وديع سعادة: كل شعر سياسة ولكن بالمعنى العميق للكلمة

شارك مع أصدقائك

Loading

 

 

 

حاوره: عابد إسماعيل

 إنه الشاعر وديع سعادة، كما يحب أن يتخيل نفسه، أو ربما كما يحب أن يكون عليه حاله. يودّع عاماً، ويستقبل آخر. يدوّن قصيدة، ويمحو أخرى، وبين التدوين والمحو يطلق سراح حياته. يجلس في حديقة منزله الخلفية، في مدينة سيدني الأسترالية، يحصي الزهرات التي تفتحت في غيابه، والأوراق التي تساقطت على شرفة منزله. يحصي قصائده التي كُتبت أثناء هبة ريح، والغيوم التي عبرت، تاركة لؤلؤها يلمع في سماء استعاراته، متأملاً النجوم التي تهاوت في بئر سحيقة، حفرها للتوّ بنظراته. إنه، على الأرجح، يلهو بأسرار القصيدة، ويلعب بالحروف على هواه، ويحصي دبيب الحياة في موجودات العالم المرئي، مفككاً لغز الظلّ والضوء، الإقامة والرحيل، مرجعاً كل شيء إلى جواهره الأولى، إلى الطبيعة البكر، قبل الطوفان، جالساً في ظلّ شمس أو نور ليل، يكرّ خيوط حياته، ثم يعيد حياكتها، غير مبالٍ بتقلبات المخيلة التي تجلب معها تقلبات الفكرة والمزاج والطقس، تماماً كما يحدث، مرة بعد أخرى، في قصائد ديوانه الأخير (تركيب آخر لحياة وديع سعادة)، الصادر، بطبعة إلكترونية، أواخر عام 2006، والذي كان سبباً مباشراً في إجراء هذا الحوار.

هنا، في هذا التجوال الحر مع القصيدة، نرى الشاعر يبوح ببعض أسراره، ويتكلم على بعضها الآخر،  متوارياً خلف الكلمات حيناً، وخلف الصمت حيناً آخر، مسلطاً الضوء على صورة ذاته التي ما تفتأ تبتعد مثل رجع صدى. يستعين بالكتابة والرمز والتورية، للتعبير عن صداقته للغياب، ويفصح، بنبرة الشاعر، الرائي، عن حيرته تجاه القصيدة التي تبدأ من زجاج وتنتهي بزجاج، كما يشير، مسمياً بعض ركائزها الفنية والمعرفية واللغوية، بعد مسيرة شعرية متميزة، قضى نصفها في المغترب الأسترالي، ونشر خلالها عشر مجموعات شعرية، استطاعت أن تمنح لقصيدة النثر العربية أسلوباً فنياً جديداً، وتقترح لغة شعرية شديدة الاختلاف والخصوصية. وفي ما يلي نص الحوار:

* في إحدى قصائدك تقول ” الذكرى تكاد تكون كل وجودنا”… ما هو الماضي بالنسبة إلى وديع سعادة، وهل تخشى أن توقظ الذكريات؟ هل تخشى انزلاق المحسوس إلى ذكرى؟

– في قصيدة لي تعود إلى العام 1968 أقول: “الذكرى ثلج / لا يُضمن الوقوف فوقه طويلاً / ارحلْ”، وها أنا بعد قرابة أربعين عاماً أقول ” الذكرى تكاد تكون كل وجودنا”. ألا يستدعي ذلك التأمل فعلاً كيف على الرغم من مرور كل تلك السنوات لم “أرحل” عن الذكرى بل ما زلت مقيماً فيها؟

أعتقد أن الإنسان نتاج ذكريات، نتاج الماضي، نتاج التاريخ. هو ابن لغة من الماضي، وعقل من الماضي، ومفاهيم من الماضي. ابن تكوين بسيكولوجي وحتى فيزيولوجي من الماضي. أعتقد أننا نحن لسنا نحن إنما أسلافنا.

* في قصائدك نبرة عرافة أو كهانة، تارة ترثي العالم، وتارة تمجده. كيف يمكن للقصيدة أن ترى وتتنبأ وتستشرف، وتظلّ في الوقت ذاته غائرة في العالم، تنتمي إليه، وتحمل رائحته وإيقاعاته؟

– القصيدة هي ابن لقيط للعالم. العالم ليس والدها وفي الوقت نفسه لا تستطيع الفكاك من أبوته.

