وديع سعادة شاعر يتموج حراً.. حاورته: ميراي سابا

شارك مع أصدقائك

Loading

وديع سعادة شاعر يتموج

في سعيه للارتقاء نحو التحرر

حاورته: ميراي سابا

 في السادس من تموز عام 1948 ولد الشاعر وديع سعادة في رحاب بلدة شبطين.

شغف منذ صغره بالمطالعة والكتابة ورأى فيهما لذة غير السعي وراء كسب المال والجاه.

قضى حياته المثقلة بالعطاء متنقلاً في كبريات المدن كباريس وأثينا ولندن وسيدني. وفي كل مرة كان يظن أنه اقترب من مرحلة الاستقرار، يعود حنين الوطن في أعماقه ليتمرد ويثور، وإذا به يبدأ من جديد، من نقطة الصفر.

عمل في العديد من الصحف في لبنان وخارجه، منها “النهار” و”الأسبوع العربي” و”الأنوار” ( لبنان )، “الدستور” ( لندن )، “النهار العربي والدولي” ( باريس، لبنان )، “الموقف العربي” ( قبرص ). في سفرياته، كان دوماً يبحث عن الوطن… وفي الوطن كان يبحث عن المكان، مكانه… الذي اكتشف أنه هو وحده ما كان يبحث عنه في ترحاله الدائم. وأدرك أن المكان ليس في الخارج بل في ذاته، وهو يتبعه أينما ذهب، وأينما كان…

ولا تلبث الحقيقة أن تثبت أن الوطن ضرب من العاطفة تبقى العودة إليه واردة رغم العذاب والأشواك. فالعاطفة مرض يعرف كيف يغزل من براثن الألم أملاً، ومن غياهب الوهم واقعاً. ويكون الحل في العقل والمنطق، فهما اللذان يجب اعتمادهما لاختيار الإقامة في صميم المكان.

وديع سعادة الإنسان والشاعر والصحافي رهن حياته لهدف سامٍ هو كتابة الشعر، تاركاً على الأرض بصماته الخالدة لعالم ذاق ماءه وظلّ ارتواؤه منه سراباً.

 

* ال”لا” عند التقليديين هي ال”نعم” عند الحداثيين وما بعد الحداثيين. فما هو الجديد بعد ذلك؟

– ال”نعم” هي في صلب جوهر الحداثة، وكانت الدافع الأساسي والمبدأ الأول للحداثة في الشعر. الحداثيون الأول لو لم يقولوا “نعم” لِما كان غيرهم يقول له “لا” لما كانت الحداثة. “نعم” لما كان يعتبر ممنوعاً أو غير جائز أو غير لائق. و”نعم” للتغيير وللتجاوز. و”نعم” للحلم والخيال والتخيل. و”نعم” لما هو غير عقلي وغير منطقي وغير واقعي في المفهوم السائد. و”نعم” لاكتشاف المكامن العميقة غير المحدودة بعقل… مع “لا” لا تجاوز ولا تغيير. ومع “لا” لا حرية، حتى ولا حياة. الحرية والحياة أن نقول “نعم” لا أن نقول “لا”. ال”لا” هي الحاجز. معها لا يكون تقدم لا في العلم ولا في الأدب ولا في أي مجال. لا اعتراف بحواجز، هذا هو مبدأ الشعر كما هو مبدأ العلم. فالشعراء مكتشفون أيضاً ومخترعون: أما التقليديون فيبقون في أمكنة أسلافهم. إنني أحترم السلف، لكنني لا أحب أن أتجمد فيه وأكون صورة طبق الأصل عنه. أما ما بعد الحداثيين، فالجديد حتماً سيأتي ما دام هنالك من يقول “نعم” للجديد.

* إذاً أنت لا تعتبر أن هنالك أوصياء على الشعر؟

– طبعاً لا أوصياء. هذه بدعة اخترعها البعض للحفاظ على “عرشه” وهو حر في تنصيب نفسه وصياً أو وليّ أمر، لكن شرط الوصاية وجود قاصرين أو خاضعين.

