المحتوى أم المتن .. العقاب وسلطة النوايا
وديع شامخ
….
المثقف وحنجرة الرّعاع
أشعر بأسف عميق على نموذج المثقف والمنتج ، حقيقيّا أم قرقوزاً! حين يتجّه إلى التعامل مع مصطلحات أو لعنات شفاهيّة ، يصدرها الحقل الطارىء على الثقافة والمعرفة والجمال .
مثلما انساق العقل السياسيّ الجمعيّ إلى التسليم بمفردات صفراء مخصوصة لتوصيف المشهد السياسيّ العراقيّ وفقا لقاموس مُقدّد بالنوايا ..
وصار الجمع ، القطيع ، وليس المتلقّي وصاحب الخطاب ، في حالة جدل مثمر ، إلى حنجرة ماثلة لصلوات وأدعية الآخر المهيمن ..
لا أعرف سببا وجيها لفقدان التوازن في الطرح الأكاديميّ والجماليّ الرصين وبين هذا الغثّ المجتمعيّ شعبيّا ورسميّا ، وقوانين الممنوعات على الفكر أم على الهدف ..
يبدو أن الانحدار الخلقيّ للحضارات والشعوب يجعل الخطاب ملوّثاً في عفونة الحاضنة المجتمعيّة نصّا وتلقيّا ونذيراً .
لقد أشرت في مقالات سابقة على أمّعية وتبعية الخطاب إلى مصدرالسلطة والقوة ، وهذه حقيقة قارة لا تستثني مجتمعا دون سواه ، ولكن شروط القبول ليس مثل شروط الحوار في المجتمعات الحرة .
الطرح السياسيّ والسوقيّ معاً ، لا يفترض أن يكونا خطابا تأسيسيّا أولاً ، ولا ينتمي إلى سطوته وهيمنته بوصفه حقيقة قارة ..
وقبل كلّ هذا الهراء في حقل ” المحتوى .. واليوتنبير ، والفاعل الفيسبوكي والناشط العنكوبي ، وجيوش الذباب الإكتروني ….” لغرض صناعة رايٍ عامٍّ يتوافق مع هذا النهج – المحتوى –
مثل كل هذه الهراءات ، الدونيات ، المحتويا ت / المبتكرات ، صارت مدونات ملزمة في خطاب السائرين في ” درب الزّلق “.
كنّا نقرأ ونكتب وهناك علاقة جدليّة وفاعلة بين الطرفين ، وهناك قارىء منتج يحلّل النصوص وفقا لحقل اشتغالها وفق نظريات القراءة والتلقّي ، في كلّ تجلياتها .
في هذا المشهد الملتبس عراقيّاً وعربيّا وعالميّا ـ نشهد ظهور خلطات سحريّة لا تتعدى غرائبيّتها ومكرها وخبثها أقل من حيلة قارئة الفنجان وورق التاروت والمصائر المتقاطعة في بصائر المنجين .
يدفع لنا سلاطين الزمن السائل بديهيات ، ونحن نركّب عليها سداّ منيعاً من المقدمات وصولاً إلى النهايات القصوى/ الوصول إلى منتهى الحق ، وفردوس المآل.
في هذا الجو اليقيني الراكد والآسن ، بكلّ ما ينتجه من آليات ومصطلحات ومفاهيم .. نرى أن بعض النخب تمارس الانتماء لذيليّة كامنة في نشوزها ،و تبتكر رقعة شطرنج وملوكاً .. كي تمرّر هدير المصطلع اليومي وتعتبرته خطّة حياة وهدفا .
يؤسفني أن أرى قطيعاً آخر من المتنوّرين والمثقّفين يسعون إلى حيازة نصيبهم في تعيميم مصطلحات الحقل الرسمي السائد ، ينكرون خطابهم السابق وطرائقهم في النقد ، وينتمون الى هذه المهزلة في تعويم مفهموم ” المحتوى ” !!!
بديلا ًعن الخطاب ، ويجعلون أصاحبهم نجوماً !! جرائم متوالية .
العملة الرديئة وسيادة خطابها
….
وبدلا من رفض سيادة العملة الرديئة ، يذهبون للانتماء إلى قاموس المهادنة ، بين المنتج والمستهلك ، بين القارىء والفاعل المبدع ..
لينتهي إلى نكتة ساذجة ،يكون فيها كأطرشٍ في زفة عارمة .
حين يدخل المثقف المبدع إلى سوق التلقّي الرخيص ، عليه ألّا يشتري أكياساً بلاستيكية ولا وهما أزليا ..
عليه فقط أن يضع عقله كأسئلة في سوق التلقّي .
في العراق الآن هناك هجمة مُنظّمة على العقل في تدجينه وسحق قدرته على الابتكار والسؤال .
العراق وفقا لسعر الصرف الدولاريّ والبشريّ ليسا في ميزان عادل ..
والأكثر قسوة ، أن يذهب العقل إلى التوءمة مع مخرجات السمسرة السياسيّة ..
المحتوى ” ذلك الخطاب الاجتماعي المنفلت ” الذي أخرجه الخراب المجتمعي بكامل هرمه ، الآن يركض المنتج العاقل والسفيه معاً ، للحرب على المحتوى !!!، ولا نعرف ” للانفلات تفسيرا “؟؟
كل هذا يتزامن مع دعوة مريبة من وزراة الداخلية العراقية !! التي تذكرني بحملة خير الله طلفاح ” سيّء الصّيت ” على النساء اللواتي يرتدين موضات زمان الميكرو جوب في سبعينيات القرن العشرين ،و بعدها حملة حفيده الأرعن عدي صدام حسين عن شيوع ظاهرة الفساد وقتل الضحايا بسيوف ” فدائيّي صدام حسين”.
