مامش” مظفّر النوّاب: محمد خضير 

شارك مع أصدقائك

Loading

مامش” مظفّر النوّاب:

محمد خضير

 

في عربيّتنا ما عُدَّ دخيلاً عليها، و ما لهجَت به القبائلُ العربية القديمة، وما عدَّه الفُصحاءُ من “أوهام الخواصّ” الذين ألبسوا مفرداتِهم لبوسَ العَوامّ، أو ما نُحِتَ من كلمات أجنبية بتأثير الترجمة… وغير ذلك من الظاهرات اللغوية؛ التي من دونها لم يُكتب للعربية بقاء مع تزاحم المجال التداولي بالأصيل والمستحدَث، على صعيد الأدب والفكر السياسي والفلسفي.
وفي هذا السياق اللغويّ، كانت للشاعر مظفّر النوّاب مساهمة خاصة، لو دُرِست فيللوجياً، لظهرت فطنتُه الفطرية/ الشعبية التي غلّبت اللسانَ المندثر على أنماط الأدب المأثورة، وما أهملته لغتُنا بسبب غرابة النحت والتصحيف في بنيته الصوتية والكتابية. ومن هذه لفظة “مامش” التي تداولها خطابُ “النوّاب” الشعري كثيراً بمعنى “لا يوجد” أو “غير ممكن”.
كان مظفّر النوّاب كِتاباً كبيراً/ نصّاً شاسعاً اختُصِرَ في كلمة واحدة هي كلمة “المامش” المرادفة لكلمة شائعة أخرى هي “ماكو” بالمعنى ذاته. ولما دخلت اللفظتان النصَّ اللغوي في مواضع كثيرة من قصائد النواب الشعبية، تزحزح معناهما الدارج إلى مرمى بعيد حتى وصل بهما إلى معنى “الرفض والإباء”. غير أنّ الفرق بين اللفظتين_ مامش وماكو_ هو في حرفي الشّين والكاف، فكلاهما حرف مهموس لكن الشّين صوت ليّن وخافت، بينما الكاف شديدة ومفخَّمة. وكان معنى “المامش” أقرب الى طبيعة “النوّاب” وذوقه، لِما ينطوي عليه نصُّه الشّعري من رفض ناعم ومهموس، خاصة في قصائد الحبّ الشعبية التي تمثّله بصدق مبدئي والتصاق وجدانيّ.
ليست “المامِش” وحدها ذات رنين نقيّ، عفويّ، غريبٍ وطالع عن النسق اللهجويّ العام في العراق، فقد حوى قاموس الشاعر (دفتر الجيب الصغير) فيما حواه، من ألفاظ القُرى التي تستوطن الأهوار، أفعالاً أُخَر مثل: ما تمشيش، ما نرضاش، ما أبغيش.. (قبلاً أضيفت الشّين على كاف المخاطبة المؤنّثة في لهجة مضر وربيعة العربيتين وعُرِفت الظاهرة بالكشكشة، مثل: عليكش). وكما تُضاف “الشين” في اللهجة القديمة على الحرف، فإنها تُضاف في أهوارنا على حرف النفي (ما) فتعني الكلمة خلافها. إنّها الكلمة الرقيقة_ الرّوح المُنقادة التي ستصحب الشاعرُ من الأرياف إلى بغداد العاصمة، ويستعملها في شِعره، بينما ضبّاط 1958 العسكريّون، ومؤيّدوهم المدنيّون، يغيّرون سَحنة المدينة الملكيّة_ البرجوازية، بأدوات خشنة، وشعارات جماهيرية هائجة.
ليس هذا فقط، فعادةً ما تُلفَظ “المامِش” ومثيلاتها، في موطنها الريفيّ الأصلي، بنبرتين: رقيقة حدَّ التوسّل، وشديدة كوخزة الرّصاصة؛ لكن اللفظة، على وجهيها، دخلَت قصائد النوّاب الشعبية، كروح غريبة عن زمانها.
ولا تخرج تنهيدة “أفّيش” أو السؤال “ليش” عن هذا السياق اللهجويّ، المتوسِّل أو الزاجِر. وكما تتحوّل الرقبةُ إلى “جِسر” في إحدى قصائد النوّاب، فالشّين الليّنة، المتنهِّدة، تزحف مثل حيّة الماء، من ساق نبتةٍ لساق، ومن مستنقع لآخر. وفيما بعد سيلحظ النوّاب حيّةَ “المامش” تنتقل من ثُقب إلى ثُقب في الحيطان الطينيّة لبيتٍ على الحدود، اختفى فيه الشاعر قبل أن يبدأ هروبَه الطويل.
لكنّ النوّاب لم “يكشكِش” في قصائده على طريقة العرب القدماء، فقد كان يضمِّن مفردات الحبّ الأنثوية أقصى ما يستشعره من قُشعريرة و”كَشّ” للجلود المتماسّة عن قُرب أو بُعد، على طريقته الخاصّة في صياغة ألفاظ الحبّ العذريّ الطالعة على أنساق الشعر الشعبيّ الموروث: “قندون ما ضايك شَكَر”.
لقد تشرّبَ النوّاب، بحسّه الرافض، أغلبَ ما يرِد في قصائد الحبّ، بينما أفردَ في قلبه ما يظنّه مكاناً للرِّقة، لِمن يحبّهم ويناغيهم مناغاة “حمائم البيت”.
ولا أحسَب مظفراً شطً عن سيرة عُشاق العالم الكبار (أراغون، نيرودا، إلوار، ريتسوس، سعدي) فقد كان مثلهم شاعرَ الحبّ الكبير، الناطق عن تلك المرأة الريفيّة المكنّاة ب “قندون الشَّكر”، لكنّه انفردَ بين الشعراء بمفردة “المامِش” النافرة عن طبيعة الرّضا والخنوع، والعصيّة على لسان الرافضين العظام.
(ملاحظة: نحت النواب في الصورة هو للفنان القدير أحمد البحراني)
لا يتوفر وصف للصورة.
All reactions:

You, شوقي كريم حسن, منتهى عمران and 252 others

 

شارك مع أصدقائك