ربما الشعراء يكتبون ليتبرأوا من الوصاية المفترضة عليهم. يكتبون لإحياء الأحلام، فكيف يقبلون بالوصاية على أحلامهم؟

* كيف تحدد المرحلة الشعرية التي بدأت في مطلع الخمسينات وتطورت حتى يومنا هذا من خلال كونك أحد أبرز شعراء هذه المرحلة؟

– قد أكون شاعراً لكني لست أحد أبرز شعراء هذه المرحلة. ولا أقول هذا تواضعاً بل لأني أشعر في العمق بأني لم أقل شيئاً مهماً في شعري. أعتقد أن مرحلة شعرية جديدة بدأت منذ الستينات، مع عدد من شعراء مجلة “شعر” التي حملت هم الحداثة منذ صدورها في الخمسينات، إلا أن جديدهم الشعري برز بعد ذلك التاريخ، أي في الستينات، مع صدور مجموعات لهم من بينها “لن” لأنسي الحاج و”حزن في ضوء القمر” لمحمد الماغوط.

هؤلاء الشعراء كان همهم التجديد بعد مئات السنين على سيادة نمط واحد من الشعر، هو الشعر العمودي. بدأوا بكسر حاجز الوزن والقافية، بكسر العمود الشعري الكلاسيكي. وفيما حاول البعض تجاوز الثورة على الشكل إلى الثورة على المضمون، اكتفى بعضهم بالثورة الشكلية، وبقي هنالك شرخ بين الشكل والمضمون لم يتجاوزه إلا القلة.

بعد مجلة “شعر” حمل الجيل اللاحق هم الحداثة وتجاوز مسألة الشكل والمضمون وصارت القصيدة وحدة متكاملة بشكلها ومضمونها. وتبلورت حركة الحداثة في لبنان مع تفاعل هذا الجيل، أكثر، مع الشعر العالمي المعاصر، وظهر في الثمانينات شعراء لهم صوتهم وحضورهم المميزان، ومكانتهم المرموقة في الشعر العربي، وفي الشعر العالمي لو تُرجموا إلى لغات عالمية.

أحب أن أشير هنا إلى أن أسماء الشعراء اللبنانيين والعرب الحديثين لا تزال مغمورة. فعربياً، مرت بيروت، عاصمة الثقافة العربية، بسبعة عشر عاماً من الحروب غيبت كل الأسماء ما عدا أسماء جنرالات الحروب. وعالمياً، لا تزال اللغة هي الحاجز لوصول هؤلاء إلى العالمية.

* هل الشعر في أزمة؟ وهل فشل الشعر في العالم، ولماذا؟

– الشعر ليس في أزمة، العالم في أزمة. ما دام هنالك إنسان يحلم فهنالك شعر. لكن حين يتوقف الحلم يتوقف الشعر. الشعر لم يفشل. الإنسان فشل أمام حلمه. وأرى أن الشعراء، ولو هزمهم الواقع، يبقون منتصرين في الروح.

أي عبء سيكون هذا العالم لو ماتت فيه أحلامنا؟ أي عبء لو مات الشعر؟

* لماذا فُقد هذا الخيط من الثقة بين الشاعر والناس ووُجد عامل الإحباط؟ وهل تعتقد أن الشعر الحديث منقطع عن الناس أو في دور التسلط أو قريب منه؟

– إذا كان هذا الخيط فُقد فعلاً فهذه ليست مشكلة الشعراء بل مشكلة الناس. الشعراء ليسوا مهرجين فوق حبال أو خطباء ليكون بينهم وبين الناس خيط دائم وينالوا التصفيق. الذين يحلمون هم مع الشعراء. والذين يرغبون في تجاوز اليومي العادي إلى الأسمى والأعمق هم مع الشعراء. والشعراء لا يطلبون أكثر من هذا. الخيط بين الشعر والناس لم ينقطع. إنه موصول في الروح، في الروح الكبيرة. والمتسلط ليس الشاعر غير الجماهيري بل ربما هو الذي يطلب من الجماهير أن تكون تحت سلطة الإصغاء إليه.

