حوار مع الشاعر وديع سعادة …حاورته: علوية صبح

شارك مع أصدقائك

Loading

 

رفيقته إلى القلق ابتسامة ساخرة… ويحاول المحافظة على الهدوء

وديع سعادة: المرأة لحظة جميلة هاربة من الساعات

 *-حاورته: علوية صبح

 

الشاعر وديع سعادة هادئ وقلق في آن. في شعره مرارة تصل إلى حد الابتسامة الساخرة. متمرد حتى حدود العبث. شعره أليف حتى حدود الغرابة. قصائده عنوان لشعر يصطدم و”يخرمش” ويكسّر بأشياء العالم، كي لا يلسع اللغة ولا يلسع الشعر، بل لكي يجعله شاهداً على أزمنة أغراب وشاهداً على دمعة خفية تسيل من كلمات مجروحة بالعالم، وجارحة للغة.

أطل بمجموعة شعرية صدرت مؤخراً، حاملة عنوان “رجل في هواء مستعمل يقعد ويفكر في الحيوانات”. وكان صدر له سابقاً: “ليس للمساء إخوة” (1981)، “المياه المياه” (1983)، “قبض ريح” (1983). لماذا يقعد الشاعر سعادة ويفكر في الحيوانات؟ بل لماذا قعد أساساً؟ ولماذا وبماذا يفكر؟ … أسئلة وأسئلة جعلتنا نقعد ونسأله فكان حوار على النحو الآتي:

* عنوان المجموعة يشير إلى حالة الانسحاق المرافقة لمعنى الحياة، حين يصل الجدار إلى شرفة القلب الداخلية. ماذا تريد أن تقول عن القعود والتأمل والتفكير في الحيوانات؟

– الشعر والحياة لا يفترقان، يسيران مكشوفين، أو واحدهما في ظل الآخر، لكنهما لا ينفصلان أبداً، على الأقل بالنسبة إلي. لذلك، وأنا أتحدث الآن عن شعري، أتحدث عن حياتي، وحين أتحدث عن حياتي أكون أتحدث عن شعري أيضاً. لأني لا أستطيع أن أسدل بينهما ستارة، ولو حاولت.

أريد أن أشير أولاً إلى أني لست يائساً، والجدار الذي وصل إلى شرفة قلبي الداخلية لا يمنعني من الرؤية والاستمتاع بها أيضاً، مهما كانت الأشياء التي أراها سوداء، أو بيضاء أو ملونة.

أنا أعرف أنني لا أزال حياً، ولي بعد بضعة أيام أو بضع سنوات أمضيها في هذه الحياة، وأريد أن أكون فيها سعيداً على قدر استطاعتي، وبمختلف السبل المتاحة لي. لن أوفر سبيلاً إلا وسأسلكه إلى هذه السعادة التي أعرف أنها ستكون ضئيلة حتماً – وقد لا تُرى لضآلتها – لكني سأطاردها حتى النهاية.

الانسحاق ليس طريقاً إلى هذا المكان. بالعكس، أجد في شعري مكابرة عليه وسخرية منه. هذه المكابرة وهذه السخرية واضحتان تماماً. وواضحة أيضاً ممانعتي سلوك طريق الانسحاق إذا كانت هي ستؤدي إلى ما أسميته بالسعادة الضئيلة. بل أجد أن شعري هو فاعل الانسحاق وليس موضوعه. إني أخرّب أشياء كثيرة وأنا أكتب قصيدتي، فتأتي قصيدة مدمِّرة لا مدمَّرة وساحقة لا مسحوقة. وهذا فعل يمنحني بعض السعادة. إذا كنت لا أؤمن بجدوى الوصول إلى شيء مهم من خلال هذا الفعل التدميري، فإني أؤمن بجدوى الفعل نفسه، وبأن غايته إنما تكمن فيه وليس في ما بعده. إنه يحمل غايته في ذاته، وبريق انفجاره السريع يحمل بهجة لا توصف.

هذا، ربما، القعود الذي أقصده: الانفجار في مكانه، وفي لحظته الوحيدة، والسكون الذي يتم في اللحظة نفسها، لكنه السكون الذي يأتي أيضاً مليئاً بالشظايا، وبفتات عالم كان متماسكاً ومنظماً قبل ثانية، وقد عاد الآن إلى حالته المفككة الأولى، وإلى حالته الحيوانية.

* هل هو المنفى في المكان، وفي الالتباسات الأخرى والتأويلات المتنوعة للعالم وأشكال تظهيره؟

– الوصول إلى المنفى هو الوصول إلى قلب العالم. المنفى هو قلب العالم، نقطة ارتكازه، نواة ذرته. وأعتقد أن “رجل في هواء مستعمل” كتب من هذا المكان، حيث كل شيء هو في المنفى أو يقود إليه. وحيث أشياء الحياة هي المواد التي بني منها هذا المنفى، بغرفه وأساسه وشرفته التي تطل على الفراغ.

