امتياز لكل العصور
محمد خضير
امتازَ كتّابُ التجريب الروائي العربي بكثافة تعبيرهم اللغويّ المجازيّ، الموارِب لأحداثٍ جِسام وسَمَت النصفَ الأول من القرن العشرين بالحرارة والاندفاع الثوريّ الجريء. كان ذلك التعبير وسيلة أولى لتجاوز الخيبة والانكسار، ونقداً ذاتياّ مبطّناً لانتماء غير مكتمل الأبعاد/ فصامٍ أيديولوجيّ مرير. وكان السوريّ حيدر حيدر في مقدمة من جرّبَ هذا التدفّقَ الحرّ للذات المتكلمة بلا حدود بنيويةٍ تفصل الحدثَ عن تعبيره المجازيّ. وشاركه في هذا التجريب عدد من القصّاصين والروائيبن العرب، أبرزهم: إدوار الخراط ومحمد حافظ رجب ومحمد زفزاف وفاضل العزاوي وعبد الرحمن الربيعي. وكانت مجموعات قصصية مثل (الفيضان) و(حيطان عالية) و(بيوت واطئة) و(مخلوقات فاضل العزاوي) و(السيف والسفينة) قد رسَمَت مساراً مبكراً لإنتاج أعمال سردية_ ذات كثافة لغوية شُعرية، وصور غير مقيَّدة بانعكاس موضوعيّ، شرقيّ الوطن العربي وغربيّه. (وبالطبع فإن حديثنا لا يخصّ الأعمال العربية المكتوبة بلغات اجنبية، وكذلك أعمال الكتّاب المغاربة_ الفرنكفونيّين).
لكن حدوث انقطاعات/ انكسارات قوية في البنية الثورية العربية، دفعَ أولئك المغامرين_ اللغويّين_ للبحث عن وسائل أنجع لتجريبهم الفرديّ الحار والمدمّر للذات الساردة. بحثوا عن بنيات روائية أوسع، تواكب الصدمات التاريخية الكبرى_ هزيمة ٦٧ وما تلاها من سقوط الأنظمة والتنظيمات اللاحقة بها. أوقفَهم الواقعُ الجديد على حدّ من الموازنة بين الحدث التاريخي وتعبيره اللغوي المجازي، فأصبحت “شعرية” الحدث/ الواقع الثوري الجديد تُخماً يتوسط الاندفاعات/ الانكسارات الثورية_ الطفولية_ والصدمات التالية له، بدلاً من الانسحاب الذاتي داخل قواقع اللغة ودهاليزها، والابتعاد عن مركز الصدمات التاريخية؛ وقابلَ ذلك تعبير عن أوضاع خاصة، غاية في الانفراد والانفعال بالواقع، عند كتّاب على الطرف المغاربي_ زفزاف وشكري وإدريس الخوري.
قام الربيعي في روايته (الوشم، ١٩٧٢) بفصد دماء الذات المهزومة، وقاربَ العزّاوي المعتقل في (القلعة الخامسة) ذلك الفصد بنقد الانتماء لتجربة ثورية مجهَضة والخروج نحو فضاء لا يقلّ عنها عنفاً، بتعبيره اللغويّ المضادّ، في العام نفسه. أما الخراط فكانت له نسخته اللغوية التي ارتقى برموزها إلى أنقى تجلياتها/ تضحياتها “الاسكندرانية” في (راما والتنين، ١٩٨٠). وانفرد روائيو المغرب العربي بكتابة التجوال الحرّ في تجارب ذاتية تتسم بالصدق الذاتي والانفعال الوجودي. لكن حيدر حيدر هو الذي مدَّ حبلَ اللغة، ليجرّ قارِبَ التجربة الثورية والفردية الوجودية إلى أبعاد غير مطروقة في (وليمة لأعشاب البحر، ١٩٨٣).
آنذاك، في سنة صدور (الوليمة) كان الحزن الكبير قد كسَرَ عنفوانَ اللغة الجامحة، المتمرّدة على ذاتها السردية، وقمعِ السلطة الأيديولوجية العربية لها؛ لكن حيدر حيدر الممتلئ بإصرار المسافر وراء التخوم البلاغية المبحرة في بحر صاخب بالتوقعات (قمع سلطويّ أكثر، تزييف أكبر للذات، افتعال للاحداث، هروب إلى الماضي) جمعَ ما في قاربه من آمال وشظايا ثورية جريحة وبنى منها عالما “بريئاً” من الازدواج والفصام الثوريّ، وجابه التوقعات والانكسارات المميتة بلغة جريئة. بحثَ في ذاكرات مشتّتة، لمهاجرين/ لاجئين بجرحهم الثوري، وأقامَ “وليمتَه” على التخوم الفاصلة بين مراحل وأمكنةٍ متداخلة في صدق الوقائع وزيفها الأيديولوجيّين. وكانت لغته الأفصحَ_ بين جماعته_ في تعبيرها عن ذلك الاختلاط بين الهويات واجتيازها بحر التوقعات/ الانكسارات الحزينة، وتمركّزها في التجربة الحقّة/ تجربة اللغة الجريحة لا غير.
أصبحت اللغةُ الجارحة بصدقها وعُريها المجازيّ امتيازَ حيدر حيدر الوحيد، في منازلة أخيرة بين التقليد والتجديد الروائيين. صارَ ما قبل لغة حيدر حيدر، غيرَه في المسار الجديد للرواية العربية. غدا البنيان اللغوي_ كما جرّبه وطوّره حيدر حيدر_ وحده الذي لم يُهزم في ليل الذئاب.