* هل الكتابة خيانة؟

– بل أظن أنها محاولة صادقة لتحقيق الذات. الشعراء الحقيقيون لم يكونوا يوماً خائنين، لا للكتابة ولا لذواتهم ولا للآخرين. وأكثر من هذا، إنهم ضحايا إخلاصهم. قد تكون الكتابة مثل السير ليلاً وراء وهم، ولكن ليس وراء خيانة. وراء شوق، وراء خيال، وراء حب، وراء مستحيل، ولكن ليس وراء خيانة. على الكتّاب أن يتوقفوا فوراً عن الكتابة حين يشعرون بأنهم يخونون كلماتهم. فخيانة الكلمة هي خيانة الروح.

* أصبحت كتابة الشعر لديك عادة، ومن العادات ما قتل. هل ما زال الشعور نفسه، بالأحرى الدهشة نفسها – وهنا الدهشة في إنجاز فكري – تصيبك عندما تنتهي من كتابة قصيدة؟

– عظماء هم الشعراء الذين يظلون أطفالاً. المندهشون أمام الأشياء كأنهم ولدوا الآن للتو. أما أنا فأشعر أني صرت عجوزاً. لكن تلوّح لي أحياناً مناديل اندهاش، كأن يد الدهشة الأولى تريد، بعد، استقبالي. إلى تلك اليد أكتب، ووراءها أسعى. ربما الشعراء يكتبون لسبب واحد: كي يستعيدوا طفولتهم. ليس صحيحاً أن الشعر صار عادة لديّ، كما تقولين. لا لأني مقلّ جداً فحسب، وتمضي أحياناً خمس سنوات من دون أن أكتب أية قصيدة، بل أيضاً لأن الكتابة في جوهرها نقيض العادات، وحين تكتبين فلتقتلي العادة لا لتحييها. حين تصير الكتابة عادة لديّ، سأتوقف.

* ثمة حساسية زائدة بين المثقفين ضد بعضهم بعضاً في كل حضارة وكل بلد. هل تعتقد أن الثقافة هي عبودية وليست تحريراً ذاتياً؟

– الحساسية التي تتحدثين عنها ربما هي موجودة بين صغار المثقفين، ولكن ليس بين كبارهم. فالثقافة قبل أن تكون تحصيلاً علمياً أو ممارسة كتابية هي أسلوب تفاهم وحوار وأسلوب حياة. بديهي أن الثقافة تحرر. الحرية مبررها.

* ولكن كيف تفسر الحرية؟ وهل هي موجودة في عالمنا؟

– إن لم تكن الحرية موجودة في عالمنا فهي موجودة في أحلامنا. من هنا سمو الحلم الذي تحدثت عنه في جواب سابق، ومن هنا الحاجة الروحية لأن ندور في فلك الأحلام. ربما الشعر، في هذا المعنى، هو الأقرب إلى التحرر. ففي الشعر بذرة الحرية.

* مشكلتنا مع الأسف تكمن في عقائدنا وإيديولوجيتنا وهي في تحطيم كل تطور يهدف إلى الحرية من أجل حياة جديدة. ألهذا نظل متخلفين في عالم أدنى من العالم الثالث؟

– الأحرار في العالم هم الحالمون الكبار، وكل مجتمع يقمع الأحلام يقمع التطور والحرية الهادفة إلى حياة جديدة. لكني لا أعتقد أن العالم الثالث وحده عليه أن يبحث عن حياة جديدة بل العالم “الأول” أيضاً. دائماً هناك حياة جديدة تنتظرنا أينما كنا، ويجب أن نسعى إليها.

