبدو أنّ قوانين السوق الحرّة لم تعُد تقبل المكوث في النطاقات الاقتصادية؛ بل إمتدّت إلى عالم الافكار. حتى الدراسات الثقافية ما عادت غطاءً مقبولاً لكي يستظلّ الادب ( والنقد الثقافي) بظلّه. تعاظمت الدعوات للتعامل مع الادب كمنتج سلعي مطروح في سوق حرّة، ودينامياتُ هذه السوق هي الفاعل الوحيد الذي يجب العمل على جعله مسباراً لفرز الاعمال من حيث مقروئيتها. المقروئية صارت هي العنصر الحاسم في تحديد مكانة الكاتب والكتاب، والـ (بست سيلرز Best Sellers) هي المؤشر الوحيد على المكانة، وكلّ ما عدا قوانين السوق الحرّة لن يكون سوى كابح إصطناعي مشابه للقوانين التقييدية في الدولة الشمولية التي هي العنوان الشامل للأدب الاورويلي Orwellian Literature ( إشارة إلى جورج أورويل). هكذا تمّ تحييد الناقد الادبي والثقافي عبر تحطيم فكرة المرجعية الادبية والثقافية أولاً، ثمّ بمدّ سياسات السوق الحرة إلى ميدان الادب والاشتغالات الثقافية.
جرّبتُ بنفسي إختبار هذه الحقيقة. الاختبارُ في غاية اليُسْر: سأعملُ على البحث في أمازون على الكتب الجديدة التي تنتمي لحقل النقد الادبي في القرن الحادي والعشرين. كثرة المنشورات في حقل معرفي دلالة مؤكّدة على شيوع ذلك الحقل وسطوته في حياتنا السائدة. مصداقُ ذلك مثلاً أنّ أحدنا لو جرّب البحث في أمازون عن كتب في الذكاء الاصطناعي لانهمرت عليه شلالات من العناوين في شتى حقول الذكاء الاصطناعي بحيث سيُدفعُ المرء دفعاً لتخصيص نطاق بحثه وحصره في نطاق ضيق، كأن يكون أخلاقيات الذكاء الاصطناعي مثلاً. عندما مضيت في تجربتي مع النقد الادبي في القرن الحادي والعشرين ظهرت لي- كما توقّعت- عناوين محدودة منها مثلاً: النقد الادبي في القرن الحادي والعشرين: إعادة بعث النظرية
Literary Criticism in the 21st Century:
Theory Renaissance
هل لاحظتم العنوان الثانوي؟ إعادة بعث النظرية. هذه إشارة إلى أنّ النقد الادبي (والنظرية الثقافية) توارتا تحت غطاء ثقيل فرضته حالة عالمية لا يمكن ردّها (هي العولمة الاقتصادية وقوانين السوق الحرة). هل سينجح مؤلف الكتاب في بعث أمجاد النظرية أو على الاقل جعلها تتواءم مع المتطلبات المعاصرة؟ لا أظنّ ذلك.
ربما ميدانٌ آخر هو مصداق إضافي على وضع النقد الادبي والنظرية الثقافية في حياتنا الفكرية العامة- ذاك هو ميدان النشر. كان باب النقد الادبي أحد الابواب الرئيسية في المطبوعات الثقافية العالمية صحفاً ومجلات ودوريات ومنشورات جامعية محكّمة ومراجعات الكتب. اليوم قلّما نجد عنواناً فيها تحت لافتة النقد الادبي. مراجعات الكتب هي الطاغية، وحتى المراجعات هي أقرب لعروض حيادية لا تنطوي على أي جهد تقييمي. واضحٌ أنّ المراجعات تأتي في سياق السياسة الترويجية للكتاب وليس في سياق تقييم نقدي له. دور النشر صارت إمبراطوريات مالية عظمى، وليس من اليسير مواجهة سياساتها أو الكتابة بما يسيء إلى منشوراتها. نحن في سوق حرّة للأدب، معيارها هو المال المتحصل من بيع الكتاب الذي صار سلعة حقيقية -وليس رمزية فحسب-، وسياساتها هي تعظيم مقروئية الكتاب عبر الترويج الممنهج له. كلّ ما يعرقلُ سياسة الترويج هو عنصر معطّل لسياسة السوق الحرة ويجب كبحه وإخراجه من اللعبة الادبية.
لا أعرف كيف يصف إيغلتون نفسه اليوم. بدأ ناقداً أدبياً ماركسياً، ثمّ مُنظّراً ثقافياً، ثمّ مشتغلاً في حقل الافكار العامة، وهذا ما تشي به عناوين سلسلة منشوراته السنوية في جامعة ييل الامريكية، ومنها كتابه الاخير عن الواقعية. أظنّه يقضي أيامه اليوم وهو مسكون بحنين لا ينقطع إلى سنوات سابقة كان فيها الادب أبعد ما يكون عن سيف قوانين السوق الحرة؛ لكنّ الحظ شاء له أن يعيش ليشهد ما لم يتوقّع أن يشهده يوماً حتى في أقسى كوابيسه.
ليس لك يا إيغلتون، وليس لنا معك، سوى أن نتجمّل بالصبر ونرى إلى أين سينتهي الادب في سوق حرّة متغوّلة.