القصيدة هي في العالم وفي مكان آخر في الوقت نفسه. حضوره فيها يستدعي التمجيد وغيابه عنها يستدعي الرثاء.

واللقيط يرى ما لا يراه الابن الشرعي. تصل نظرته إلى أعماق ومجاهل وظلمات لا تمرّ على نظرة عين شرعية. للقيط رؤى واستشرافات لا يراها الابن الشرعي ولا حتى والده، ومقابل ذلك ينال عقاباً: أن يظل غير شرعي في العالم، موجوداً وغير موجود.

* تأخذ من اللاهوت عطره، وتهمل الجانب الفقهي، المعرفي. كيف ترى علاقة الدين بالشعر؟ وهل الشعراء معنيون بأسئلة الموت والحياة؟ أم يجب على الشعر أن يهتم بالعابر، والموقت، والزائل، أقصد بالإنسان، حامل الخطيئة؟

– أبدأ من الجزء الأخير من سؤالك لأورد فقط ملاحظة عابرة لا تخفض مطلقاً من قيمة السؤال، وهي أن الشعر لا يتآخى مع كلمة “يجب” التي هي قيد، بل هو يرغب في كسر كل القيود.

أنا، بصراحة، لست متديناً. لكن علاقة الدين بالشعر أحيلها أيضاً إلى “الذكرى”. أما أسئلة الموت والحياة فليست مرتبطة بالدين بالضرورة، إنما هي مرتبطة بالكائن مؤمناً كان أو ملحداً. إنها مسألة كينونة لا أظن في الإمكان الفكاك من طرحها، وذلك لا يتناقض على الإطلاق مع اهتمام الشاعر بالعابر والموقت والزائل وليس بما يحسبه البعض ثابتاً ودائماً وأزلياً.

الشعر يهتم بالعابر والموقت والزائل بالتأكيد، أي بالإنسان. لكني لا أعتقد أن الإنسان “حامل الخطيئة” إلا في المفهوم الديني، وبهذا المفهوم لا أعتقد أن الإنسان هو الخاطئ بل الذي حمّله الخطيئة.

* نشرت عشرة دواوين شعرية حتى الآن، كان آخرها “تركيب آخر لحياة وديع سعادة”. ماذا تعني لك “حياة” الشاعر، وهل ترى أن من يلمس قصيدتك يلمس حياتك؟

– كنت أرغب في أن يكون العالم شيئاً آخر، أو على الأقل أن تكون حياتي شيئاً آخر، فرحتُ – في ديواني الأخير – أتوهم اختراع عالم آخر وحياة أخرى لي. لكن وهم هذا الاختراع لا ينطلي على الشاعر ولا على القارئ، ولذلك يبقى ذاك العالم، وحياة الشاعر معاً، بعيدين عن الملمس الحقيقي. يبقيان في متناول الملمس المتخيَّل فقط.

ربما حياة الشاعر هي غيابها. الأرجح أن الشاعر لا يكتب سوى غيابه.

* أنت شاعر يعيش على الحافة، حافة ما، شعرية أو وجودية. ما الذي تراه حين تحدق في الهاوية؟

– لست وحدي من يعيش على الحافة بل كل الشعراء، وربما العالم بأسره. قد يكون الفارق أن الشاعر يستشرف حافته، ويتقدم إليها غير مغمض العينين إنما ناظراً، بهلع أو بلامبالاة، إلى عمق هاويته.

أحدّق في هذه الهاوية من غير هلع. فما في عمقها رأيته من زمان وحاولت مصادقته منذ سنوات عديدة. ربما كل ما كتبته كان محاولة لصداقة هذه الهاوية، بمعنى أن أجعل روحي رديفة اللامبالاة وأنا أسقط فيها. فاللامبالاة هي الصداقة الوحيدة المتاحة مع الهاوية. اللامبالاة هي أيضاً الصداقة الوحيدة المتاحة مع الطريق إلى تلك الحافة، وأنا حاولت على مدى هذه الطريق أن أدرّب نفسي على صداقة الخطوة الأخيرة.

