الحق في الشعر
يقول محمد بنيس إن لعبارة “الحق في الشعر” صوتها الخاص، فهي توسّع معنى “الحق” وتوسّع الرؤية إلى المعنى، وتثقب السور الذي يحاصر الشعر في العقود الأخيرة، لذا يضعها عنواناً لكتابه. الكتاب مجموعة أوراق وخطب قُدمت في مؤتمرات وملتقيات عالمية وعربية، وهي تحتاج غير مرة للنقاش. ولعل الحيوية التي تنطوي عليها، وراهنية الكثير من مواضيعها، تؤهل هذا المطبوع لتصدر الجدل الدائر حول الشعر والثقافة العربية عموما. وبسبب اختلاف تواريخ كتابة المواد ومناسباتها، يستطيع القارئ تلّمس قدرة الكاتب على احتواء الكثير من تناقضات أقواله، ضمن بنية تقوم على الانتقال من موقع الى آخر في ترتيب مواقفه. مقولتان أساسيتان تُشغلان الكتاب، وتتواشجان في مناسبات القول: أولاهما مكانة الشعر في العالم اليوم، وثانيتهما موقع المغرب في خارطته العربية، ويتفرع عنهما إشكالات قصيدة النثر العربية، وهوية الكتابة وعلاقتها بقضايا التثاقف بين الغرب والعرب، وبين المغرب والمشرق العربي. وتتفاوت لغة الكاتب، بين إنشاء وخطب شعرية، وتعقيبات ومجادلات يستعين المؤلف فيها بالوقائع والتواريخ والنصوص التي شهدت على مراحل مختلفة من تاريخ الشعرية العالمية والعربية… يستنفر بنيس قلمه للدفاع عن المكانة التي يكاد يفقدها الشعر في عالم اليوم، وهو في لوعة البحث عن ضرورة الشعر في حياة البشر، يضع الأسباب الاجتماعية والاقتصادية ذريعة لتبدل عوالم لم تعد تقيم كبير وزن للشعر “فمنطق العولمة، النفعي، قائم على هجران الشعر، لأنه لا يرضي الاستهلاك ويتعارض مع الامتياز. وتظل الحرب على الشعر رافعة نفيرها غربياً وعربيا، على السواء، كما لو أن الانتصار لغير الشعر يستلزم بالضرورة الحرب على الشعر. فالشعر لا يعلن حرباً على فن ولا على معرفة، فيما هو يتجاهل الاستهلاك ويتحاشى الامتياز” ولعل هذه الفقرة المقتطعة من مقدمة الكتاب، تضمر اعترافا بتقدم فنون أخرى ومعارف تزدهر على حساب الشعر، تلك الفنون لا يسميها بنيس كي يدع الشعر في موقع لا يقارن مع سواه. وفي الظن ان ضمور التعاطي مع الشعر لا يعني موته، قدر ما يدل على تبدل مواقعه التي احتوتها أجناس مختلفة من فنون التعبير الحديثة، بما فيها الفنون البصَرَيّة. على هذا يحق لنا استدعاء سؤال الزمن الذي يهمله الكاتب في نقاشه، معتبراً الشعر حالة مؤبدة تقف في كل العصور ضمن موقع لا يتغير. وبمقدورنا الاستعانة بمديح الشعر الذي تحفل به نصوصه، كي نمسك بمرثية ملتاعة، تودّع الشعر، ولعل رومانسها المفرط يبدو وكأنه تعازيم لاستحضار ما كانه الشعر في حياة رحلت. يقول بنيس ” ضرورة الشعر هي هذه الحقيقة التي تحتفظ القصيدة بسرها. هي هذه اللمعة المنبثقة في لمح البصر، راحلة فينا وبنا إلى ما لا ينتهي. والمجاهدة التي تتطلبها القصيدة هي أساساً مقاومة يومية لما يعتقلنا من خطابات. لا نافية. من نار تضيء في جسدنا تتكون وتتنفس، والقصيدة منشأها. طريق أخرى تعلن عنها القصيدة حتى تدرك الحقيقة التي لا تخضع لمعيار المنفعة المباشرة، ضداً على مصير بشري بأكمله”..