من يقرأ جدارية فائق حسن
في عام 1959، كان الفن التشكيلي في العراق يشهد تحولًا ملحوظًا، ويُعد فائق حسن من أبرز الوجوه التي ساهمت في إحداث هذا التغيير. أعماله، التي أصبحت جزءًا من هوية الفن العراقي، تمثل نقطة التقاء بين التراث والحداثة، بين الجمالية الشرقية والتأثيرات الغربية. جدارية فائق حسن، التي تعد واحدة من أكثر أعماله شهرة، ليست مجرد عمل فني تقليدي، بل هي مسار درامي يعكس مشاعر وأحداثًا اجتماعية وفكرية مرتبطة بتاريخ العراق الحديث. بمرور الزمن، أصبح العمل يرمز إلى مرحلة تاريخية مهمة في حياة الشعب العراقي، حيث مزج بين الرسم التقليدي والتجريدي في تركيبة فنية معقدة. لم تكن الجدارية مجرد لوحة أو فكرة فنية سطحية، بل كانت وسيلة تعبير عن معاناة الإنسان العراقي وآماله، وحلمًا بمستقبل أفضل. من خلال اللمسات اللونية والحركات التي أبدعها حسن، كان يروي قصة غير مرئية عن الأمل والواقع، عن التقلبات التي عصفت بالعراق في تلك الحقبة. عندما نتأمل في جدارية فائق حسن، ندرك أنها ليست فقط تجسيدًا للمفاهيم الفنية، بل أيضًا لعملية التفكر في مفهوم الهوية الثقافية والفنية. كانت الجدارية بمثابة رسالة عبر الزمن، ليتساءل الناس عن أسئلة وجودية تخص الإنسان والمجتمع والآلام المشتركة التي تربطهم. هذا العمل لم يكن مجرد إبداع فردي، بل جزء من حركة فنية وثقافية أوسع كانت تسعى إلى إعادة بناء الهوية العراقية في سياق معاصر.اليوم، بعد مرور ستة وستين عامًا على وجود هذه الجدارية، تظل تحمل في طياتها رسائل مهمة، ليس فقط بالنسبة للمجتمع العراقي، بل أيضًا للفن التشكيلي العالمي. فحتى في ظل التغيرات التي شهدتها الساحة الفنية والثقافية، لا يزال تأثير فائق حسن وأعماله يتردد، وتستمر جدارية فائق حسن في إلهام الأجيال الجديدة من الفنانين والباحثين. يمكننا النظر إلى هذه الجدارية على أنها ليست مجرد عمل فني معلق على الجدران، بل وثيقة ثقافية تُخلد الروح العراقية المتأرجحة بين عواصف السياسة وإيقاع الحياة اليومية. لقد استطاع فائق حسن أن يخلق حوارًا بصريًا بين الماضي والحاضر، حيث تتداخل الأشكال والألوان لتروي حكايات قد تبدو متباعدة في ظاهرها، لكنها مترابطة في جوهرها. كل خط ولون في الجدارية يفيض بمعانٍ تتجاوز السطح، وتتغلغل في أعماق الروح العراقية، تلك الروح التي تحمل في داخلها مزيجًا من الحزن والفرح، من الثورة والصمت.إن الاحتفاء بستة وستين عامًا على وجود هذه الجدارية، ليس مجرد احتفال بعمر لوحة، بل هو وقفة أمام مرآة تعكس لنا كيف يمكن للفن أن يصبح ذاكرة شعب. فالجدارية تتجاوز الزمن وتستحضر كل ما مر به العراق منذ ولادتها، وكأنها تنبأت بما سيأتي، واحتضنت في صمتها الصارخ أصوات الغد المجهول. من خلال خطوطها الحادة وألوانها الممزوجة بصخب اللحظة، أراد فائق حسن أن يجعل منها سجلاً نابضًا للألم والأمل، للحروب التي استنزفت الأرواح، وللمواسم التي حملت بذور الرجاء. تجسد الجدارية، بكل تفاصيلها، دعوة مفتوحة للتأمل والتفاعل. ليس على مستوى الفن فقط، بل على مستوى الفكرة التي أراد الفنان إيصالها. إنها دعوة للتساؤل عن دور الفن في تشكيل الوعي الجمعي، وعن كيفية الحفاظ على هوية الأمة وسط رياح التغيير. بعد كل هذه العقود، ما زالت الجدارية تقدم نفسها كشاهدة على حيوية الفن التشكيلي في العراق، وكصرخة أبدية في وجه كل محاولات طمس ملامح الإنسان، سواء من خلال الحروب أو التجاهل الثقافي.يبقى العمل الفني الحقيقي خالدًا، لا لأنه صنع في لحظة استثنائية فحسب، بل لأنه قادر على اجتياز حدود تلك اللحظة نحو أفق أكثر شمولًا. وفي حالة جدارية فائق حسن، فقد أثبتت أنها ليست مجرد جزء من تاريخ الفن العراقي، بل هي جزء من نسيج العراق ذاته. ستظل هذه الجدارية، رغم كل التحديات، رمزًا لجمال الفن المقاوم، وحكاية عن ذلك الرجل الذي جعل من الألوان لغة تتحدث بلسان وطنه، حتى بعد مرور ستة وستين عامًا. إن الحديث عن جدارية فائق حسن لا يكتمل إلا باستحضار القصيدة التي كتبها الشاعر الكبير سعدي يوسف تحت تأثير هذه الجدارية، حيث شكلت الكلمات امتدادًا للوحة، لتتحول الجدارية إلى نص بصري وكتابي يتداخل فيه الشعر مع الرسم في وحدة متماسكة. سعدي يوسف، وهو من أبرز الأصوات الشعرية في العراق، استطاع أن يترجم المشهد البصري إلى لغة تحمل نفس الروح التي أرادها فائق حسن، ليخلق تواشجًا عميقًا بين الفن التشكيلي والشعر.