كم تتشابه الطرق للوصول إلى نهاية النافذة الملطّخة بسخام النوايا ؟
وعّاظ سلاطين يحتكمون لنداء ورغاء أسيادهم ,, ليس من أجل العدل والحق والجمال .
فقط لأن مائدة السلاطين و” المحتوى ” دسمين ..
يزعجني جدّا دخول المبدعين في سوق المفاهيم القارّة ، والمصطلحات المربكة من قاموس الحياة السياسة الداعرة .
الآن هناك دعوة من قبل منصّات مأجورة لحملة تطهيرية أخلاقية !!!يقودها ويروج لها إعلاميو الغفلة تناغما مع سياسيّي الصدفة ..
هذه رسالة تأديبية أولا للخطاب الرصين في ان ينحدر لمناقشة فيديوات وآراء نشرت هنا وهناك ، وأنا أعتبرها حرية شخصية ” أو نشوزاً مجتمعيّاً وجد له حاضنة صالحة من العفن للنمو ” ، ولا علاقة لها بقضية المساس بقضية أخلاقية مجتمعية ، لسببٍ بسيط أنها نشرت في صفحة الشخص عبر كلّ وسائل التواصل الاجتماعي ..
وأنا كإعلاميّ هنا ، أعرف أن هناك حق الرد ، فلا معنى لرفض – محتوى- نص من دون مناقشته بشكل جدليّ …
الآن دلق الخطاب الرسمي العراقي ناره وسيوفه على ممارسات اجتماعية دون مناقشة ظروف نموها وهيمنتها على الذائقة العراقية …
فرضوا عقابا ، ولم يقدموا علاجا
لذا جاءت الجموع لتقديم الولاء !!
ومن حملة ” بلّغ ” لوزراة الداخلية ”
اتخم أصحاب المحتوى ” الردىء” وما هو مقياس الرداءة والصحة هنا ، لا نعلم .. ، المناخ بالاعتذار والتوبة، ورفع راية الاستسلام كما عورة ” عمرو بن العاص”
المعضلة ليس في شيوع هكذا نفايات وليس محتويات ، وإنما في منْ روّج لمثل هذه ” المحاكمات ” التعسفية ، لأنّها تمثل بشكل وآخر فخّاً لاصطياد الفكر النوعي في الجهة المقابلة من منتجي الخطاب التنويريّ الحر ، حين يكون بيانهم ضد خطاب السلطة سياسة ونهجاً .
هكذا حملات طائشة غير مدروسة تؤدي الى فوضى مجتمعية ومزاجية و ليست دستورية ، يتم فيها استخدام الاجتهاد في القوانين لغرض تحميلها وجوها تتفق مع مصالحهم في كل مرحلة يحددون فيها نوع المحتوى المضاد .
ثم إن تلك الطبقة السياسية ، أبعد خلق الله التزاما بالأخلاق والمعايير الأخلاقيّة والعدالة المجتمعية ووووو، هم خلاصة شاذة لمجتمع مريض ، يحتاج الى الجميع مصحة نفسية ودراسة اجتماعية مُعمقة .
حملة ” بلّغ ” تحمل في ” محتواها ” السم الامني وليس المصلحة الوطنية والذوق العام …، نابعة من نوايا لا تتعلق إطلاقا بهذه ” الجنجلوتية” المحافظة على الأخلاق العامة والسلم المجتمعي .
…
خلاصة
فن صناعة الأزمة
بعد أن قدمّنا كشفاً ومسحاً لهذه الأزمة المفتعلة وحدسنا بعض نواياها في كونها جزءاً من خطة وسيناريو جاهزين للاجهاز مسبقا على أي ” محتوى ” معارض لخطاب النخب السياسية الحاكمة ، لابد أن نشير إلى سبب مهم جدّا بتصوري ، وهو فن افتعال الأزمات كما كان يمارسها النظام السابق ، فهذه الطغمة السياسية الذيليلة التابعة للسياسة الإيرانية بكل تفاصيلها ، ترى أن فضائح إيران قد فاحت رائحتها ، في تورطها بالسيطرة على المال العراقي ووتوظيفه لسياسات تخريبية في المحيط الإقليمي من العراق ، وسوريا ولبنان واليمن .. المال العراقي المهرب عبر قنوات رسمية ومنها ” منصة البنك المركزي العراقي لبيع العملات، مع منافذ متعددة شرعية وغيرها ،ساهمت في تحويل ثروة العراق إلى إيران لتمويل مخططها
سيما وأنّ البيت الأبيض قد فضح هذا التورّط ، وهذا ما أحرج السياسي العراقي القرقوزي ، لأنه صار بين قطبي الرحى ، وبدلا من المضيّ في سلسلة الإصلاحات والمعالجات والعقوبات بحق المفسدين الذي شهدنا فصلاً ساذجاَ منها في معالجة ومعاقبة سرّاق المال العام ، تفتّق العقل السياسي المأزوم بين الذيلية بقطبيها وبين الاداء الوطني ، فكانت مسرحية أسوأ من سابقتها ، وهي معاقبة ” المحتوى الهابط “!
المحتوى الهابط هو التوصيف الدقيق لمرحلة كان مقدّرلها أن تكون مرحلة التحرّرالديمقراطي بعد الديكتاتورية ، صارت أداة بيد إيران ومن ورائها . لذا لابد من أزمة لمواجهة كل هزة ، واعتقد أن هذه الهزة ستكون قاصمة ولا يمكن أن تحجب شمس الثورة العراقية بغربال النوايا وسلطة المال السياسي .
نحتاج الى تفعيل ثورة تشرين لمواجهة هذا الخراب المنظم .