المنفى، بهذا المعنى، هو كل شيء: الذات والآخرون، الداخل والخارج. فهو ليس العزلة القسرية أو الاختيارية، بل الوجود وسط العالم. وسط الناس والأشياء. وفي ضجيجهم وصخبهم واندفاعهم الأبدي إلى لامكان آخر غير المكان الذي هم فيه.

وبهذا المعنى أيضاً، فإن شعري ليس شعراً خاصاً، ذاتياً، منعزلاً، بل هو شعر عام، شعر هذا المنفى الذي يوجد فيه الجميع. لأن كل واحد منا ليس موجوداً إلا في منفاه.

* تبدو متمرداً، قلقاُ، عصبي المزاج، وعابثاً أيضاً… لماذا؟ وما الذي يشعرك بهذا القدر من الضجر واللامبالاة؟

– أظن أن اللامبالاة هي المقلب الثاني الذي توصل إليه المبالاة الشديدة. كما أعتقد أن الحياة ليست سوى هذا المقلب. إنها اللامبالاة، أو هي على الأقل تطلب منا أن نكون لامبالين كي نعيشها. غير أنني أشعر بالفعل أن استحالة عيش اللامبالاة هي التي دفعتني إلى القلق والتمرد. ولكني أحاول باستمرار أن أبقى محافظاً على هدوئي، وأن يكون رفيقي إلى هذا القلق ابتسامة ساخرة. وربما العبوس الذي تتكلمين عنه ليس سوى حيلة تشجعني على المضي في تقبل الخيبات، كمن يعيش ليوهم نفسه بأنه يتمتع بثقة المنتصرين.

جمال المرأة

* أين المرأة في شعرك؟

– المرأة، في العالم وفي شعري، تحمل اللحظة الجميلة الهاربة من الساعات. وهذه اللحظة، كما أفهمها، هي لحظة فعلية، لحظة فعل، بعيداً عن المعنى الأفلاطوني المجرد ووجه الملاك الذي يبقى جميلاً ما دام بعيد المنال. المرأة الجميلة في رأيي هي المرأة القريبة. إنها تكتسب جمالها من قربها إلى الرجل كما يكتسب الرجل جماله من قربه إلى المرأة.

وفي شعري، المرأة تؤدي دورها الطبيعي الذي هو فعل الحب، كما هو دور الرجل أيضاً.

* هل يمكن للمرأة أن تأخذ الشعر أو أن تكونه؟

– المرأة فعلٌ شعري. وأظن أن الرجل فعل شعري أيضاً. وقد يكونان الفعلين النقيضين للشعر.

كل شيء يمكن أن يأخذ الشعر أو أن يكونه، ولكن يمكن ألا يذهب الشعر إليه. الكتابة ليست عملاً منزوياً منفصلاً عن أي شيء آخر، وفي الوقت نفسه، ومثل كل شيء آخر، قائمة في ذاتها. تستطيعين أن تلمسيها وتقبضي عليها أو أن تكونيها للحظة، ولكن لا أحد يستطيع أن يتلبسها للأبد.

الشعراء الصعاليك

* أتعتقد أن على هامش الحرب شعراء أشبه بصعاليك العصر الجاهلي والعصر القبلي الحديث؟

– أعجبني وصفك هذا: العصر القبلي الحديث. لكني أعتقد أن كل عصر يحمل قبليته بطريقة أو بأخرى، ويحمل حربه، ومعداته القاتلة، وشعراءه الصعاليك، وهامشه المحفور في وسط صفحاته.

إني أحترم شعراء العصر الجاهلي الصعاليك أكثر من احترامي لفطاحله. وإذا كان لهذا العصر صعاليكه فإني أحترمهم أيضاً بالمقدار نفسه. وأعتقد أن كل كاتب يمارس نوعاً من الصعلكة، مع اعترافي أن في المساحة الفسيحة للكتابة بقعة مزيتة ينزلق فيها من يعبر عليها، وتصبح شبه مستحيلة قيامته من جديد.

* الفكاهة السوداء ملازمة للكتابة عندك، وكأنها الشرط الضروري لاحتمال وطأة الحياة واحتمال وطأة الشعر، ماذا تقول؟

– يبدو لي أحياناً أن كل شيء مضحك: العمل، السعي وراء هدف، الفضيلة، الأرض، العائلة، الإنسان، الحدائق…

الموت والحياة كلاهما مضحك ومضجر. ولكن لا بد للمرء من انتظار الموت، وخلال هذا الانتظار الطويل ماذا يفعل؟ أنا أتسلى بلعبة بدائية هي السخرية، أو الفكاهة السوداء كما يسمونها. لكني أعرف أيضاً أن هذه السخرية سلاح يصيب صاحبه أيضاً. أنا لست مؤمناً بالخلاص، لا قبل الموت ولا بعده. أجد الأمر مزحة سمجة لا أستطيع تقبلها. إنني ببساطة أرى نفسي موجوداً في هذا العالم الذي لا يخصني ولا أخصه. ولا أرى شيئاً قبله ولا بعده. وأجد الكلام عن سعادته هو في الحقيقة كلام عن عدم سعادته، والكلام عن محبته هو عن عدم المحبة، والحديث عن إمكان الخلاص يعني عدم وجود الخلاص…

إنني موجود في نقصان العالم، ومؤمن بأنه لن يكتمل.