في قصيدته، يبدو سعدي يوسف وكأنه يقرأ تفاصيل الجدارية بمنظور إنساني وشاعري، مستخرجًا من الألوان والخطوط قصصًا عن الألم والجمال والبحث المستمر عن الحرية. الكلمات تسير جنبًا إلى جنب مع الخطوط المرسومة، كأنهما حوار داخلي بين مبدعين يتأملان مصير الإنسان العراقي. الجدارية لم تكن فقط مصدر إلهام للشاعر، بل كانت بمثابة مرآة عكست نضالاته وهواجسه، وأيقظت فيه مشاعر تعانقت مع تلك التي رسمها فائق حسن على الجدران. تحت جدارية فائق حسن، يتحول المشهد إلى مساحة زمنية مفتوحة. سعدي يوسف يلتقط اللحظة العراقية المبعثرة بين الخوف والأمل، بين الأرض المثقلة بالوجع والسماء التي تنتظر الانفراج. في نصه، لا يحاول سعدي قراءة الجدارية فقط، بل يعيد رسمها بالكلمات، ليضيف بعدًا جديدًا يجعل منها حالة متجددة، قابلة للتأويل في كل عصر.قصيدة سعدي يوسف تحت هذه الجدارية هي شهادة على قدرة الفن، بكل أشكاله، على أن يصبح وسيلة للتعبير عن الوجدان الجمعي، حيث تتداخل فيها العناصر وتتوحد الأصوات لتكون مرآة صادقة لما يعيشه الناس. فائق حسن، بألوانه وخطوطه، وسعدي يوسف، بكلماته وإيقاعاته، رسما معًا لوحة لا تنفصل، تجسد عراقًا بأطيافه وتناقضاته، ذلك العراق الذي يصر على البقاء حاضرًا، رغم كل شيء. جدارية فائق حسن ليست مجرد لوحة فنية؛ إنها وثيقة حيّة لحياة بغداد في واحدة من أهم مراحل تحولها التاريخي. في عام 1959، كانت بغداد تمور بتغيرات سياسية واجتماعية كبيرة، وكان الشارع العراقي يناضل لإيجاد هويته بين إرثه الثقافي الغني وتطلعاته نحو الحداثة. وسط هذا المخاض العسير، جاءت الجدارية كإبداع بصري يعكس الروح الجمعية للعراقيين، صامدةً على جدارها كشاهد على أحلام المدينة وصراعاتها.الجدارية، بألوانها الصاخبة وتفاصيلها الغنية، تروي حكاية بغداد التي كانت ولا تزال مدينة تعج بالحياة، رغم كل ما مرّ بها من أزمات. الأشكال البشرية في اللوحة تبدو وكأنها تمثل أطياف العراقيين، وجوههم الحزينة وأيديهم المتعبة وأجسادهم المنحنية تحت وطأة الزمن. لكن، بين هذه الملامح، يبرز أيضًا الأمل المخبأ في تفاصيل بسيطة: طفل يبتسم، زهرة تنمو، أو شمس تشق عتمة المشهد. كل ذلك يجعل من الجدارية مرآة لروح بغداد؛ مدينة تأبى الانكسار مهما اشتدت عليها المحن.لم تكن الجدارية مجرد عمل فني يعرض في ساحة أو قاعة، بل أصبحت جزءًا من حياة الناس اليومية. أولئك الذين مروا بجانبها في شوارع بغداد لم يروا فقط لوحة معلقة، بل رأوا انعكاسًا لذاتهم، لمخاوفهم وآمالهم. كانت الجدارية تتحدث إليهم بلغة يفهمونها، بلغة العيش اليومي، بلغة الفن الذي ينبض بالحياة العراقية بكل تناقضاتها. في وقت كان فيه الفن التشكيلي بعيدًا عن الجماهير في أغلب الأحيان، نجح فائق حسن بجعله قريبًا منهم، متاحًا للجميع، يشكل جزءًا من فضائهم المشترك. مع مرور الزمن، تحولت الجدارية إلى رمز ثقافي يعبّر عن هوية بغداد، وهوية العراق بأكمله. كلما نظرت إليها الأجيال الجديدة، أدركت أنها أكثر من مجرد لوحة من الماضي؛ إنها رسالة مستمرة في الحاضر، دعوة للتأمل في كيف يمكن للفن أن يوثق تاريخ الشعوب ويمنحها صوتًا يتجاوز الحروب والخراب. جدارية فائق حسن، رغم مرور ستة وستين عامًا على وجودها، لا تزال تنبض بالحياة، ولا تزال بغداد بحاجة إلى رموز كهذه لتذكّرها بأنها، مهما بلغ بها الألم، مدينة ولادة للأمل والجمال. فائق حسن أعطى لبغداد جدارية ليست فقط رمزًا فنيًا، بل صوتًا خالدًا ينطق بلسان المدينة وشعبها، يتحدث عن الأمس ليخاطب الغد، ويقول لنا جميعًا إن الفن هو الذاكرة التي لا يمكن محوها، والصوت الذي يظل مسموعًا، مهما حاولت العصور أن تطغى عليه.