التنف…جمراتُ المكان “وظيفة في حقيبة”

شارك مع أصدقائك

Loading

نصير الشيخ – ألف ياء

ــ الذات تبحث عن موقعها،مابين جذب ونفور لحياة ضاغطة وبداية شرسة لحصار اقتصادي ضربت شظاياه ذرات عظامنا، لذا كان لا بد من ملاذ يدرُعليك عليك ما يسد قوتك وقوت عائلتك.

وقيل أن ” الوظيفة إستعباد” ربما هي كذلك، ولكن ما الحل لديك، وأنا لأ املك حرفةً أو أجيد صنعة.

شهر مايس 1992 الدخول لبوابة ” الوظيفة” كان قراراً حاسما لي،متمثلاً اثبات وجودي وشخصيتي وبما يمنحني استقلالا ماديا ومعنويا، أنا الطالع سهوا من أتون حربين مدمرتيّن.

فكان ذلك المشوار البعيد والذي أدونه الآن سردية حياة على مدى ثلاثين عاما. مكان العمل “محطات الإذاعة والتلفزيون في المنطقة الغربية ــ الرطبة ــ التنف”.عملها إيصال البث الإذاعي للمناطق الغربية وما يحاذيها من شريط حدودي لسوريا والأردن .

ستمائة كيلو مترتقريبا نقطع المسافة مابين بغداد ومحطة التنف الإذاعية، بسيارة تنطلق من باب الوزارة، حاملة موظفين من فنيين ومهندسيين واداريين،لتبدأ الرحلة الشاقة في بعض جوانبها،حاملا معي حقيبة تضم مايسد رمقي من طعام،وكتب ومجلات، ولمدة عشرة أيام هناك.

وإذ تطوي المسافات العجلة، اطيل التحديق الى بغداد، شوارعا وازقة وبنايات وساحات خضراء، انا الواصل اليها من مدينة جنوبية، ربما دهشة النظر تدلك لأحيائها الراقية، لبوابات الجامعات وفتنة طالباتها، حركة الناس في الشوارع،تقاطعات الجسور….تستفزُ فيك العاطفة الجياشة،فعند مرأى كل كرسي لمقهى على الرصيف اتخيل ثمة وعدا غراميا،وعند كل انعطافة تحت شجرة باسقة تذبل بين يديّ وردة لإهديها الى عاشقة .. أنا الممهوربالعشق وكتابة الشعر.

كانت عجلة نقل الموظفين تنهب الأرض نهباً، دقائق الصمت داخلها تتكاثف علي أفكارا لتهطل مدراراً،ثمة رفقة تقاسمتها مع أصدقاء لي وزعتهم المنافي حد اللحظة،رفقة تقاسمتها رواقات اكاديمية الفنون الجميلة، مقاهي باب المعظم،شارع الرشيد،العروض المسرحية على خشبة مسرح الرشيد، وحميمية استكان الشاي في “جايخانة” فندق المنصور ميليا ذات شتاء شباطي بارد.

هذا التوزع في الحضور والغياب مابين بغداد ومحطة التنف يزودني على الدوام بطاقة كبيرة من الحث الفكري والمطاولة على الكتابة،حيث تبدأ شرارتها حين يصبح الوقت ثقيلا جدا وانت محشور بكرسيك داخل العجلة باتجاه افق بعيد.انظر من النافذة تلامس عينيّ الإضواء البعيدة للمدن وهي تحاذي وتقترب وتنأى عن الشارع الرئيس،النجوم في رحلة الوقت والمسافة تهمس لي بأبتسامة خجولة،تنثُ الحروف نداها بعد حممحةٍ في دواخلي.

أدخل عباءة الليل تجاه البرية والمدن تنأى بعيدا عنا،أستلُ قصاصة ورقية اوربما ” وصل مشتريات” ويحدث هذا كثيرا عندي،انا المصاب ب”فوبيا” الورقة البيضاء الملساء.. وبخط مرتبك تدون اناملي بل اصابعي وبضغط قلم الجاف حروف النص الشعري او الصورة الشعرية او الجملة المراد كتابتها، وشعوري حد المعرفة ان الحروف تتراكم على بعض..!!انها لحظة اقتناص الزمن الشعري وكتمهِ في مساحة الورقة / القصاصة، وحين أصل مكان عملي ،أبدأ بالتفرغ له بفك هذه الشفرات المتراكمة بخط ” هيرو غليفي” !!وحتى اللحظة أحتفظ ببعض هذه القصاصات شاهداً على مشقة المسافة وزمنها النفسي،ووثيقة انتماء للزمن الشعري السائل الذي داهمني لحظتها بل ويحيطني في كل لحظة.

كنت أصطحب معي عدد من الكتب ومجلات الأقلام او الطليعة الأدبية او الف باء،حيث الوقت متوفر هناك وعلي استثماره بكل ما أوتي لي من طاقة،وساعات الخفارة الليلية بانتظارانتهاء فترة البرامج الإذعية حتى الثاثة والنصف فجرا، تمنحك مساحة للتدوين والخربشات ربما .