لذلك لا أحب التقاليد ولا العقائد والإيديولوجيات لأنها تضعنا في عالم متجمد. من يريد أن يصل عليه أن يمشي لا أن يبقى في مكانه.

* من الصعوبة القضاء على الشعر الحديث رغم بعض المواقف العدائية له. فهل هو يدمر التراث كما يعتقد البعض أم يحييه ويشكل استمرارية له؟

– الشعر الحديث لا يتنكر لأسلافه، لكنه يرفض أن يتجمد فيهم. بل هو يحترم أسلافه ويقدرهم ولو واجهوه بالعداء. الشعر الحديث ليس عدو أحد، لكن الآخرين هم نصبوا أنفسهم أعداء له.

ليس في الثقافات حركة انبثقت من عدم، إنما الحركات الثقافية سلسلة متواصلة، كل حركة منها تتواصل مع ما قبلها وتتجاوزها في الوقت نفسه. التاريخ لا يقبل الجمود. والتجاوز هو من مبدأ التاريخ. لكن هذا التجاوز لا يعني الحط من قيمة السلف، ولا يستدعي في المقابل أن ينصب له السلف العداء.

لا أعرف لماذا كل هذه الضجة بين حركة الشعر الحديث وما سبقها، ولا أجد أي مبرر للمعارك بينهما، وفي رأيي إن كل من يمارس عداء ضد حركة ثقافية جديدة يكون في غفل عن حركة التاريخ.

* المرأة كانت وما زالت تحمل هموم اليوميات، ربما أكثر من الرجل، لأن لا أحد يعرف ما تعانيه. كيف تصور هذه المعاناة وتدافع عن المرأة الشرقية، علماً أنها أصبحت قادرة على الدفاع عن نفسها؟

– لا تحمل المرأة الشرقية هموم اليوميات فحسب، بل أيضاً همّ تحقيق الذات وهمّ المصير.

بالنسبة إليّ، لا فارق بين الرجل والمرأة، أو بين الرجل والرجل والمرأة والمرأة إلا بمقدار ما يقدمه الواحد للآخر من حب. حين نحب الآخر لا نكون ندافع عنه فحسب بل نكون ندافع عن أنفسنا أيضاً، عن الروح فينا بل عن أجسادنا كذلك.

وفي رأيي، كل علاقة بين فرد وفرد، أو بين مجتمع وفرد، يحددها الحب. فإن كبر هذا الحب كانت العلاقة سوية، وإن صغر كان العكس. والعلاقة بين المجتمع الشرقي والمرأة، أي بين الرجل والمرأة الشرقيين، يحددها الأمر نفسه.

* الشاعر مجموعة من الأحاسيس المتناقضة والتناقضات الحسية. هل الشعر لديك حقيقة؟ معاناة؟ أم وهم؟

– إنه الثلاثة معاً.

* ماهي فلسفتك، وكيف تمارسها؟

– لا أحد لديه فلسفة واحدة يمارسها من دون غيرها في تعامله مع الناس والأشياء. الإنسان، شاعراً كان أو غير شاعر، هو في العمق مجموعة من التناقضات.

* في كتابك الأخير “بسبب غيمة على الأرجح” نجد قراءة جديدة للشعر تغذي الأدب بطاقة جديدة. هل تعتقد أن التنوع أو التغيير هدف ضروري وأساسي؟

– بصراحة، لا أعرف التحدث عن شعري، ولا أحب أيضاً. هذا هو عمل الناقد أكثر مما هو عمل الشاعر. وللنقاد وجهات نظر مختلفة. لذلك، حين أصدر كتاباً، أقرأ وجهات النظر هذه وآخذها كلها في الاعتبار.

 

 

*-صحيفة “البيرق” اللبنانية الصادرة في سيدني / أستراليا، في 17/7/1993

 

 

شارك مع أصدقائك