رسمية زاير تبوح بأسرار قلبها للغراف الخالد
حاورها د.محمود السعداوي
مهاد
اللقاء مع الشاعرة المبدعة رسمية زاير يشبه رحلة بين مدن العراق ونخيله وأنهاره، بين آهات السنين، وذكريات النهر وشط الغراف وأسرار محبي البدعة…رحلة في الشعر والسرد ..الشاعرة رسمية محيبس ، تلك المرأة الشاعرة. التي رأت النور في مدينة الشطرة التي تغفو على ضفاف الغراف، مدينة الشعر، والألم، وأماسي الفرح التي لا تشبه غيرها فالليل يمتلئ بالشعر والأبوذية والحنين إلى غد يجلب السعادة ويزيل الهموم … كتبت رسمية الشعر مع النهر وشموع الخضر في ليالي الأربعاء، رددت أغاني الشط مواويل النجوم ، وانتظرت عودة الغائب.
وعندما جلست في محرابها وقبل أن أبدأ بأي سؤال كانت عشرات الصور للشاعرة الحالمة المرأة السومرية السمراء قصتها مع الأسطورة العراقية كزار حنتوش الشطرة، الدغارة والغراف وبويب تناثرت أمامي، واحترت من أين أبدأ..
…………………
**نشأت الشاعرة رسمية في بيئة الشعر والأدب في مدينة كان غناؤها عويلا، ومطرها بكاء وطينا، وحيث بلغ الحزن والآهات أعمق ما في النفوس. وما هو تأثير هذه البيئة على شعر رسمية وروحها؟؟؟
احس ان روحي جبلت من طين الغراف وعجنت بماء الهور رسمية كائنة لا تجيد مخاطبة العالم الا بالشعر وقد. منحني الله قدرة التعبير عن نفسي كنت اهرب من البنات واختار لي عالما مثاليا اعيش فيه مع ابطالي الخياليين في الكتب وهو عالم اجمل كثيرا من عالمنا الواقعي وكلما ازداد التصاقي بذلك العالم كلما اتسعت الفجوة بيني وبين الآخرين . امضيت وقتا عظيما من عمري وأنا انحني على كتبي ودفاتري لكن الوظيفة ومهامها وانتقالاتي الدائمة قللت بعض الشي من ذلك الالتصاق فالعيش مع الآخرين يجبرنا على محاولة فهم الآخر او افهامه وايصال ما عندنا اليه ومع ذلك لا زالت الكتابة هي المهنة الوحيدة التي اتقنها واعبر من خلالها عن افكار رسمية وطموحاتها وبامكانك ان تقول انها إمرأة يحدها الشعر من جميع الجهات فهو جسرها الذي تصل من خلاله الى كل المحطات.
البيئة لها تأثير خلاق جدا استلم الألم كمحفز ودافع بيئتنا لا تلد الحزن فقط أنها متعددة المواهب تمطرنا ملائكة وشياطين وتحنو علينا فتمنحنا بعض الإشراقات الفرح، الأمل، الحب، غناء طائر وتغريد الملائكة. احيانا أرى في النوائب طعم الملح الذي تذرفه الدموع، فهو يعيد الحياة ويخلق الخصب، وفي أعقابه تسقى الحقول وينمو الزرع، والمطر في أرض أور هو موسم الحب الذي تلبس به الطبيعة أجمل ثيابها.
تربيت على نواح الأمهات كانت النوارس تحلق على مبعدة أمتار من سريري هدير النهر أول معزوفة سمعتها وتعلمت منها فن الأصغاء وكان المطر له الحان وفيه ملح وحياة في أرض أور كان تـأثير تلك البيئة الريفية عليّ إنها تقمصتني وصارت صنوا لي فأينما أكون ينهمر الجنوب من ملامحي,إنه يلاحقني ويحمل حقائبي ويرش في أثري طاسة الماء لأعود إليه وانا إبنته التي ورثت حزنه وأكتوت بنيرانه, وتعلمت مواويله واغانيه المضمخة بالمسج والهيل والحناء
,ليس هناك بيت يخلو من ظلم الحاكم و شرطته وكلاب صيده, وقد إنحدرت من ذلك كله فكيف لا تكون قصائدي مدافة بالدمع والدم.الاطفال تفتح عيونها على
منزل مليء بالالعاب لكن رسمية فتحت عينيها على منزل يحوي مئات الكتب قصة وشعرا وثقافة.
