د. سعد سلوم
حين زرتُ “سنجار” الصيف الماضي والتقيتُ بشخصيات إيزيدية مختلفة، لا سيما من قرية “كوجو”، أخذني شابٌّ ناجٍ في جولة داخل المدرسة التي جرى تجميع سكان القرية فيها، قبل تصنيفهم وإبادتهم من قِبل مقاتلي “داعش”. كان يشير إلى صور عائلته بهدوء، وصورة أُختَيه اللتين قُتِلتَا، وكأنهما تنتميان إلى عالم آخر بعيد عن هذه القرية التي تحولت إلى متحف. بعدها، قادني إلى حقول القتل الجماعي، وأطلعني على المقابر الجماعية التي جرى جمع الرفات المكدس فيها من قِبل فريق الأمم المتحدة، الذي أرسل إلى العاصمة بغداد لأغراض الفحص والتعرف إلى هويات الضحايا، في حين جُهِّزَت قبور للضحايا، ما تزال مفتوحة، وحمَل كلٌّ منها اسم شخص محدد، وذلك بانتظار دفن الجثث فيها بعد التعرف إليها عند نهاية فحص DNA.
أما المحظوظون من الإيزيديين/ات الذين عَلِموا بتقدُّم رايات داعش السُّود باتجاههم، وأُتيحت لهم فرصة الهرب، فقد سلكوا الطريق نحو ملجأ الإيزيديين الوحيد (الجبل). لقد رافقتُ صديقًا إيزيديًّا عبْر طريق إلى جبل “سنجار”، الذي سلكه الإيزيديون/ات هربًا من آلة القتل، تاركين كل ما يملكونه وراءهم. كانت الصور المنشورة عن هذه المسيرة المتجهة إلى الجبال المنعزلة والجرداء، تذكِّرنا بصُوَر المُرحَّلين الأرمن في الدولة العثمانية قبل مائة عام، والذين واجهوا الموت والعطش في صحراء سوريا وبلاد ما بين النهرين. لقد جرى ترحيل الأرمن قبل مائة عام من هضبة الأناضول باتجاه الجنوب الصحراوي المنبسط، لكنَّ الإيزيديِّين هربوا باتجاه الشمال حيث سقفُ السماء العالية.
تطلعتُ إلى الجانب الآخر عبْر الحدود المحاذية لسوريا، حيث تربض مدن أخرى مدمَّرة على نحو يذكِّرنا بالمدن التي اندرست آثارها في الحرب العالمية الثانية، مثل: ستالينغراد وبرلين. كانت حلب في سوريا تشبه سنجار في العراق، خرابها دالٌّ على إبادة المدن، فضلًا عن سكانها. وقبل مائة عام جرى استقبال الأرمن (ضحايا الأمس) عبر هذه الحدود من قِبل الإيزيديين (ضحايا اليوم). وهناك ذكريات لا يمكن محوها عن هذا الفرار والاستقبال الجماعي، وما تزال مغارات في جبل سنجار تحتوي على عظام الإيزيديين المختلطة بعظام الأرمن الفارين إلى الجبال العالية. وحدث أن التقيت صدفة في منزل أحد شيوخ سنجار، إيزيديًّا منحدرًا من تركيا، قدمت عائلته من الأرمن، ونالها ما نالهم من تطهير عرقي وإبادة جماعية.
مِن الشعوب التي تعرضت للإبادة الجماعية في الشرق الأوسط خلال هذا القرن الدموي، الأرمن في تركيا. وقد تعرَّض السريان والكلدان والأشوريون والإيزيديون لإبادة مماثلة، لكن الحجم الديموغرافي الأكبر للضحايا مختص على ما يبدو بالأرمن، حسب ما تشير الأرقام في العراق بعد مائة عام، إلى الاستهداف الشرس والمتعمد للإيزيديين، أكثر من أي أقلية أخرى، على الرغم من أن المسيحيين والمسلمين الشيعة والأقليات الأخرى (مثل المسيحيين والشبك، حتى المسلمين السنة الذين عارضوا تنظيم داعش)، عانوا أيضًا فظائع مروِّعة.
هذه ليست قصتنا وحدنا في الشرق الأوسط؛ إذ النظام الدولي زاخر بجرائم مماثلة، والأوروبيون منذ القرن الخامس عشر إلى التاسع عشر طهروا الأرض من الشعوب الأصلية في أستراليا وأميركا الشمالية. وفي العقد الأول من القرن العشرين، قامت ألمانيا القيصرية بارتكاب الإبادة الجماعية للهيريرو في جنوب غرب أفريقيا. الأنظمة الشمولية مثل النازية الهتلرية والشيوعية الستالينية وماو الصينية، كانت في طليعة الأنظمة الإبادية. بعد نهاية الحرب الباردة أطلت العِرقيات برأسها مع إبادات جديدة، لا سيما بعد فشل الدولة التي ترك غيابها لأمراء الطوائف ومقاولي الهويات، أن يتحولوا إلى زعامات مافيوية تستخدم التطهير العرقي وسائل لتحقيق أهدافها. وقد أثبتت الأحداث الأخيرة بعد اجتياح داعش لسوريا والعراق، وقبْلها في يوغوسلافيا في البوسنة والهرسك عام 1995، وكوسوفو عام 1999، ورواندا عام 1994، ودارفور عام 2003، كيف أن تهديد الإبادة الجماعية ما يزال قضية رئيسة في السياسة العالمية.
أن يكون أكثر من ستين مليون شخص ضحايا الإبادة الجماعية في القرن العشرين وحده، إضافة إلى الخسائر الأخيرة في البوسنة ورواندا، وبمعزل عن ضحايا دارفور وسوريا والعراق، فإن ذلك يستحق منا وقفة لمنع تكرار المأساة. لذا، أعتقد أننا وبعد مرور مائة عام، لا بد -على الأقل- من أن نشجع تدريس الإبادة الجماعية لشعوبنا، وحث الأجيال الجديدة على التعلم من أخطاء الماضي، ورفض أية سياسة لتأويل الاختلافات على نحو يوفر المناخ الملائم لارتكاب الجرائم من قِبَل مقاولي الكراهيات