الفضاء مفتوح حد الوضوح هناك، تتجلى الطبيعة الإلهية في صفائها،والأنواء تستقروتتبدل.الفجربزرقته الناصعة وبرودته اللذيذة،الضحى بأنسكاب شمسه وطلاقتها، الظهيرة التي تصافح التراب ومنح الأفق سرابا يدل على اشياءنا البعيدة.ونسيم يهب حاملا معه روائح النباتات العشبية الموزعة على جسد الأرض.والمساء هذا الضيف الثقيل الذي يمس الروح من جنباتها، فيه تبدء لحظات استدعاء البعيد من الاهل والأصدقاء والمواعيد المشحونة بغزل طفيف، المساء الذي يستوطنك سارقاً منك دمعة لامحالة. الليل حيث السماء سبيكة مرصوفة من نجوم لامعة تشدك الى التطلع اليها، كاشفة عن جلال الخالق العظيم، أسرق خطوات خارج مبنى السكن، ألتذ ببرد كانون، المسُ فيه شيئاً من نقاء طبيعي يشحنني برغبة عارمة على معانقة الأشياء وكشف كنهها،ترى كيف تطوى المسافات وانت في منفاك البعيد، هكذا كانت نفسي تسائلني ؟؟

الحديث مع موظفي المحطة يأخذ من الشجون الكثير،ومفاصل الحياة التي بدأت تضيق حلقاتها،كان جمعا من مختلف المحافظات لكن بأعداد قليلة لكل خفارة،ثمة من يصطحب معه كتاباً مثل ” بدائع الزهورفي وقائع الدهور” يقرأ فيه ليتركهُ،ويرى من خلال سطوره طالعا لمستقبل غاص بين السياسات القارة في حكمها،وبين آخروية مفترضة تكتب له جنة خالدة. عليك أيضا بتقبل الأمزجة والسلوكيات وعلي الموازنة دائما، انا الذ أقرأ في كتاب ” متاهة الوحدة” للكاتب المكسيكي ” أوكتافيو باث”.. حيث ثقافة الشعوب،وتحولاتها من البدئية الوثنية نحو الخلاص المسيحي تحت سلطة السيف والبارود…

السنوات تطوي بعظها البعض، والأيام قطار متسارع على سكتهِ،ظلت الكتابة لدي مساحة اشتغال واسع،أجد نفسي في أتونها لحظة تدوين القصيدة ببروقها ودهشتها،أوعند فرح صغيرساعة تدوين مقال نقدي او كتابة عن ظاهرة ثقافية او فنية،اعدُ نشره على صفحات جريدة أومجلة،كل هذا ممزوج بخوف من نوع آخر،خشية رقيب ما يتلصصُ علي من داخل المحطة!! تدفعه علانية نوازع السؤال المغمس بالخبث ربما،” أستاذ..شو جاي تكتب”؟؟ مرهونه بتساؤلات الأخرين … ما يكتب هذا الرجل،مايسطر على الورق،هل فيها منشورات ربما ضد الحزب والثورة…لماذا حقيبته تضم عددا من الكتب..كل هذا شكل لي هاجساً لم أستطع تجاهله مدة خدمتي في هذه الوظيفة.

ثمة فضاء داخلي وفر لي حرية من نوع آخر، ذلك هو ” التلفون الأرضي” كان هذا الخط صلة وصلٍ بالعالم الذي أحيا،نداءاتهُ تحمل لي أخبار الأصدقاء في بغداد،وتطمأنني على سلامة أفراد عائلتي،ويجعلني على تواصل مع محرري الصحف والمجلات في بغداد،كما كان لي نسقاً جماليا وعاطفيا وهوتراسل مشترك مع صوت الآخرفي بوحه، حبيبة تحملُ شوقها الي عبر هذه المسافات،وصديقة يكون حوارنا فسحة عن الحياة والأدب وشؤون أخرى..

كان ” الأرقُ” نديما دائما معي،أمسى حاضراً في أعماقي حد الوهن،اليس هناك الذُ من سلطان النوم، ولكن كل هذا آكل من جرف أيامي،لذا بدت الساعات تتشظى للبحث عن معنى ما.كان علي دحض ما أنا فيه من عزلة وكآبة ربما داخل مبنى المحطة، بعمل سافرٍهو الخروج من مبنى السكن الى البرية…أقول ” البرية” وليست “الصحراء” كما يتصور البعض عن تلك الإماكن البعيدة.كانت ” برية” أرضها “حصوية”، منبسطة جدا،تعتليها تلال بسيطة العلو،صديقة للربيع حيث ولادة الطبيعة لمئات الأزهارالبرية وروائحها العابقة،ويكون المطر المدرارفي شتائها حاضنة ل ” الكمأ” بطعمه وندرته.

 

 

شارك مع أصدقائك