**كيف تنقلت شاعرتنا بين هذي الكنوز وكيف أثرت بها هذه العائلة المثقفة ؟؟؟
نعم كنت طفلة مختلفة عن باقي الأطفال منعزلة وحالمة وجدت فيّ تلك الكتب فريسة سهلة, فقد شدتني منذ السطور الأولى بأبطالها وعشاقها وكائناتها العجيبة وفقرائها وأثريائها وإن القراءة فتحت لي عالما أكثر سحرا وجاذبية ,هو عالم متخيل يلذ لي إكتشاف كائناته ومحاورتها وتتبع حركاتها أبطالها الشجعان وبطلاتها الساحرات وقصص الجنيات الشوق والهيام وموت أبطال رواياتي الذي يدفعني للبكاء وحين يسألني الأهل وأنا أصرخ حزنا أقول لهم لقد مات (جان فالجان )أو (مدام بوفاري ) أو قتل الشاعر بوشكين في مبارزة أما مقتل لوركا فلا زلت اتذكره كأحد أفراد أسرتي هكذا كنت مشدودة لذلك العالم وكانت الرواية هي محطتي الأولى وربما الأخيرة لقد أصبحت هذه المكتبة الصغيرة التي جلبها لي أبي ذات يوم عالمي الخاص مع إنها لم تستوعب كل الكتب التي كانت تأتي , لكني ما زلت أتذكر ذلك الصندوق الخشبي الذي لم يحتوي على قلائد وأساور وثياب وعطور بل كتب شعر وقصص وروايات ثروتي التي لا تقدر بثمن.
**كتبت الشعر والرواية والقصة فاين وجدت نفسك ؟؟
أنا شاعرة ولم يأت السرد الا متأخرا
على الكاتب أن يجرب كافة أجناس الكتابة ليكتشف إمكانياته عليه أن يكون مخلصا لما يكتب ,أما القصة القصير أعتبرها من أصعب فنون الكتابة الإبداعية هذاالجنس الأدبي الجميل هو تمرين يومي لكتابة الروايةوقد نجح كتابي السردي الأول(الشعر مقابل الحب ) ويمثل سيرة حياة الشاعر كزار حنتوش أما روايتي الأولى ,فقد كتبتها بلذة غامرة انتابتني أثناء سرد الأحداث والشخصيات التي عشتها وقد أنجزت وصدرت سيرة حياة شاعرة وإنسانة مرت بظروف خاصة ,إن هذا الخزين الهائل من الذكريات بحلوها ومرها والصعوبات التي تعرضت لها والضغوط والحواجز كل ذاك وفر مادة خصبة لكتابة اول رواية لي وهي كاهنات معبد أور
**كيف تخرج القصيدة منك وما أقوى محرك لها ..الحب …الألم…الذكريات؟
تخرج القصيدة احيانا بمنتهى البساطة تأتي كصديق حميم وتهبط على الورقة دون سابق إنذار واحيانا تهجر وتتمنع وقد سئل نزار قباني مرة مثل هذا السؤال فأجاب لو سألتم موزارت كيف وضع السيمفونية السابعة أو وجهتم السؤال لليوناردو دافنشي كيف رسم الموناليزا وكيف أنجز الجيوكندا لتلفتوا لبعضهم مذهولين ولم يستطيعوا الجواب ,وأعتبر القصيدة لحظة إكتشاف خاصة تنتاب الشاعر دون أن يدرك كيف تأتي وكيف تذهب قد يكون الحب أقوى المحفزات القراءة أهم وأخطر لأن العاطفة وحدها لا تخلق شاعرا هناك من يحاول خوض المغامرات العاطفية ليكتب وهناك من يتناول حبوب الهلوسة ليكتب أما أنا فمحبرتي الألم وما تعج به هذه البيئة الغريبة,أما التجارب فهي رصيد كبير وخزين بيد الكاتب
** ان كان بويب هو نهر السياب وحافظ اسراره فهل وقفت رسمية في شرفتها ولوحت لشط الغراف واباحت له باسرارها؟
لم تكن في بيتنا شرفات كان بيتا ريفيا مفتوحا على مصراعيه للريح بيت ملاصق لشط الغراف يكفي أن أعبر الحائط الطيني لأكون معه وجها لوجه ,أركض على الرمل حافية فهو مسرح الطفولة ,أمزق قصائدي وأنثرها على الماء فيحملها الى مجاهل بعيدة لا أحلم بالوصول إليها.. وأحدثه عن أسراري فلا يبوح بل يخفيها في أعماقه ويمنحني موجا ومحارا وأصدافا وكائنات لا تحصي ويأمرني أن أكتب ,هذا النهر هو الصديق والأب وإذا كان الدانوب أزرقا ,فالغراف أشد زرقة وبراءة من جميع أنهار الكون …بأصدافه وأقماره وأسماكه الملونة وما يحمل في أعماقه من متاعب وضحايا ألم أقل لك إنه صديق عجيب