وليس بعيداً عن هذا المعنى يقف الشاعر الذي يملك كل هذه السطوة، كل هذا المجد الذي تملكه القصيدة. بيد ان الطابع الشفاهي لكلمة مرتجلة، تقال في مناسبة يوم الشعر، لا تعني موقفاً، فبنيس يقول “لم يعد واجب الشاعر الإقامة في نبوة جديدة، أو استمرار الاعتقاد في فكرة الرؤيا النبوية التي كانت لشاعر القرن التاسع عشر”. يستبدل الوظيفة القديمة للشاعر بوظيفة جديدة لا تبتعد عنها كثيراً، وهي الحفاظ على الوعد، والوعد يكمن في الإرث اللغوي الذي يؤتمن الشاعر عليه “الشاعر الساهر، اليوم على اللغة، الملتزم بفعل المقاومة، هو الشاعر الذي يختار الإقامة، معزولا، في لغة ميراثه الثقافي، على حدود المهجور، المهدد، غير النافع. تلك هي حركة ما لا يُدركُ في القصيدة، اليوم، فعلاً، به نسعى إلى المحافظة على الأساسي، وجوداً في العالم وضيافةً للآخر. يستبدل بنيس كلمة التثاقف، بالضيافة الثقافية، والضيافة كلمة أنيسة تعني الانفتاح على لغة وأفكار ومعارف الآخر على نحو ودي وصداقي. ومن هذا المدخل يلامس موضوع الهويات، وتجربته الشعرية، مذ تعلم في جامع فاس أبجديات العربية والمعارف لحين التحق بالثقافة العربية، ثم العالمية عبر لغاتها الأساسية. فهو يعد نفسه ابن القاهرة وبيروت وباريس، مثلما يجد موطن ثقافته عابراً عباب المتوسط ألى العالم الأوسع، وتلك السيرة الخصبة تحتاج كتاباً منفردً، كي يدرك القارئ من خلالها، لا حياة بنيس وحدها، بل صورة الثقافة المغربية.. وفي جدل الثقافة العربية المعاصرة، يطرح المؤلف مشكلة قديمة حديثة تدور حول تسمية الأطراف والمركز، باعتبارها القضية التي تحدد العلاقة بين المشرق والمغرب العربي، تلك القضية التي يعود بها المؤلف الى القرون الخمسة الأولى لما بعد الإسلام، حيث بقيت الخطابات المشرقية في مكانها لا تتبدل، وهي تنظر إلى المغرب باعتباره المتلقي لثقافتها، حيث يشعر بنيس “بهذا التوتر النفسي، وهذا التمزّق بين أن تكون عربياً وبين أن تكون مغاربيا”. وبرهانه على خطل هذا الثبات، انتقال المركز الثقافي الشعري القديم منذ شوقي ومطران الى عصر الترجمة، فلم يعد هناك مركز يعود إليه العرب ،كما كان أيام المتنبي وأبي تمام، فباختلاف اللغات المترجمة إلى العربية، تختلف المدارس التي تتمثل انتاجها عربياً. على هذا يرى ان الشعراء المغاربة ظلموا في قراءات المشارقة التي تكرر: لا إبداع ولا شعر في المغرب العربي. المغاربة بحكم معرفتهم باللغات الأخرى الفرنسية والاسبانية والانكليزية، لابد أن يكونوا مصدر التحديث الشعري العربي، وبقي ظن المشارقة قائما إلى اليوم، يدور في نقطة ويعود إليها، وهي ان المغاربة لم يعرفوا العربية، مثلما امتلكوها هم، “ثمة حكم عام سائد لديهم (المشارقة)، يتمثل في كون المغاربيين لم يعرفوا العربية في القديم، ولم يعرفوها في الحديث.”.” ثمة ارتباك في نص بنيس، حول قضية الاعتراف بعربية المغاربة، تترتب عليه اعتبارات تقف خارج الشعر، فلا يجادل مشرقي في تمكّن الأدب المغربي عموما من العربية على نحو يتفوق على المشرق نفسه. هذه حقيقة أولى، والحقيقة الثانية، هي أن الثقافة الغربية والفرنسية تحديداً عندما استوطنت المغرب العربي الكبير ، كان حصاده منها وفيراً دون الجهات العربية الأخرى، فالمثقف المغربي ثنائي اللغة، تتوفر له فرصة اللعب في ميدانين لغويين، وهي ميزة نتجت عنها أفضل الكتابات في تجارب الثقافة العالمية. أما موضوع الشعر بشهادة بنيس نفسه، فلم يكن يحظى في حداثته باهتمام المغاربة أنفسهم “منذ السبعينات، وجدت قصيدتي نفسها وحيدة، في ثقافة مغربية كانت تتوجس من البحث الحر عن ذات في حوار دائم مع الشعر في العالم”. واحتفاء المشارقة بشعر أبي القاسم الشابي إلى يومنا، يبطل حجة بنيس، عدا عن أن شعر بنيس نفسه، وجد اهتماما في كل الأوقات باعتباره ممثل موجة حديثة في الشعر العربي. بيد أن إنجاز المغاربة في الميدان الفكري والنقدي وحتى الروائي، طغى على إنجازهم في ميادين أخرى. النتاج الفكري المغاربي منذ الستينات ومع ظهور ما سمي بالحداثة الثانية في الشعر، استعاد العربية على نحو قارب