المَقحطة
ابيه بظاك
المغرب
أخذت خيوط بيضاء تلحف زرقة السماء الباردة. خيوط واهنة كخيوط العنكبوت، تتحرك ببطء لأن التردد ما يزال جاثما على مخها.
دفعها الريح لعقد العزم، فحددت وجهتها وأخذت تهرول قاصدة إياها. سألتها عن سبب هجرتها، فلم تجبني، فجابت مخيلتي احتمالات كثيرة: تهاجر لتجد ما يحمل أمشاجا غير التي تحمل بين ثناياها لتتزاوج وإياه، فتنجب غيثا نافعا يهز الأرض اخضرارا، فيكسوها حياة؛ أو تهاجر لتجتمع ببنات جنسها لتنسج وإياها عباءة ثقيلة لتدفئ جسم السماء العاري… ظل ذهني يتقلب بين احتمالات عدة، وما استقر يقيني على أي واحد. تخليت عن ذلك، وسرت أراقبها، فكلما لامست السماء تنحل أساريرها فرحا، وتفيض ابتسامة عريضة على وجهها حتى تظهر نواجدها ككل من لبس جديدا.
عدت أفكر في علة استمرار هجرتها رغم إغراءات الأمكنة التي تمر عليها. طال تحاور الأفكار دون أن أصل إلى جواب، وكل ما وصلت إليه هو أنها ما اجتمعت إلا لأمر عظيم، وما هاجرت إلا لفعل جليل. سرت أقتفيها لأكتشف ما تخبئه عني لأروي بذور فضولي.
في طريقها، تمر على بنات جنسها، وكلما انضمت إليها واحدة تعانقها بالأحضان، ثم تحادثها قليلا، فتذوب الواحدة في الجماعة. أكسبها انضمام أخواتها قوة فهزمت الشمس. أصبحت خيوط الشمس عاجزة عن تمزيق ثوبها المنسوج من رداء الالتحام كأنه عباءة عروس حيكت من وبر الجمال.
آنئذ، طار الغبار رسول المقحطة إلى عنان السماء فاستوقف الغمام، وأخذ يتضرع إليه ليبسط يد رحمته لتمسح خدود مرسلته، ويرسل صبيبه لغسل الحزن الذي التصق بجلدها. استمع الغمام لمناجاة الرسول بإمعان، ثم رد: سمعت كثيرا عن هذه الرقعة فآلمني حالها، ولذلك عبأت إخوتي وشددت الرحال مقتفيا أثر الخبر الذي رج كياني.
أخذ الغبار يعانق السحاب وهو يقول: أرجوك سيدي الغمام، رافع الغم والهم، وباعث الحياة في الأموات والقوة في الضعفاء… أن تنظر إلى سيدتي بعين الرحمة.
أثر توسل المرسول في الغمام، فتبدل لونه وتغير حاله؛ فطرد عن تلك الرقعة الحر الذي أكل غلالها وذهب بزينتها وبهجتها، وصير اخضرارها شحوبا، ونباتها غثاء، وقوتها انكسارا، وابتسامتها تجهما،… وانسابت الدموع من عينيه إشفاقا على حال الرقعة، وحسرة على الأيادي التي تقطف غلالها وتمتنع عن سقيها، بل أكثر من ذلك غيرت مجرى النهر الذي كان يرويها مدعية ألا خير فيها.
أزبد الغمام وأرغد حتى ارتوت المقحطة، ثم أفرغ ما فضل في السد، وأوصاه بالمقحطة سقاء، ثم ساح في الآفاق مرتاح البال، يرقص راسما دوائر الفرح.
لكن أيدي الأعادي امتدت إلى السد، وشربت ماءه، وتركت أحجاره وتستغيث الغمام الذي بعد ما اطمأن على حياة الأرض قطع شهرين عهد.
طال غوث الأحجار، فسمعه الجن والأشجار… عدا المعادي، فلا حياة لمن تنادي.
بعد انتهاء الأمد، اجتمعت السحب وقصدت الرقعة ظانة أنها مرج أخضر على ضفافه يحلو الاحتفال، وإليه من السد يغرد شلال ممتد. وما إن وصلت الرقعة حتى رأت المآل الذي يغيظ الحال ويخيب الآمال، فبادرت بالسؤال: أين ذهب ماؤك يا سد؟ ولماذا نقضت العهد وتركت أبناء المقحطة تموت بعيد الميلاد؟ ألم تعلم أن العقم خير من الوأد، وأن الحزن بعد الفرح حزنان، بل كمد؟!
التزم السد الصمت، فاستفسر الغمام المعنية بالأمر، فحكت له حكاية العبد والسيد، لكنه ما فهم القصد، لأنه ما ذاق يوما طعم التنكيد، وما تذوق غير طعم الحرية. يسيح في الآفاق حيث يشاء فلا أحد يقف له صدا. بسطت الأرض مرتفعات الحكاية، ففهم السحاب أن يدي الجور مستمرة في تنغيص حياة المقحطة، قال لها: طفت كل الأراضي وما رأيت لحالك مثيلا. أكاد أجزم ولن أجزم فقط لأني أكره التشاؤم، كما أنني أحب أن أترك باب الأمل مواربا؛ أن حالك لن يتغير ولو بقيت أمطرك طوال الوقت، لأن تلك الأيادي متحاملة عليك. فالسلب، القحط، والجفاء، ارتسم على جبينك عنوانا، وماؤك سيظل لغيرك ينساب ويدانا.