**قصائدك تتنقل بين انسانية ومرة علمانية عاشقة تكتبين لاعمق ما يختلج الروح من المشاعر ومرة اخرى تصبحين راهبة تبكي في اضرحة الاولياء …فأين انت؟
في البدء أحب أن أصحح معلوماتك ,أما عن العلمانية فالشاعر مثقف وعليه أن يقرأ ويتأثر بما يقرأ , وإذا كانوا يحكمون على الإنسان الذي يعتقد بالله وبرسالات السماء بالتخلف فتلك مشكلتهم , لا مشاكل لي مع أحد وأكتب عن مشاعر الحب والحزن والفرح وقد تربيت على ثقافة أصيلة وما زالت تلك الثقافة رصيدي الذي لا ينضب ,أبكي في ضريح الحسين لأزداد قربا من السماء لا أخشى النظرات السطحية, لكني لست راهبة أنا إنسانة عادية جدا وبسيطة وبساطتي هي جواز مروري الوحيد للناس
** الشعر الشعبي تحفظيه وترديده كثيرا وانت وسط مدينة عريان وزامل سعيد فتاح وعلاء ال ياسين فكيف لم يخطفك ويحلق بك بعيدا عن الفصحى وشعرها؟؟ …
أنا قارئة جيدة للشعر الشعبي وأحبه جدا لأني من مدينة مسكونة بالمواويل والعتابة يتخاطب أفرادها بالدارمي والأبوذية والجميع هنا يقول الشعر ويشيعون الموتى بالهوسات المرتجلة وكنت أنام على تراتيل أمي التي تحفظ الشعر الشعبي وتردده في ألم رضعته منها مع الحليب إن أختياري للشعر الفصيح جاء عن حب يشبه الغرام وفيه لذة الإكتشاف وصفاء اللغة لا أريد أن أبرر شيء فالحب لا يبرر وحبي لقصيدتي كما هي لا أستطيع تبريره
** سمراء سومرية ترتبط بانكيدو ويخطان معا ملحمة الخلود …ثم يرحل الامير وتبقى الاميرة السومرية فكيف كان الفراق …وهل تحطمت ملحمة الخلود؟
كزار حنتوش ليس أنكيدو ولم نخرج أنا وكزار من ملحمة كلكامش ولكل منا ملحمته الخاصة نختلف عن أبطال تلك الملحمة فنحن بشر من لحم ودم هناك صلة قربى بيننا وبين كلكامش هي البحث عن الخلود نحن أيضا نبحث عن الخلود بطريقتنا الخاصة وحزني على كزار يشبه حزن كلكامش على صديقه أنكيدو فبعد موت أنكيدو عاد كلكامش لوحدته وكذلك أنا عدت لوحدتي لكنها وحدة منتجة وليست مخيفةأرتبط مع هذه الوحدة بعلاقة قديمة فهي صديقتي منذ الطفولة وقد رافقتني في كل المراحل لذلك فرحيل كزار زاده قربا مني وزادة حياة ومحبة لدى أصدقاءه ومعارفه ما يقلقني أحيانا إنه كان يحب الحياة ولم يكن الموت من ضمن حساباته ولكن ليس ذلك بإختيارنا ما زالت قصائده تحلق عاليا وما زالت روحه تنعم بمحبة الناس
كيف لا تترك أثرا هذه الأشياء لو قلت هل تركت منك شيئا لكان أقرب الى الصواب نحن نقتل كل يوم مع كل عراقي يهرق دمه لكن العراق هو الشريان الوحيد النابض قد نختلف مع الآخرين ونتخاصم ويبقى العراق بعيدا عن معاركنا التي تشوه وجهه الكريم ,من يسيء الى العراق يجرحني (ومن يمس زهرة فيه يمس قلبي) كما يقول الماغوط أما جراحه فأحس إنها ستشفى وتندمل ولا يبقى لها أثر وتبقى الجراح والخوف في كل المراحل ,وكما يصنع هذا الوطن الحياة وينتصر سننتصر ونكتب بمستوى ما قدم من تضحيات ,إن الألم والموت والغربة تختبىء جميعا في قصائدنا وتطل برأسها كالنار المختبئة تحت الرماد
**العراق …هل هو الشطرة ،البصرة، الدغارة ، انكيدو،الغراف، دموع التبرز، المكير وقطاره الحزين ام كل هذا وغيره وكيف انمزجت كل هذه الاماكن والشخوص في ذهن رسمية لتكون الوطن؟
هذه المدن سكنتني قبل أن أسكنها هي أصغر من أن تكون وطنا فالعراق مدينتنا الأزلية , هو الطبيب الذي يجس نبضك والأم التي تحنو عليك هو رسالة حب لا تدري لمن ترسلها هو حضن دافىء وأنا طفلة يتيمة وهو أبي هو دجلة والفرات و هو أكواخ القصب ومناجل الفلاحين ووجوه الأحبة التي تنعكس على مراياه ذلك القادم الذي يطرق بابي ليلا ويضيء لي شمعة كي اكتشف ملامحي وأتأمله بعيدا عن الآخرين ونحن بلا عراق لا نتقن حرفا واحدا من أبجدية العشق وما زلت أكتب له وأغني ولا أرثي العراق لأنه حي يرزق