* تبدو في هذا الزمن وكأنك تلجأ إلى الحميميات أحياناً ومخاطبة الأصدقاء، هل لأن هذا الزمن يشهد اختفاء الزمن العام، والعودة إلى الزمن الخاص؟

– كل زمن هو زمن خاص. الزمن العام لا وجود له. والقضايا الكبرى في مجملها ليست سوى مجموعة قضايا صغيرة. قضايا خاصة جداً. أفتخر بأني لا يزال لي بعض الأصدقاء، إن لم أكن مخطئاً، وما يجمعني بهم ليس بالضرورة اتفاقاً، أو رأياً واحداً، أو قلباً واحداً كما يقال، بل هذه القضايا الصغيرة التي صدف أننا نعيشها معاً.

بعض أصدقائي غائب، مسافر، في بلدان بعيدة، وبعضهم هنا ولكن قلما أراه، وبعضهم أراه كل يوم، وبعضهم لا أعرفه، والبعض الآخر من الموتى. لكن هذه القضايا الصغيرة التي نشترك فيها تجعلني مجتمعاً بهم في بعض الأوقات أينما كانوا. فليس صعباً، كما أظن، أن أثرثر قليلاً مع أي واحد منهم، وأراه على الكرسي إلى جانبي، حتى ولو كان بعيداً عني آلاف الأميال، أو ميتاً منذ سنوات.

* كيف تنظر إلى الصداقة بين الشعراء؟

– إنني معجب ببعض الشعر الذي يكتب اليوم وأحترم أصحابه. وعدم إعجابي ببعض الشعر الآخر لا يمنعني من احترام أصحابه أيضاً. لا أعرف كيف ينظر غيري إلى هذا الأمر. لكني أرى أن صداقة شاعر مع شاعر تحمل بعداً وعمقاً قد لا تحملهما صداقة أخرى. أما إذا تحول الأمر إلى المنافسة الشعرية و”المطاحشة” المراتبية، فلا أظن أن أحداً يستطيع أن يلغي أحداً، أو أن يخلده، سواء صادقه أو عاداه.

* كأنك تنعزل عن التجمعات الثقافية إذا صح التعبير، لماذا؟

– التحلق حول تجمع ثقافي أو منهج أو مدرسة لا يجذبني. وليس في علمي أن في لبنان تجمعات ثقافية بهذا المفهوم، إلا في ما ندر. هناك بعض التأثرات، وفي الوقت نفسه اختلاف – أكثر مما هو تقارب – بين متأثر وآخر من المدرسة نفسها، ومجموعة مجاملات وفاقية في الحضور، ومجموعة من التقريظ في الغياب. وإن لم يشمل هذا الأمر غالبية المثقفين فإنه ينسحب على عدد كبير منهم، حتى بات من المتعذر قيام تجمع ثقافي أو حتى حوار صاف وعميق بين معظم المثقفين.

* لو سألتك عن لحظة الكتابة، ماذا تقول؟

– أعترف أنني لا أستطيع تفسيرها، وإحساسي بها يصل مشوهاً إذا انتقل إلى حالة الشرح. ربما تشبه حالة وعد النفس بامرأة، أو اللحظة التي تسبق الإعدام.

الكتابة شيء من هذا النوع يشبه الرعشة والموت معاً.

* أتوافق أن للكاتب أو للشاعر أنانيته وحبه لذاته التي تطغى على كل شيء؟

– أعتقد ذلك. أنا شخصياً تنتابني حالات من هذا النوع وأعتبر أنانيتي وحبي لذاتي عملاً نبيلاً. أجل إني رجل أناني، أحب نفسي، ولذلك لا أريد أن أهملها أو أحتقرها. ولكن من الصعب أن يمارس المرء حقه في حب ذاته، ومن هنا مأساته.

* لو خيرت بين الكتابة أو أشياء أخرى ماذا تختار؟

– ألا أفعل شيئاً. أن أصاب بنسيان كلي لجميع الأعمال. لكن هذا مستحيل. ولا بد من التعويض عنه بنسيانات صغيرة، تأتي سريعة كارتعاشة صافية لا يحملها إليّ سوى الحب والكتابة.

* ماذا تفعل في أيام العزلة هذه؟

– أحتسي القهوة في المقاهي، أو أجلس على شرفتي المطلة على البحر، وأفكر أن ما سيأتي ليس الخلاص، وإنما أيام عزلة أخرى لنها ستكون هذه المرة عزلة مطبقة.

 

*- مجلة “الحسناء” اللبنانية – 21-28/6/1985

 

 

 

 

شارك مع أصدقائك