د. أمل درويش
أصبحت الكتب الالكترونية شكلا من أشكال التناص لا شك أننا ما زلنا نختلف حول مفهوم التناص والحد الفاصل بينه وبين السرقات الأدبية التي تفاجئنا كل يوم وبتحدٍ سافر دون حياء أو خجل.. ليندرج ذلك جميعه تحت مسمى توارد الخواطر أو ما علق بالذاكرة من قراءات سابقة فاضت وطفت على مخيلة الكاتب فباح بها قلمه عن غير عمد، والبعض يحيل ذلك إلى فكرة الاستلهام والوحي ليبرأ ساحته من السرقة. أوضاع التناص وشروطه: ولكي نتبين الحد الفاصل بين التناص والسرقة يجب علينا أولا فهم معنى التناص وشروطه.. فالتناص عند الناقدة جوليا كريستيفا هو الفعل الذي يعيد بموجبه نص ما كتابة نص آخر، والمتناص هو مجموع النصوص التي يتماس معها عمل ما.. قد لا يذكرها صراحة إذا كان الأمر يتعلق بالإيحاء أو تكون مندرجة فيه مثل الاستشهاد. بينما عرفه جيرار جينيت على أنه علاقة حضور مشترك بين نصين أو أكثر عن طريق الاستحضار. ومن شروطه الحضور الفعلي لنص ضمن نص آخر وهو ما يطلق عليه استشهاد، فيكتب النص بين علامات التنصيص وبإحالة دقيقة للمرجع أو دونها، ومثال ذلك الاستشهاد بآيات من الكتب السماوية والحديث الشريف. وتتعدد أشكال التناص وأنماطه وما يتعلق به من مصطلحات أخرى مثل التضمين والاقتباس والمعارضات الشعرية. وفي الشعر العربي القديم لم يلجأ النقاد لمصطلح السرقة بل اعتبروه محاكاة أو نقل، وقد فصل عبد القاهر الجرجاني بين السرقة والتناص فقال: “اعلم أن الحكم على الشاعر بأنه أخذ من غيره وسرق، واقتدى بمن تقدم وسبق، لا يخلو من أن يكون في المعنى صريحا، أو في صيغة تتعلق بالعبارة”. تطور التناص فيما بعد الحداثة: ومع التطور المذهل من حولنا واستخدام الكمبيوتر وشبكات الانترنت ظهر الانفتاح في النصوص، وأصبح من الممكن التفاعل مع النص وإدخال الروابط ، وكما يقول جراهام آلان في كتابه نظرية التناص: إن أنظمة الحوسبة الرقمية مثل شبكة الانترنت العالمية والكتب الاكترونية ومحاكاة النصوص تقدم شكلا من أشكال التناص. ويكمل قائلا: “تبدو أنظمة الكمبيوتر بأنها تأخذنا إلى فكرة العصور الوسطى المتعلقة بالمكتبة الشاملة، ولكن لا ينبغي الخلط بين محاكاة النص الذي فسره جينيت وبين النصية الرقمية المرتكزة على الحاسوب”.. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل يصدمنا جراهام آلان بأن أنظمة النص المتعالق تسمح بالخروج من النص الأساسي.. حتى أن النص الأساسي قد يُنسى تماما أو يبدو كأنه نص من سلسلة نصوص التناص.. ليتم تدمير فكرة التتابع أو التسلسل في النص. ويصل بنا في النهاية إلى نتيجة لا مفر منها: “إذا كان الحاسوب هو نقطة بين الحيز المادي والالكتروني فإن النص هو النافذة التي تطل على حيز التناص، وكل نص هو ببساطة مقطع مكشوف من شبكة لا حدود لها من النصوص الأخرى والموجودة مسبقا..” الذكاء الاصطناعي والتناص: ويبدو أن سلسلة هدم الثوابت لم تنتهِ عند هذا الحد؛ فمع انطلاق طوفان الذكاء الاصطناعي زادت التحديات وأصبحت سرعة هذا الطوفان تفوق مقاومة الثوابت والنظريات. فقد أصبح من اليسير الولوج إلى أحد المواقع الإلكترونية وإدخال بعض الأفكار لتحصل على مقال أو نص أدبي فائق الدقة، ودون أية أخطاء لغوية أو أدبية، ولا يمكن الحصول على نفس النص مرتين.. فلم يعد من الصعب كتابة رواية أو مجموعة قصصية أو حتى عشرات الدواوين الشعرية. الرقابة وحقوق الملكية الفكرية: ربما يفوق السارق الشرطي ببضع خطوات، ولكنه يبقى دائمًا مطاردًا يشعر بالقلق، ولا يمكنه الإحساس بالأمان طالما يعي في قرارة نفسه بلصوصيته، ولكن لصوص اليوم لا يعترفون بالسرقة، ولا ينمو في داخلهم أي شعور بالذنب. وضمير الكاتب هو المحرك الأساسي والوازع الداخلي الذي يحركه، فينهاه عن القيام بهذه الأعمال المنافية للأخلاق، والتي ربما لا تندرج تحت مسمى التعدى على حقوق الملكية الفكرية للغير، ولكنها فقاعة وكذبة يعيش فيها مدعي الفكر والأدب، ويستمرون في هذا الادعاء حتى ينكشف أمرهم إذا ما دعوا للنقاش في إحدى الندوات فانقشعت غيوم الكذب والتدليس وظهرت عقولهم الخاوية ومخزونهم الفكري الضحل. ولا يمكن أن نترك الصدفة وحدها الكفيلة بفضح كذب هؤلاء، ولذلك فمن الضروري أن تتشكل لجان خاصة بفحص الأعمال الأدبية قبل إجازتها، تقوم هذه اللجان بالكشف عن مقتطفات من هذه الأعمال عبر برامج الذكاء الاصطناعي لتكشف لهم حقيقة هذه النصوص، وهل هي من إبداعات المؤلف أم أنها صنيعة برامج الذكاء الاصطناعي.. وهكذا يمكننا الإقرار بملكية الكاتب لإبداعه دون شك، كما يمكننا فضح مدعي الفكر والإبداع.. غير أننا في النهاية نعول على ضمير الكاتب وأمانته ومصداقيته؛ فالعمل الإبداعي لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون صنيعة الآلة.
المراجع:
*مدخل إلى التناص ناتالي بييقي غروس ترجمة عبدالحميد بورايو
*نظرية التناص جراهام آلان ترجمة د. باسل المسالمة
*أسرار البلاغة في علم البيان عبد القاهر الجرجاني د.امل درويش. مصر