حين أحدّق في الهاوية أرى أن كل حياتي كانت هناك، وأنه كان عليّ أن أكون لامبالياً أكثر.

* أرى تقاطعاً بين قصيدتك والفلسفة. هل تقرأ هيدغر مثلاً؟ ما سر هذا الاهتمام بالأثر، الصدى، الكينونة؟ أم هي مجرد أفكار تتحول بين يديك إلى صور واستعارات؟ هل ثمة من علاقة بين الشعر والفلسفة؟ وهل تؤمن بما يسمى “قصيدة الرؤيا”؟

– أعتقد أن الأفكار تتحول إلى كينونة – لا إلى صور واستعارات – حين معايشتها في الحياة أو حتى في التخيلات.

الصدى هو مستقبل الصوت. والحياة ماضيها أثر ومستقبلها أثر. أما الكينونة فهي محاولة تغيير هذه المعادلة، بجعل الصوت مستقبلاً لنفسه وأثر الحياة في المستقبل لا في الماضي.

قد يكون هذا الوهم هو سر اهتمامي بالأثر والصدى والكينونة. فأنا حين أكتب عن الأثر أتوهم بثّ حياة فيه لجعله في الحاضر وإنقاذه من موت الماضي، وحين أكتب عن الصدى أتوهم الوهم نفسه بجعل الصدى صوتاً ينطلق من فم قائله الآن.

هذا، بالتأكيد، وهمٌ لا رؤيا. وهمٌ مردّه ربما الألم على مصير الأثر، ومصير الصدى، ومصير الكينونة.

* هل تشعر أنك الحفيد المتأخر لشاعر كبير، عربي أو غربي؟ هل تتكلم على سر؟ من هم أسلافك؟ هل أدونيس أحد هؤلاء؟

– الشاعر هو حفيد كل الذين قرأ لهم، لكنه في النهاية لا يكون سوى حفيد نفسه.

لا أشعر بأني “حفيد متأخر” لأي شاعر، لا أدونيس ولا سواه. أشعر بأن هناك قرابة بين جميع الشعراء، لكن ذلك لا يعني البنوّة أو الحفادة، وهذا لا ينسحب عليّ وحدي بل على جميع الشعراء بمن فيهم أدونيس وغيره.

ربما إقامة، ربما منفى، ربما تجربة خاصة، ربما تجربة عامة، ربما بيت، ربما شارع، ربما حديقة، ربما شجرة، ربما وهم، قد يكون السلف الحقيقي للشاعر.

إننا أحفاد الجميع، وفي الوقت نفسه نحن أجدادنا.

* هل تخاف على القصيدة من السياسة؟ أقصد هل تؤمن بما يسمى الشعر الملتزم؟ أم أن القصيدة كائن هش، يعتاش على الإيماء والإشارة والرمز؟ وماذا تنتظر من الكلمات؟ هل حقاً تريد “البياض” كما تقول في إحدى قصائدك؟

– كل شعر سياسة، ولكن بالمعنى العميق للكلمة وليس بالمعنى العادي المتداول. إنه سياسة بمعنى الرؤية إلى الذات والأشياء والعالم والموقف منها، نقداً واستشرافاً ورغبة في تغيير. فمن يكتب شعراً يحاول أن يكون سائس نفسه وسائس الأشياء. ومن هنا القصيدة كائن هش لأن الأشياء والعالم، والذات أيضاً، فرسٌ حرنٌ لا تساس بكلام. القصيدة إيماء فقط، إشارة، ورمزٌ لعجز. لذلك لا أنتظر من الكلمات شيئاً. ليس بيني وبينها سوى تسلية، لعبٌ مع وهم جميل، وأحب أن أحتفظ بهذا الوهم، فمن يقضي سنوات عمره برفقة ظل يصعب عليه فراقه. أما “البياض” فقد يكون هو الجسد الحقيقي لهذا الظل.

* هل تكتب لنفسك أم للآخر، ومن هو القارئ المثالي الذي تتوجه إليه؟ هل الشعر فن يخاطب النخبة فقط، كما يقول إليوت، أم أنه يتوجه في الدرجة الأولى إلى “الجماهير”؟

– كل شاعر يكتب لنفسه أولاً، لكن ذات الشاعر شبيهة بذوات آخرين أيضاً، ولهذا فإن من يكتب لنفسه يكون يكتب لآخرين كذلك.