فيها عصر النهضة الثانية في تمتين اللغة وتحديثها، وتطويع المصطلح الغربي. ولعل أعلمية المغرب العربي بالتراث، التي تبدت في دراساتهم لنصوصه وأفكاره، تُبطل حجة القائل بتصور المشارقة عدم قدرتهم امتلاك العربية. ملعب اللغة لا يقتصر على الشعر، فالشعر ميدان من ميادينها وليس الميدان الوحيد، كما عرفته العرب في السابق. واليتم الذي يستشعره الشعراء المغاربة، ربما ينطبق على الكثير من شعراء العربية المعاصرين، والإقرار بمأزق الشعر، لا يقتضي تصعيد عقدة الاضطهاد. الأرجح أن الدفاع عن الثقافة الوطنية، بأجناسها المنوعة، وفي كل الأوقات، يستدعي خلق أعداء مقيمن في زمن مطلق، ويستدعي استنهاض الذات الجريحة لصد سهام الأشباح القادمة من المجهول.. ومن بين مواضيع الكتاب وقوف بنيس عند مؤتمر قصيدة النثر الذي أقيم ببيروت ، حيث بدا له وكأنه يضع بيروت في زمن لا يعي ما يجري من تطورات في العالم “مؤتمر خارج زمن القصيدة اليوم في العالم، ومعرفة خارج زمن المعرفة بها”. هذا المؤتمر الذي أثار شجون بنيس، وعلى وجه الخصوص، كلمة أنسي الحاج التي عدّها اللبنانيون البيان الثاني لقصيدة النثر بعد مقدمة “لن”، يبحث بنيس في جدواها، عندما يسأل عن مغزى البيان الأول: “فالشاعر العربي في بيروت، ولاحقا خارج بيروت ، لم يكن يؤمن بأن المعرفة العالمة بقصيدة النثر ضرورية” ويرى ان شعراء بيروت وفي مقدمتهم أدونيس وأنسي الحاج لم يفطنوا الى أن قصيدة النثر كانت قد انتهت في باريس نهاية الخمسينات، عندما شرعوا هم بتجريبها، بما رفدتهم مقدمة سوزان برنار في كتابها الصادر في 1959 “قصيدة النثر من بودلير حتى أيامنا”. وبقراءة مطولة لما جاء في كتاب برنار، يرى بنيس أن الشعراء اللبنانيين لم يعرفوا سوى المقدمة، وان ما حاول أن يكتبه أنسي الحاج في مقدمة ديوانه “لن” لم يكن سوى ترجمة سيئة عن شذرات من تلك المقدمة. ويستائف “لم يعد لها “قصيدة النثر” معنى، بعد أنْ بطل معناها في فرنسا نفسها”.. ومن هنا بات الترويج لقصيدة النثر في المنابر الصحافية لا يقف على أرض نظرية صحيحة كما يقول. يشير بنيس قبل نقده لحداثة بيروت أنه قد تعلم الحداثة منها، وتلك على ما يبدو، مجاملة يقتضيها النقد. ولكننا لو عدنا الى كل ما كتب هو، وخاصة كتابه حول الشعر العربي الحديث، فسنجد عناية تتقصى محاولة الشعر العربي الخروج عن متعارفات القصيدة في زمن يبتعد عن زمن الستينيات، ولعل أمين الريحاني، الذي عرّف العرب بوالت ويتمان، وكتب ريحانياته في عشرينيات القرن المنصرم، كان من بين محاولات التمرد الذي سعى الخروج عن تابو الوزن والقافية، قبل أنْ تصدر برنار كتابها. أما شرطه في ضرورة “المعرفية العالمة” للشاعر، فالكثير من التجارب الشعرية في العالم تتجاوزها، وبينها التجربة العربية. وفي الظن أن قصيدة محمد الماغوط التي لم يكن صاحبها على علم بما يصنع، استطاعت أن تكسب جمهوراً لم يكن على ودّ مع هذا النوع من الشعر. وبصرف النظر عن نوع هذه القصيدة وعلاقتها بقصيدة النثر في غير مكان في العالم، فهي أرّخت لزمن إرتبط بمجلة شعر””. لا يختلف اثنان حول أهمية “المعرفة العالمة” لكل من يكتب أدبا، ولكن تلك الحجة التي يلّوح بها بنيس في وجه “شعراء الحداثة البيروتية” تبدو قديمة، وهي مشكلة النقد الذي يعود بنا إلى ما دبجّه العقّاد في حيثيات رفضه لشوقي وسواه من الشعراء. فالتثاقف بين كل اللغات، او استضافة لغة لثقافة لغة أخرى، حسب مصطلح بنيس الجميل، لا يلزم المضّيف شرط التقليد الحرفي، فهناك في مصطلح “تمثّل” ثقافة الآخر استئنافات كثيرة لا يسعها كتاب واحد.