الشِّعر والموت

شارك مع أصدقائك

Loading

سعيد الغانمي

ليست الفجوة الدلاليَّة في الشِّعر ملكةً ذاتيَّة يتمتَّع بها القارئ، بل هي مشاركة القارئ في ردم الفراغات التي تنتج عن تفاعل مستويات القول الشِّعريّ. ولا يتمُّ هذا الرَّدم كيفما اتَّفق، بل استناداً إلى أعرافٍ وتقاليدَ تمثَّلَها القارئ قبل ذلك. فلدى القارئ مخزونٌ من الخبرة الناتجة عن قراءات سابقة. وبالتالي فمن يقرأ قصيدة معيَّنة لا يقرأها وفقاً لهواه الذاتيِّ ورغبته الاعتباطيَّة، بل لا بدَّ أن يفكَّ شفراتها بما تمثَّلَه قبل ذلك من مفاتيحَ سابقةٍ اكتسبها من قراءة عددٍ لا حصر له من النُّصوص. وهنا تظهر الحاجة إلى اكمال الشِّعريَّة بالقراءة، أي تطبيق المعلومات النَّظريَّة عن الخطاب المولِّد على نصوص فعليَّة. ومع كلِّ ما في الاجتزاء من عيوب، دعونا نأخذ، تمثيلاً على ذلك، المقطع التالي من قصيدة “اللِّقاء الأخير في روما” لمحمود درويش:
صباحَ الخيرِ يا ماجدْ
صباحَ الخيرِ والأبيضْ
قمِ اشربْ قهوتي، وانهضْ
فإنَّ جنازتي وصلتْ
وروما كالمسدَّسِ
كلُّ أرضِ اللهِ روما…
تحمل القصيدة عنواناً فرعيّاً هو “مرثيَّة لماجد أبو شرار”. ولذلك فإنَّ قراءتنا إيّاها، مرثيَّةً، تغتني باسترجاع كامل الموروث الرِّثائيِّ في الشِّعر العربيِّ من أبيات عبدة بن الطَّبيب في رثاء قيس بن عاصم حتى الوقت الحاضر. ومن الطَّبيعيِّ أن يخاطب الشاعر من يرثيه، ففي أبيات عبدة بن الطَّبيب يقول:
عَلَيكَ سَلامُ اللَهِ قَيسَ بنَ عاصِمٍ وَرَحمَتُهُ ما شاءَ أَن يَتَرَحَّما
تَحِيَّةَ مَن أَلبَستَهُ مِنكَ نِعمَةً إِذا مرَّ عن قربٍ بقبرِكَ سَلَّما
فَما كانَ قَيسٌ هُلكُهُ هُلكُ واحِدٍ وَلَكِنَّهُ بُنيانُ قَومٍ تَهَدَّما
غير أنَّ اتِّجاه هذا الخطاب الى ميتٍ، في الموروث الرِّثائيِّ العربيِّ، يفترض أنَّ الميتَ حيٌّ قادرٌ على استماع الخطاب والرَّدِّ على السَّلام. فتحيَّة محمود درويش “صباحَ الخيرِ يا ماجد” لا تختلف في جوهرها عن تحيَّة عبدة بن الطَّبيب “عليكَ سلامُ اللهِ قيسَ بن عاصمٍ”. ولكن في حين يفترض عبدة بن الطَّبيب حياة قيس بن عاصم ميتاً، يفترض محمود درويش حياةَ ماجد حيّاً. ولذلك فهو يدعوه الى فعل حياةٍ يوميٍّ هو شرب القهوة الصَّباحيَّة، والتَّهيُّؤ لوصول جنازة الشاعر. ولكن كيف تصل جنازة الشاعر؟ لقد أحيا الشاعر جنازةَ المرثيِّ ليفترض بالمقابل وصولَ جنازة الراثي. هنا نرى تبادل أدوارٍ مثيراً. المرثيُّ حيٌّ، والراثي ميتٌ، لأنَّ وصول جنازة الشاعر يعني كونَهُ ميتاً أيضاً. فكيف يرثي الميتُ الحيَّ؟ لا خيارَ لنا إلا أن نتصوَّر أنَّ ماجداً هو الذي يرثي محمود درويش، وليس العكس. ولأنَّه حيٌّ، فإنَّ تحيَّته تؤكِّد على الأبيض الذي يرمز إلى شيئين في وقت واحد. فهو لون الحياة، في مقابل لون الحداد (الأسود) من جهة، وهو مكانٌ إطاريٌّ للفعل المحاصر في مناخ البحر الأبيض المتوسِّط من جهة أخرى. ولأنَّ المرثيَّ حيٌّ، فإنَّ الأفعال التي يقوم بها أفعالٌ في صيغة المستقبل الذي لم يحصلْ بعد (فعلا الأمر اشربْ وانهضْ، وهذا الأخير يشكِّل قافيةً مع: أبيض)، بينما لا يوجد سوى فعلٍ ماضٍ واحد للشاعر (إنَّ جنازتي وصلتْ). ولقد سبق للشاعر أن أورد هذه العبارة بتمامها في قصيدة “عودة الأسير”.
ليسكتْ ها هنا الشُّعراءُ والخُطَباءُ
والشُّرطيُّ والصَّحفيُّ
إنَّ جنازتي وصلتْ
كيف يمكن لميت أن يكلِّم الآخرين، ويخبرَهم بوصول جنازته، إذا لم يكنْ حيّاً، أي اذا لم يكنْ موتُهُ نفسه حياةً أخرى له. في قصيدة “نشيد الى الأخضر”: يكتب محمود درويش:
وأنا أكتبُ شعراً، أي أموتْ
فعل كتابة القصيدة، أو الرِّثاء تحديداً، هو إذاً علامة موت الراثي وليس المرثيِّ. وبما أنَّ المرثيَّ حيٌّ، والراثيَ ميتٌ، شعريّاً، فإنَّ القصيدة لا يكتبُها الراثي بل المرثيُّ. ولهذا تتَّجه أفعال المرثيِّ الى المستقبل، وأفعال الراثي إلى الماضي. الشاعر يرثي الفقيد بشعرِهِ، والفقيد يرثي الشاعر بموتِهِ. وكلاهما حيٌّ / ميتٌ أو ميتٌ / حيٌّ.
لكنَّ موت ماجد حدثٌ فعليٌّ حصل في روما. وسيادة الوظيفة الشِّعريَّة على الوظيفة المرجعيَّة لا يطمس الإحالة، بل يجعلها غامضةً. ولذلك تبدو روما للشاعر بصورة مسدَّس مسدَّد اليه. وما يحصل للشاعر والفقيد يحصل لروما أيضاً، فهي الأخرى ترتفع من وجودها الفعليِّ في صيغة التَّشبيه المحدّد بمكانٍ فعليٍّ على الخارطة (روما كالمسدَّس) الى تجريدٍ مكانيٍّ يعانق الامكنة كلَّها ويتماثلُ معها (كلُّ أرضِ اللهِ روما). وإذ كان المبتدأ في هذه العبارة أليفاً باعتبار وقعِهِ اللُّغويّ والدِّينيِّ القريب “كلُّ أرضِ اللهِ”، فإنَّ الخبر يتناقض معه، “روما” إذ كيف يمكن أن يتماثلَ جزءٌ من الأرض مع الأرض كلِّها؟

 

شارك مع أصدقائك