الآخرون الذين يكتب لهم الشاعر هم الذين يشبهونه، سواء أسميناهم “نخبة” أو أي اسم آخر… وفي الواقع كل مخاطبة تتجه إلى الشبيه وحده وليس الشعر فقط، ولذلك لا يجوز أن يكون توجّه الشعر إلى “نخبة” لا إلى “جماهير” محط إدانة كما درج عليه بعض العرب حين يتحدثون عن الشعر الحديث. فحتى المخاطبة السياسية تتوجه إلى فئة معينة، وتتقبلها جماهير وترفضها جماهير أخرى.

* في قصائدك يلمح القارئ نزوعاً خفياً إلى الجملة الصافية، الزجاجية، التي تتخفف من المعنى لصالح الدلالة المتحركة، التي تصور طقساً وليس مفهوماً. متى تبدأ القصيدة لدى وديع سعادة ومتى تنتهي؟ كيف تقرر وضع “حد” لها؟ أم أن الخاتمة هي دوماً بداية أخرى؟

– الشعر قول زجاجي. قول زجاجي لرؤية زجاجية، ولطقس يكمن وراء زجاج أيضاً. لذلك لا أظن أن الشعر يصبّ في معنى بقدر ما يصبّ في دلالة. ولا أظن أن الشعر يمكنه لمس رؤيته إنما الإشارة إليها فقط من وراء الزجاج. الشعر، على ما أظن، هو زجاج ينظر إلى زجاج.

من هذا الطقس الزجاجي تبدأ القصيدة، وبالطقس الزجاجي تنتهي. تبدأ من زجاج وتنتهي بزجاج. تنتهي القصيدة السابقة بانكسار، كي تبدأ القصيدة اللاحقة من شظايا انكسار القصيدة السابقة. ولذلك لا تكون خاتمة القصيدة سوى البداية دائماً، ليس لما قبلها فحسب أنما لها هي أيضاً، إذ أن الزجاج الذي يحاول الشعر جمعه هو نفسه منذ أول قصيدة يكتبها الشاعر إلى آخر قصيدة.

* في قصيدة لك بعنوان “جمال العابر” تقول: “الأكثر جمالاً بيننا المتخلي عن حضوره”. متى نعبر ومتى نقيم؟ وما سر صداقتك مع الموتى؟ ما سر اهتمامك بجدلية الحضور والغياب في معظم دواوينك؟

– أظن أن علينا أن نعبر في اللحظة التي نشعر فيها بأننا ثقلٌ على الآخر وعلى ذواتنا. علينا أن نعبر عن الآخر حين نكون ثقلاً عليه، وأن نعبر عن أنفسنا حين نكون ثقلاً علينا… ولكن، هل نحن مقيمون حقاً لكي نعرف متى نعبر؟ ليست لنا خفة إقامة ولا جمال إقامة، ولذلك لا نعرف خفة عبور ولا جمال عبور.

صداقتي مع الموتى تنطلق من كونهم عبروا، وخصوصاً الذين هم اختاروا عبورهم: المنتحرون. هؤلاء اكتشفوا أنهم ليسوا مقيمين فعلاً، فاختاروا جمال العبور. وصداقتي مع الموتى تنطلق أيضاً من أن هؤلاء مقيمون فيّ. يجب أن نتواضع ونعترف بأن في داخلنا قافلة من الموتى وليس من الأحياء فقط، وبأن علينا أن نكون أصدقاء الذين لم تعد لديهم قوة ولا حيلة، وليس أصدقاء الأقوياء في الحياة وحدهم. يجب أن نتواضع ونعترف بأننا موتى أيضاً.

قد يكون هذا هو “السر” في جدلية الحضور والغياب في شعري… فأن أكون حاضراً في الحياة، عليّ أن أحضر في الموت أولاً.

* هل تريد أن تقوّض المفهوم الصوفي للتجلّي حين تشير في إحدى قصائدك إلى أن الإشراق أو الضوء لا يأتي من الشمس بل “من تحديق حجر في حجر”؟

– بودّي أن أقوّض كل المفاهيم التي تعلمناها وأودت بنا إلى الحفرة لا إلى الشمس. لم يبق لدينا، بسبب هذه التعاليم، سوى أحجار في حفرة، وسوى أن نحاول إشراق الشمس من هذه الأحجار.

* كيف تعرّف طفولتك؟ وما سرّ الحضور القوي للطبيعة في شعرك، أنت الذي تعيش في قلب المدينة الغربية، في أستراليا؟ هل علمتك التكنولوجيا الحديثة شيئاً يخدم نصك؟

– أعتقد أن المرء يحمل مكانه معه أينما ذهب، فالمكان ليس مساحة في الجغرافيا إنما هو مساحة في الذات.

أنا فلّاح. كانت لديّ في قريتي في شبطين أرض زرعتها لوزاً وعنباً وأشجار فاكهة وخضاراً، وها أنا في سيدني حوّلت حديقة بيتي الخلفية وواجهة بيتي الأمامية أيضاً من عشب إلى لوز وعنب وأشجار فاكهة وخضار، وأجمل لحظات يومي هي حين أتفقدها يومياً وأنظر إليها مليّاً وأعتني بها.

في الجبال، هناك، كانت الأشجار تثمر من حرارة نظرات الفلاحين حتى في ثلج كانون الثاني، كما قلت في إحدى قصائدي. وأنا هنا في سيدني لا أزال أحمل بعض روح تلك الجبال. أشعر بسعادة عامرة حين أتبادل النظرات مع الشجر، وأشعر بأن ثماراً جديدة وجمالاً جديداً تنبت بيننا.

أظن أني لم أتعلم من التكنولوجيا الحديثة شيئاً في ما يخص علاقتي مع الطبيعة وعلاقتي مع البشر. إذا كان الشعر يعني هذه العلاقة فأنا لا أزال ابن جبل بعيد. أما الكومبيوتر والإنترنيت وما إلى ذلك، فليست بالنسبة إليّ سوى وسيلة حديثة لإيصال صوت بات بلا مكان.

* هل تكتب مستعيناً برؤية جمالية مسبقة؟ أم أن القصيدة هي دوماً رحلة في المجهول؟ هل القصيدة حقيقة أم وهم؟ وماذا تعني في قولك: “مشيت طويلاً في خيال اللغة، حتى انكسرتُ في وهمها”؟

– أعتقد أن ما يسكن في الذات وفي العالم هو مجهول دائماً، وما يفعله الشعر هو تتبّع أثر المجهول، برؤية لا يمكنها أن تكون مسبقة ما دام المسعيّ وراء رؤيته مجهولاً.

الشعر، كما أشرت سابقاً، قولٌ زجاجي لرؤية زجاجية تكمن خلف زجاج. ورؤية زجاج إلى زجاج إنْ لم تكن وهماً فهي على الأقل حقيقة زجاجية منكسرة. والقصيدة التي تبدأ من زجاج منكسر وتنتهي بزجاج منكسر، ماذا عساها أن تكون؟

هذا هو خيال اللغة الذي نمشي فيه وننكسر في وهم اللغة.

* أخيراً، حين تقول في ديوانك الأخير: “كرَّ خيطان نفسه / وبكّلَ حياته بزرّ ريح”، هل تريد أن تنسف مفهوم الهوية والانتماء؟ من هو المنتمي في رأيك؟ وكيف يعرّف وديع سعادة نفسه؟

– مفاهيم كثيرة، من بينها الهوية والانتماء، أتمنى لو تُنسف، لكنّ هذا وهمٌ أيضاً. أقصد بالأحرى واجب الهوية والانتماء، لأن لا هوية لأحد في الواقع ولا انتماء إنما تشرذمٌ هو مأساة أخرى تضاف إلى مأساة الواجب المفروض علينا، وهو أن نكون منتمين وذوي هوية محددة. أعتقد أن “الريح” وحدها هي هويتنا وما ننتمي إليه، وهي هوية ضائعة في الهباء وانتماء في الهبوب. وكانت جميلة لو قُبلت هكذا، لكنهم يريدون مسمرة الريح بالأرض… التاريخ كله، مبادئه وتعاليمه، قائم على منع هبوب نسمة هواء.

صحيفة “القدس العربي” في 15/1/2007

 

 

شارك مع أصدقائك